مقالات سياسية

المثقف السوداني وعكسية العلاقة بين فكره وقيم الجمهورية

طاهر عمر

كثر من بين مثقفي العالم العربي والاسلامي يغالب نفسه ويحاول أن يغالط في في مسألة تحول المفاهيم وكيفية تحرك مسيرة الانسانية وهي تراجيدية ومأساوية بلا قصد ولا معنى ولكن بفضل علماء اجتماع وفلاسفة واقتصاديين ومؤرخيين قد أصبحت هناك إمكانية تحليل الظواهر الاجتماعية وإستنباط ما يساعد على مواجهة مصاعب تقدم البشرية.
كثر من علماء الاجتماع في العالم العربي والاسلامي يؤكدون أن تقدم الفكر في الغرب الاوروبي قد قدم للبشرية ما يساعد على فهم مختصر تاريخ الانسانية . نجد كثر من فلاسفة وعلماء اجتماع في العالم العربي والاسلامي لا يزعجهم أن الحداثة واحدة وأن النور يأتي من الغرب الأوروبي كما يردد داريوش شايغان.
وغيره كثر قد إستفادوا من تاريخ المجتمع الأوروبي وعبر فكرهم حاولوا جاهدين لإيجاد طرق تفتح إنسداد الأفق وكيفية تحديد نقطة الإنطلاق مثلما حاول عالم الاجتماع الفلسطيني هشام شرابي في محاولات لا تقل عن جهود لا يقوم بها إلا مجموعة الفلاسفة والمفكرين وعلماء الاجتماع والاقتصاديين من داخل مراكز بحوث كما رأينا كيف كان دور مدرسة الحوليات الفرنسية. مدرسة الحوليات الفرنسية إحتاجت لثلاثة عقود ويزيد حتى تصل أفكارها الى ساحات الجامعات الفرنسية الكبرى.
وبعدها قد أصبحت أفكارها قاعدة ينطلق منها الفكر في فرنسا ليجسر ما بينه وبقية الدول الأوروبية فيما يتعلق بفكرة المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد وفكرة الضمان الاجتماعي ومسالة معادلة الحرية والعدالة ونجد ثمارها في وصول الحزب الاشتراكي أي قد وصل لمستوى تطبيق فكرة الحد الادنى للدخل في إستيعاب فرانسوا ميتران للكينزية. وهنا يجب أن أوضح كيف أصبح الشيوعيين والاشتراكيين في فرنسا لا يتحرجون من فكرة نمط الانتاج الرأسمالي كما يتلجلج الى يومنا هذا الشيوعي السوداني.
من هنا يمكننا أن نؤكد أن السياسي في فرنسا متغير تابع لمتغير مستقل أما المتغير المستقل فهم علماء الاجتماع والفلاسفة والاقتصاديين والمؤرخيين غير التقليديين كما سائد عندنا في السودان. مثلا قد يحتاج علماء الاجتماع والاقتصاديين والفلاسفة والمؤرخيين لثلاثة عقود لتأسيس نقاط توضح التحول الهائل في المفاهيم وبعدها تصبح هذه المفاهيم الجديدة في متناول يد السياسي كما رأينا كيف سارت الأمور في حيز مدرسة الحوليات وشعارها وبعدها قد أصبحت مسألة تجاوز الجمهورية الثالثة مفهومة عند السياسي الفرنسي وهكذا تسير العلاقة ما بين الفلاسفة وعلماء الاجتماع والاقتصاديين  وقد أصبحت في فرنسا كأنها من الأعراف التي لا يحيد عنها أي رئيس فرنسي ويقال أن رولان بارت لولا تلبيته لدعوة الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران لما وقع ضحية حادث حركة أودى بحياته.
العلاقة ما بين علماء الاجتماع والاقتصاديين والفلاسفة والسياسيين في السودان تكاد تكون معدومة ومن هنا تظهر لنا الفوضى التي يعيش فيها السياسي السوداني وهو يتقمص دور المفكر والمثقف وعالم الاجتماع والاقتصادي والفيلسوف والنتيجة خيبة نخب فاشلة لم تستطع تحليل الظواهر الاجتماعية وكله بسبب غياب المنهج الذي تتسلح به نخب المجتمعات المتقدمة هناك حيث تكون العلاقة ما بين السياسي وعلماء الاجتماع والفلاسفة والاقتصاديين وهذا هو سر كيف تخرج المجتمعات الغربية من كل الأزمات التي تقابل مسيرة المجتمع حتى ولو وصلت الى مستوى تراجيدي ومأساوي ولكن المنهج موجود وهو الذي يهدي الى الخروج من المصاعب بفضل إفتراض أن غاية المجتمع هو الفرد وهذا الفرد عقلاني وأخلاقي.
بالمناسبة غياب العلاقة الصحيحة التي تحفظ المسافة ما بين الفلاسفة وعلماء الاجتماع والاقتصاديين من جهة وبين السياسي السوداني من جهة أخرى هي المسؤولة من الفوضى التي نراها ماثلة في نشاط بعض الأحزاب السودانية كما يفعل الحزب الشيوعي السوداني والسبب هو أن سياسيي الحزب الشيوعي السوداني يحاولون لعب دور أنهم علماء اجتماع وفلاسفة واقتصاديين وفي نفس الوقت يريدون لعب دور السياسي الغارق في حتميته وهنا تظهر  خيبات طرحهم الذي يضحك كل مراقب.
من هنا يظهر لنا الفرق ما بين فكر عالم الاجتماع هشام شرابي عندما قال أن تحقيق طموح الطبقات الصاعدة لا يحققه مثقف عضوي منبع فكره من شيوعية متكلسة ولا أتباع وحل الفكر الديني لأن الفكر الديني هو الحاضنة والمنبع لسلطة الأب وميراث التسلط. وبسبب غياب العلاقة التي تضبط المسافة ما بين السياسي وعلماء الاجتماع والاقتصاديين والمؤرخيين والفلاسفة نجد أن في ساحتنا السودانية ما زال المثقف العضوي هو سليل شيوعية متحجرة وسليل أحزاب وحل الفكر الديني.
في وقت نجد أمثال محمد أركون قد وضّح إستحالة التأصيل في كتابه الفكر الأصولي وإستحالة التأصيل ولكن ساحتنا السودانية لا يهمها غير تنمية العلاقة ما بين المدافعيين عن ثقافة اسلامية عربية تقليدية وبين نخب طاشت بينهم علاقة السياسي بعلماء الاجتماع والاقتصاديين.
والنتيجة تضخم ساحة الفكر السوداني بفكر بالهووين الصاخبين في دفاعهم عن حضارة عربية اسلامية تقليدية نجدها يخدمها المؤرخ التقليدي في بحوث لا تخرج عن فكرة صحيح الدين كما رأينا بحوث المؤرخيين السودانيين التقليديين وغوصها في وحل كل من العرق والدين وهذا ما تجاوزته أفكار النشؤ والإرتقاء إلا في السودان والدليل كثرة وجود أتباع المرشد والامام ومولانا والسلفيين.
وكلها نتيجة غياب العلاقة ما بين السياسي وإرتباطه بعلماء الاجتماع والاقتصاد والفلاسفة بل العكس نجد السياسي السوداني مرتبط عبر دفاعه عن الثقافة العربية الاسلامية التقليدية في حزب الامة وحزب مولانا الميرغني والسلفيين بفكر مفكريين سودانيين تقليديين أمثال الدكتور عبد الله الطيب وهو لا يخفي كرهه لعلماء الاجتماع والانثروبولوجيين في محاولة منه لإرجاع الأبهة لرجال الدين في الجزء الأول والثاني من كتابه المرشد لفهم أشعار العرب وصناعتها.
وقد أكد الدكتور عبد الله الطيب في مكاتباته مع عميد الأدب العربي طه حسين عندما حاول طه حسين أن يخلق منه طه حسين السودان قال الدكتور عبد الله الطيب أنه قد إتخذ قراره بأن يكون بجانب التراث والدين والأمة ومن هنا يتضح لنا كيف كان المثقف التقليدي السوداني أكبر حاجز صد يحول ما بيننا وبين التحول الهائل في المفاهيم.
وإذا أمعنت النظر في مقولة عبد الله الطيب أي أن يكون بجانب التراث والدين والامة هي التي قد أنتجت لنا أمثال الامام الصادق المهدي فهو أقرب لرجل الدين من السياسي في وقوفه بجانب التراث والدين والامة أي أنه قد أنزل مقولة عبد الله الطيب الى أرض الواقع وعكسهم تماما نجد العلاقة ما بين شارل ديغول مع أندرية مالرو وريموند أرون وفرانسوا ميتران مع الفلاسفة والكتاب كما ذكرنا دعوته لرولان بارت.
المضحك ومبكي في نفس الوقت تجد كثر من المدافعين عن الحضارة الاسلامية العربية التقليدية في السودان يفتخرون بأن كتاب المرشد لفهم أشعار العرب وصناعتها قد قدم له عميد الادب العربي طه حسين ولا يذكرون أن في هذه المقدمة يقول طه حسين أن في هذا الكتاب ما يغيظك في بعض أجزاءه ومعروف طه حسين كان يبجل علم الاجتماع وأكيد أن ما يغيظ في كتاب عبد الله الطيب في نظر طه حسين هو كره وتهجّم الدكتور عبد الله الطيب على علماء الاجتماع والانثروبولوجيين في محاولة منه لإرجاع الأبهة لرجال الدين وعلى القرئ المدرب التأمل في تقليدية عبد الله الطيب.
الجيد أن أفكار عبد الله الطيب وتلاميذه ممن يختفون خلف أحداثيهم ودفاعهم عن الحضارة العربية الاسلامية التقليدية في السودان قد أنتجت الهووين الصاخبين ونجدهم كأتباع لأحزاب وحل الفكر الديني والقوميين وجميعهم اليوم قد إنكشف لهم أمر الخواء الفكري الذي لا ينتصر للحياة وقد صدق محمد أركون عندما تحدث عن الفكر الأصولي وإستحالة التأصيل.
ولكن متى يفهم تلاميذ عبدالله الطيب أنهم يتخفون تحت ظلال تقليدية فكر عبد الله الطيب؟ وأن التحول الهائل في المفاهيم لا محالة قادم وحينها لا تقوى معاهدة عبد الله الطيب وتلاميذه على الوقوف بجانب التراث والدين والأمة أمام فكر عقل الأنوار وأفكار الحداثة التي قد قضت على جلالة السلطة وقداسة المقدس.
ولكن كما ذكرنا في أعلى المقال هذا الفكر التقليدي لا يختفي من تلقاء نفسه بل يحتاج لجهود فلاسفة وعلماء اجتماع واقتصاديين ومؤرخيين يؤمنون بأن تاريخ المجتمع الغربي كان مختصر لتاريخ الانسانية وعبرهم يستطيع الشعب السوداني مفارقة الفكر القديم كما فارق الشعب الفرنسي بفضل مدرسة الحوليات الفكر الذي كان يدافع عنه المؤمنيين بفكر الجمهورية الثالثة وقد تم تجاوزه بفضل مفكري مدرسة الحوليات.
على العموم هناك مفكريين غربيين كثر يؤكدون أن إرتفاع مستوى الوعي بفضل تكنولوجيا الاتصالات سوف يسرّع إمكانية مفارقة الشباب للفكر التقليدي الذي قد رسخه عبد الله الطيب وتلاميذه وقد أنتج مثقفين عبر ما يقارب السبعة عقود قد رسخوا فكر الهوويين الصاخبين أي كانت النخب السودانية مشغولة بفكر الهويات بدلا من فكر الحريات الذي يشغل ضمير أحرار العالم ومن ننبه النخب السودانية لفكر ينتبه و يهتم بالحريات وليس الهويات.
نجد الآن في العالم العربي والاسلامي إرتفاع في نسبة المتعلميين حيث أصبحت المراءة أم لطفلين نتيجة لإرتفاع مستوى وعي المجتمع في كل من تونس ومصر وايران وهذا ليس في صالح الثقافة التقليدية التي كرسها فكر الدكتور عبد الله وتلاميذه وهم لا يرون حرج في رجوع الأبهة لرجال الدين وأحزابهم كما قلنا ووضحنا كيف يهاجم الدكتور عبد الله الطيب فكر علماء الاجتماع والأنثروبولوجيين في محاولة يائسة لإرجاع الأبهة لرجال الدين ونتيجة وقوفه بجانب التراث والدين والامة قد رأينا إزدهار أحزاب الكيزان وأغلبية تلاميذ عبد الله الطيب من المناصريين لفكر الكيزان.
ما أود قوله أن الثقافة العربية الاسلامية فشلت في إنزال قيم الجمهورية ومنذ فشل جمال عبد الناصر في إرساء قيم الجمهورية وبعدها قد ورثه أتباع وحل الفكر الديني وكل يوم والعالم العربي والاسلامي يغوص في وحل ثقافته التقليدية ولهذا ننبه النخب السودانية على السير بخطى مسرعة لمفارقة خط الثقافة العربية الاسلامية التقليدية ولا يكون ذلك بغير وضع علاقة جديدة تربط ما بين علماء الاجتماع والاقتصاديين والفلاسفة مع سياسي سوداني يسير بفكرهم.
كما رأينا كيف كانت العلاقة بين كل من ديغول وأندرية مالرو وبين روزفلت ومفكريين كثر بل قد إلتقى بكنز وقال كينز أنه عندما قابل روزفلت قد وجده سياسي مشبع بتاريخ الفكر الاقتصادي وأدب النظريات الاقتصادية. ولك أن تتصور صعوبة مهمة روزفلت في زمن كانت تتبدى فيه عوالم إنقلاب الزمان حيث كانت نهاية ليبرالية تقليدية وبداية فلسفة تاريخ حديثة.
وهذا ما جعل روزفلت يقوم بسياسات إقتصادية كانت ضد طبقته ولكنها لا يمكن تحقيق النجاح بغيرها وهذا لا يكون في السودان بغير خلق علاقة جديدة ما بين السياسي السوداني الفاشل تربطه بفكر علماء الاجتماع والاقتصاديين والفلاسفة وحينها سوف يستطيع السياسي السوداني أن يقوم بفعل شئ يصلح للعبور بالمجتمع من التقليدية الى حيز المجتمعات الحديثة وحينها تبداء عتبات الدولة الحديثة.
نختم مقالنا بأن للتاريخ نقاط إنقلاب وتحتاج لشخصيات تاريخية تستطيع تجاوز فكر عقلنا التقليدي الجمعي وهذا يحتاج لشجاعة نادرة يسبقها الرأي كما رأينا كيف كانت فكرة الإصلاح الديني من قبل مارتن لوثر قد تزامنت مع رغبة البرجوازية الصغيرة وأمانيها في التقدم والازدهار المادي وقد كان ولهذا نقول للسياسي السوداني لا يمكنك تحقيق نجاح بغير خلق علاقة جديدة مع علماء الاجتماع والاقتصاديين والفلاسفة والمؤرخيين غير التقليديين فهم من يستشرف مستقبل الأمم. 

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..