حلاق سنار

بقلم: الدكتور نائِل اليعقوبابي
*(الكل في السودان يحتل غير
مكانه.. المال عند بخيله، والسيف عند
جبانه..).
– على نور ?
شاعر مؤتمر الخريجين
.. الحلاقون معظمهم متهمون بالثرثرة وقص الشعر والسوالف والغرة، لعلهم يريدون من الزبون أن يظل مشدوداً إلى الكرسي وهو في حضرة الحلاق الذي يمسك بين يديه المقص والمشط أو موس الحلاقة، غير إن صديقي وحلاقي (صلاح) هو الاستثناء، فهو صموت، لا يتحدث إلا قليلاً، وإذا ما فعل فحديثه بالغ التركيز لا يشوبه أي ثرثرة.
تعرفت عليه في بداية الثمانينات من القرن الماضي وكان هاوياً للمسرح ضمن فرقة تتوق لتقديم أعمال مسرحية لمؤلفين عالميين، وكان يومها عاملاً في احد صالونات الحلاقة، وحين فتحها الله بوجهه وافتتح صالوناً للحلاقة خاصاً به أعطاه اسم فيغارو ولعل التسمية تلك في مدينة سنار آنذاك كانت أمراً يدعو للتساؤل، ألم اقل أنه مولع بالمسرح وقد عمل به ممثلاً لأكثر من مسرحية عالمية.
فيغارو هو اسم بطل حلاق اشبيليا التي كتبها الفرنسي كارن دي بورماشيه بالإضافة إلى مسرحية أخرى بعنوان زواج فيغارو وحلاق اشبيليا هي أيضاً إحدى أهم الأعمال الموسيقية للموسيقي الإيطالي روسيني، ولهذا السبب كان لا بد لهاوي المسرح حين افتتح صالونه للحلاقة من أن يوالف بين عمله وفنه ولو شكلاً ولا ينسى انه فنان مسرحي وهو يقص رؤوس زبائنه، اقصد شعر رؤوسهم فكان ان أعطى صالونه اسم واحد من الشخصيات المسرحية الشهيرة، تماماً كالمولعين بالثورات الذين يعطون أبناءهم اسم احد الثوريين غيفارا أو لينين أو مانديلا.
وإذا كنت ذكرت إن صديقي وحلاقي صلاح صاحب صالون فيغارو ليس مولعاً بالثرثرة التي تنسب إلى الحلاقين، فهذا لا يعني إنه لا يتكلم أو يتساير مع زبائنه أثناء عمله برؤوسهم، بل إن جعبته مليئة بالحوادث والذكريات، يتباسط بها مع بعض زبائنه الذين لطول عشرته معهم قد نشأ بينه وبينهم نوع من الألفة والصداقة، وبسبب كونه لا يعمل مع زبائنه إلا بالمواعيد المحددة مسبقاً فقد جعل لديه زبائن محددين تدور بينهم وبينه حوارات كالتي تدور في مجالس الأصدقاء.
في إحدى رواياته لي، وكان رأسي بين يديه، أخذ يصف لي واحدة من ذكريات طفولته يوم استقلال السودان عام 1956 حيث اصطحبه والده يومها للفرجة على رفع العلم السوداني فوق القصر، وقد كانت الطرقات جميعها والشوارع المحيطة بالسراي ملأى بالناس وعيونهم شاخصة إلى أعلى القصر.
الوقت كان ظهراً على ما يذكر وفجأة سمع الجميع صوت البوق من أعلى القصر. وكانوا يسمونه الطرمبة، فهدأت الضجة وتركزت العيون جميعها على قمة القصر، ولأنه كان طفلاً صغيراً لا يستطيع أن يرى شيئاً فقد حمله والده على كتفيه ليراقب المشهد بوضوح.
ثلة من الجنود الانجليز وقفت بنظام أمام سارية العلم الانجليزي المنتصب، حين تقدم أحدهم ليمسك بالحبل الرفيع المرتبط بالعلم آخذاً بإنزاله، بعد ذلك اقتربت ثلة آخرى من الجنود السودانيين نحو السارية، وتقدم السيد إسماعيل الأزهري يرافقهم ليبدأ برفع علم الاستقلال في مهابة وإجلال، كان الصمت يرفرف على الحشود المنتشرة في الشوارع حول القصر، وعيونها معلقة على العلم السوداني الذي يرتفع فوق القصر بدلاً من علم الدولة المستعمرة، وحين استقر العلم الوطني في أعلى السارية مرفرفاً بأجنحته في الهواء، انقطع الصمت وانطلقت الهتافات والتصفيق والزغاريد أيضاً من النسوة المحيطات بالقصر مع الرجال والأطفال، ويذكر هذا الطفل في ذاك الزمن إن الاحتفالات الليلية وأضواء المشاعل والألعاب النارية قد ملأت سماء المدينة.
للقصة تتمة عند راويها صديقي الحلاق صلاح، ذلك أن له صديقاً جاءه مرة برفقة والده المسن لأخذ استراحة وهو في طريقه إلى عيادة أحد الأطباء، وارتأى صلاح الحلاق أن يسلي والد صديقه برواية إحدى القصص القديمة، فلا أحب على المسنين من القصص التي تقادمت مع الزمن، فروى الحادثة السالفة، واستفاض في شرحها مفصلاً لحظة ارتفاع العلم السوداني على السارية فوق قصر الشعب.
فجأة لاحظ أن الضيف الوالد المنصت جيداً إلى رواية الحلاق تترقرق عيناه بدمعتين تدحرجتا على خديه، وقبل إن يستوضح عن السبب قال الوالد المسن بصوت متهدج:
يا بني لقد أعدتني إلى أجمل لحظات عمري كله.. هل تعرف من هو الذي رأيته يرفع العلم السوداني فوق القصر؟ إنه أنا، ثم فاضت عيناه بالدموع.
[email][email protected][/email]
يا سيدي لو ان لنا ذاكرة جمعية مركزية لتم هذا الرجل الرمز ولكنه السودان !!!
يا سيدي لو ان لنا ذاكرة جمعية مركزية لتم هذا الرجل الرمز ولكنه السودان !!!
هذا زمان العصر الذهبي لسنار حينما كانت زهرة المدائن قبل ان يعمل فيها احمد عباس معاول الهدم وبيع الاراضي وتهجير اهلها وافقارهم سنار اصبحت جراب وقعد احمد عباس علي تلها
تحية لك الاخ د/ اليعقوبابي
والله ياليت لو افصحت عن اسم هذا الرجل المسن الذي رفع العلم ؟ بسأل : أهو غير الأزهري ؟