الديموقراطية هي الحل لأزمات التنوع

كنت قد كتبت مقالة قبل أسبوعين بعنوان : ( أهمية الديموقراطية في إرساء الوحدة الوطنية ) أردت من خلالها أن أجد مخرجا لأزمة السودان الحالية و التي تهدد وجوده و تسعى إلى تفتيته و تعود به إلى عهد الممالك و السلطنات التي كانت به قبيل الغزو التركي للسودان في عام 1821 , فقد كان السودان حينذاك يطلق على الإقليم الجغرافي الذي يقع جنوب الصحراء الكبرى , كحال إقليمي الشام و البلقان , و لم يكن قطرا محددا , بل كانت تتنازعه مجموعات متعددة تتمثل في مملكة الشايقية و السلطنة الزرقاء ( تحالف الفونج مع العبدلاب ) و مملكة المسبعات و مملكة تقلي و مملكة الفور . لقد كنت قد كتبت عن هذا في مقالة لي قبل أشهر مضت بعنوان : ( ضياع وحدة الهوية بين العبودية و الحلابية ) ذكرت فيها أنه : (( قد صار جليا لكل متبصر في أمور السودان أن ثمة مخطط قد تم حبكه لتفتيت السودان و إعادته إلى عهد دويلاته الأولى , و أن خير من ينفذ هذا المخطط هي حكومة الإنقاذ و هي لا تدري ما أنيط بها , بل ترى في نفسها العكس من ذلك , و كأنها كالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ! )).

منذ تكوينه في عام 1821, لم يعرف السودان معنى للديموقراطية الحقة , فطبيعة تكوينه في عهد الإحتلال التركي المصري كانت تحتم على الغزاة فرض سيطرتهم عنوة على تلك الممالك و السلطنات و إسقاطها ثم تجميعها تحت مظلة حكومة مركزية واحدة تفرض هيمنتها على الجميع . لم يكن للأتراك أن ينجحوا في توحيد و تكوين السودان الذي إستعصى على التوحيد في كل عصوره , لولا إنتباه محمد علي باشا لدور الشايقية الذين كانوا يمثلون القوة الضاربة في السودان قبيل الغزو التركي بعد إضمحلال السلطنة الزرقاء , فكان الشايقية قد بسطوا نفوذهم في شمال و شرق و وسط السودان و دخلوا في حروب عدة مع دويلات السودان الأخرى من أجل توحيدهم . لذلك كان الشايقية هم الوحيدون الذين قاوموا الغزو التركي في موقعة كورتي . من أجل ذلك أشار محمد علي باشا على إبنه إسماعيل قائد الجيش التركي أن يطلب ود الشايقية الذين كانوا قد رفضوا التسليم له بعد موقعة كورتي و نزحوا بجيشهم جنوبا بقيادة الملك شاويش ملك ملوك الشايقية في موقعة كورتي أملا في التحالف مع القبائل الأخرى لصد الجيش الغازي , و لما لم يجد أذنا صاغية إستقر بجيشه و عشيرته في حلفاية الملوك التي كان قد وصلها و تقاسمها مع العبدلاب . هكذا تحالف الشايقية مع الأتراك بعد أن تركوهم قوادا كما كانوا , كي يواصلوا مع الأتراك مساعيهم لتوحيد السودان تحت راية دولة الخلافة الإسلامية . إنني أورد هذا الأمر و قد أجبرني السرد على ذلك ليس تعنصرا رغم أنني من أحفاد الملك شاويش و لكن لدحض آراء المفترين الذين يرمون الشايقية بالعمالة للأتراك , و الحقيقة غير ذلك تماما , لأن في ذلك الحين لم يكن هنالك وطن حتى تكون هنالك عمالة . الحقيقة أن للشايقية يد طولى في تكوين السودان و المحافظة على وجوده موحدا .

لم يكن هنالك تمثيل ديموقراطي للسودنيين في العهد التركي و لا في فترة المهدية و لا في فترة الإستعمار البريطاني للسودان , و كانت أولى محاولات التطبيق الديموقراطي ممثلة في الجمعية التشريعية التي أنشئت في عام 1948 و لكن تم إختيار معظم أعضائها بالتعيين و بذلك فقد كانت مجرد محاكاة للتطبيق العملي للديموقراطية و الذي يؤرخ له بتاريخ الإنتخابات البرلمانية للأحزاب السودانية في عام 1953 و التي بموجبها تكونت أول حكومة وطنية أدت إلى إعلان إستقلال السودان في 1/1/1956 . تلك مرحلة كان كل هم الأحزاب السياسية أن تنهي بها فترة الإستعمار البريطاني . أما بعد عام 1956 فقد عجزت الأحزاب التقليدية الكبرى عن إنجاز أهداف مرحلة ما بعد الإستقلال و فشلت في إنجاح التجربة الديموقراطية و إستمرت في فشلها في كل فترات الحكم الديموقراطي الثلاث و ذلك عن طريق تحبيذ المكاسب الحزبية و الشخصية على المكاسب الوطنية , و إسقاط و تكوين الحكومات عن طريق التحالفات الحزبية , و فرض دكتاتورية مدنية لا تحترم مواد الدستور بل تسعى لتعديلها حتى تكرس واقعا يصب لمصلحتها ! أما في فترات الحكم العسكري الثلاث فقد ظهرت الديموقراطية مع شمولية الأنظمة مسخا موجها يتأرجح بين صفتها الشعبية مع إنعدام النزاهة و الشفافية و بين تقييدها بصراع البقاء و التفرد بالسلطة و الثروة .

الوضع الحالي في السودان بعد أحداث أبي كرشولا قد أعاد السودان إلى مربع الحرب كحل أوحد لإنهاء حالات التمرد التي إستشرت , بل و هناك من دعوا لتطبيق إقتصاد الحرب و الذي يعني بمعنى آخر أن توجه كل موارد الدولة لإدارة الآلة الحربية التي تستحوذ حاليا على 70 % من الميزانية , فكم يراد لها أن تكون ؟ هذا يعني من ناحية أخرى أن الضائقة المعيشية سوف تزداد ضيقا و أن أمل الإنفراج الذي سوف تحدثه عائدات تصدير نفط الجنوب قد ضاع سدى , و بعد ذلك سوف يطل القرار الأممي رقم 2046 و يتم التدويل كما حدث للجنوب ! لقد أيد بعض الكتاب الموالين للنظام الحكومة في سعيها للحل العسكري و بدأوا يشككون في نوايا الجبهة الثورية و يذكرون الناس بأحداث زنجبار و التنكيل بالعرب بها , مع تجاهل حقيقة أننا كشعب سوداني و كعرب و أفارقة قد عشنا سويا و تصاهرنا عبر الف عام و أن العنصرية لم تظهر بوجهها القبيح إلا مؤخرا و بفعل فاعل , و أن الحركات حاملة السلاح كلها مطلبية في برامجها نتيجة لشعورها بالغبن , و أن حرب العصابات هي حرب استنزاف , و حري بنا تطبيق تجربة جنوب أفريقيا التي تغاضت عن ثلاثمائة عام من الفصل و التنكيل العنصري و تجاوزت تبعاته , و أتمنى أن يكون لنا من يماثل نيلسون مانديلا !

إنني أحلم بسودان جديد ( حدادي مدادي ) بحدوده الأولى , شاملا للجنوب الذي انفصل قبل عامين و لأريتريا التي استولى عليها الطليان في عام 1885 في فترة المهدية , و حر ديموقراطي يجد كل مواطن نفسه فيه في ظل دولة المواطنة المفضية إلى الشعور بالهوية و بالأمة السودانية و بالتماسك الإجتماعي . الديموقراطية الحرة هي المدخل و هي الملاذ و هي الحل لأزمات التنوع في السودان .

أخيرا أكرر و أقول : إن الحل لكل مشاكل السودان السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية يكون في العودة إلى مكون السودان القديم و هو التعايش السلمي بين العروبة و الأفريقانية و التمازج بينهما في سبيل تنمية الموارد و العيش سويا دون إكراه أو تعالٍ أو عنصرية . قبل ألف عام كانت في السودان ثلاث ممالك افريقية في قمة التحضر , و طيلة ألف عام توافد المهاجرون العرب إلى الأراضي السودانية ناشرين رسالتهم الإسلامية و متمسكين بأنبل القيم , فكان الإحترام المتبادل هو ديدن التعامل بين العنصرين العربي و الأفريقاني . إن العودة إلى المكون السوداني القديم تتطلب تغييرا جذريا في المفاهيم و في الرؤى المستحدثة و في الوجوه الكالحة التي ملها الناس !

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. لكن انا قريت فى الشرق الاوسط ان نافع قال ان المعارضة تريد الديمقراطية لممارسة السكر والدعارة!!!!
    هسع نصدقك انت ولا نصدق نافع؟؟؟؟؟؟؟؟
    كده لخبطوا لينا راسنا ما انحنا اصلا ناس جهلة واميين وغوغاء ممكن ناس الانقاذ ديل لو قالوا لينا ان الحرية والديمقراطية تعنى الكفر بنصدق ما انحنا اصلا ناس ضان ساكت!!!!!!!!

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..