حكاوي جنقاوي متقاعد ” قصة من مخزون الذاكرة”

خطرفات ذاتية
سايمون دينق
(١)
كنت برفقة عمي عندما ذهبت الي”الجنقو” عاملا لأول مرة في حياتي عام ٢٠٠١م ، كانت ضربة البداية في مشروع” الفاو”، ثم القدمبيلة، مرورا بود السنوسي وباسندة، وآخيرا استقر بنا المقام في مشروع السمسم بمنطقة القلابات جنوب شرق مدينة القضارف على الحدود الحبشية، كنت اصغر افراد المجموعة سنا في ذلك الوقت.. تقريبا كنت ابن ١٩ ربيعا.
الجنقو يجمع كل ابناء الهامش السوداني ولكن الجنوبيين هم الاغلبية المطلقة، ولدواع أمنية، يفضل عمال الجنقو غالبا العمل في اطار مجموعات صغيرة ومتوسطة العدد وتربط فيما بينها صلات قرابة او منطقة سكنية مشتركة في الديار… اي شيء من هذا القبيل..! المهم يشترط ان يكون بين جميع افراد المجموعة معرفة قديمة تتجاوز حدود الجنقو، فهذا يضمن فعالية عملية الدفاع الجماعي عن النفس في حال تعرض المجموعة الي اي هجوم عدواني محتمل من اي جهة، فهذه الاستراتيجية الدفاعية لم تأت من فراغ، فالمؤكد ان هنالك عصابات اجرامية نشطة في المنطقة تستهدف الاقليات العمالية وتنهب ما لديها من امتعة والايصالات التي يحررها وكلاء المزارعين للعمال مع نهاية كل عمل ويتم صرف المال بها في مدينة القضارف، والفائدة الاخرى من هذه الراوبط الاجتماعية، هي انها تساهم في حل اغلب الخلافات الجانبية التي تنشأ بين افراد المجموعة الواحدة و تبقيها في الحدود الذي لا يتأثر معه العمل.
(٢)
ان كنت حديث عهد بالمهنة يا اخي الكريم، فخذ مني هاتين النصيحتين لاهميتهما في مسيرتك الاحترافية.. الاولي هي: وانت في طريقك الي الجنقو او قبل مغادرتك الديار..! تذكر جيدا ان الامتعة التي بداخل مخلايتك” تحوى (ادوية الملاريا) حبوب، حقن، كبسولات اي شيء، فحتما ستحتاجها مرة او اكثر هنالك، فلا يوجد ما يمكنه حمايتك من لدغات باعوض الجنقو على الاطلاق.. فكن طبيب نفسك.
اما النصيحة الثانية فهي: ان كان لك سجلا سيئا مع الامراض الباطنية، اسهالات، دستناريا، قرحة، معدة… الي الآخر .. في هذه الحالة عليك ان تؤمن بان الارزاق بيد الله، سيرزقك في مكان آخر غير الجنقو.. ارجوك لا تسمع تلك الاكاذيب المضلة، فالمؤكد سوف لن تسير معك الامور على ما يرام ، فان كنت تحفظ عن ظهر قلب تلك االماكولات السيئة التي تسبب لك المتاعب هنا في المدينة، فستجد هناك في الجنقو ما هو اسوأ منها.
(٣)
ذات يوم ذهبت الي وكيل المشروع لكي أخذ منه حصتنا الاسبوعية من الطعام، والحصة عبارة عن اثنين كليلة دقيق العيش وحبيبات بصل، شوية زيت، كوم سمك ناشف (كجيك)، بالاضافة الي ملوة (بالونقا) ، ولغير العارفين به يعني فول مصري مقشور وغالبا منتهي الصلاحية.
استلمت كل شيء ما عدا الدقيق .. ارسلني الوكيل مع احد مساعديه الي رئاسة الكمبو حيث توجد الطاحونة الوحيدة في المشروع لناخذ الدقيق من هناك ، وهذا المكان على بعد اثنين كيلو من من مخازن الوكيل.. مما يعني انني ساسير على أقدامي مسافة ثلاثة كليو مترات عائدا حيث اتيت وحاملاً لكل هذه الاشياء فوق ظهري..!
فور وصولنا الي رئاسة الكمبو، كانت الطاحونة في اوقات ذروتها، وبينما كنت انتظر دوري مثل الجميع لفت نظري حدثا سريا وغريبا..! كان عامل الطاحون ياخذ من جوال الذرة عبوة اثنين كيلة ذرة نظيفة ثم يخلطه بنصف كيلة (تبن) تقريبا ويفعل هذا خلف حاجب صغير ظنا منه ان الامر لن ينكشف!، وبعد ذلك يطحن الخلطة كلها ثم يعطيها للعامل الذي وقع عليه الدور … بالطبع لم يرق لي الأمر ، سألت العامل محتجا في وجهه .. ما هذا الذي تفعله ياهذا..؟ لم تخلط العيش بالتبن.. ؟ وقبل ان اسمع رده.. غمزني مساعد الوكيل بعينه.. ثم همس في اذني قائلا: يا عزيزي كل مشاريع القضارف تفعل هكذا.. فلا يمكن ان نطحن ذرة نظيفة للعمال لانه اذا فعلنا، فلن يكفي المخزون الجميع لمدة شهرين، لان الاستهلاك سيكون اكبر وهو فوق استطاعتنا.. ما نقدمه لهم من طعام يحافظ فقط على معدل الطاقة واللياقة لديهم حتى يكملوا عملهم، وبعده اذا ارادوا طعاما جيدا فليشتروه هناك في المدينة بحر مالهم.
(٤)
ونحن في المشروع، اذكر جيدا تلك الامسية التي هطلت فيها امطار فوضوية للغاية بلغت حد التطرف في عنفوانها، كانت الرياح المصاحبة لها تكاد تقلع الاشجار من عروقها ليقصف بها الارض ومن عليها من شدة قوتها، وتحت رحمة تلك الاوضاع المأساوية، كنت اتوسل الي الرحمن في سري كي لا يفقد قلبي نبضه بفعل البرد القارص الذي يكاد ان يشل عروقي واطرافي عن الحركة، فقد كنا في الواقع نقاوم كل هذا العدوان المناخي في فضاء مكشوف، لان فكرة الاختباء داخل تلك القطاطي المهترئة مغامرة غير معروفة العواقب..! فمن هو ذلك الاهبل الذي سيخاطر بحياته ويختبي داخل فخ قد ينهار فوقه في اي لحظة مع الرياح التي تسقط اشجار واقفة بحالها، فما بالكم بقطاطي لم يحسن اصحابها تشييدها..؟
واصل المطر جنونه وهيجانه حتى اوقات الصباح الاولى في اليوم التالي اي في حوالي الساعة الثانية تماما توقف عن الهطول فجأة كما بدأ..! غير ان هدير الرياح الهائجة ظل كما هو دون تغيير، نحس ببردها وكأنها تعبر داخل احشائنا الخاوية.. فلم نتمكن من اعداد وجبة الطعام حينما داهمنا المطر مساء البارحة، حقا كانت معاناة لا توصف..!.
قبل شروق الشمس بقليل نهضت من فراشي وانا ارتجف بردا، اشعلت النار وزودتها بالحطب وجلس حولها للتدفئة.. استغرق الامر لحظات وانضم اليَ باقي افراد المجموعة، واحد تلو أخرى حتى اغلقنا الدائرة حول النار.
كان الظلام يوشك على الذهاب ولكن الصورة لاتزال قاتمة بعض الشيء بفعل الضباب الذي يغطي المكان.. في ذلك الاثناء لمحت رجل غريب على بعد مرمى حجر وهو يتحسس خطواته نحونا بصعوبة من جهة الجنوب.. يبدو انه يعرج قليلا، فسيره لم يكن طبيعا بالمرة، اتضح فيما بعد انه ينتمي الي مجموعة مجاورة جاء لياخذ منا النار ويعود بها حيث أتى.. غير انه قبل ان يغادر استفسرنا عن امر ذلك الرجل الذي يجلس منفردا بعيدا عن النار ، لماذا هو هنالك وحده ولا يشارككم التدفئة؟
اجابه احدنا: هذا زميلنا “اكوك” هو هكذا دائما .. وما ادرانا نحن بحاله..!؟ عليك ان تسأله بنفسك، ما نعرفه عنه انه صاحب أراء ونظريات مختلفة ويعيش غيبيا في عالم تخصه وحده دون الباقين، ربما له راي مغاير عن التدفئة بالنار.
لم ينتظرا كثيرا ، جاء رد “اكوك” حاسما.. انتما لا تعرفان حقا ما سيحدث.. التدفئة في هكذا اوضاع مضرة جدا، لانه حينما تنطفئ النار سوف لن تعود الاجسامكم قادرة على تحمل لسعات البرد التي ستكون اشد قسوة اكثر من اي وقت مضى… و… ها ها ها.. قاطعه الغريب ضاحكا وهو يعمم باشارته الجميع.. انتم يا أهل ” مدينق أويل” تقولون دائما في قصصكم الاسطورية ان مجتمع اويل خال من البلهاء.. او كان واحدا فقط وقد دهسه القطار في محطة ملوال كويل.. هكذا تكذبون.. وفي الحقيقة انتم لا تعرفون البلهاء … هذا الرجل ابله.. قال هذا وهو يشير الي الزميل “اكول” ثم مضى الي حال سبيله..
اما انا فقلت في سري.. فعلا ما اكثر البلهاء وسطنا ونحن غافلون….! بالطبع الغريب على حق… فكيف يزعم “اكوك” لو لم يكن ابلها ان البرد سيعود اشد قسوة للمتدفئ بالنار وها هي الشمس تشرق حاليا…!؟
ألقاكم.
جوبا- ١٦ يناير ٢٠٢٣م
مشكور الاخ سايمون .ما كتبته شئ محزن و للأسف يدل على غباء أصحاب رأس المال و مديرى المشاريع الزراعيه فالعامل ينتج أكثر و يضمن إستمراريه المشروع فى حال تم الإهتمام البسيط بصحته و طعامه .شئ بسيط للأسف .التحيه للجنوب الحبيب.
nice story. well done.
شكرن سايمون دائما هناك بديل والبديل عن النار عن النار هو نار الشمش..تحياتي
يا للروعة هكذا انت دائماً سيمون , كما تري منتديات الراكوبة الآن مثل (قطيتك التي لم يحسن اصحابها تشييدها )
لقد هجرها اصحابها هل عدتم يا سيمون !!!
قلم رصين و لغة رفيعة مشكور أخي سايمون على هذه السياحة رغم آلامها تبقي في صياغ أدبيات معاصِرة.
WordsCanHeal
في أنتظار قلمك الجميل .
كسرة: حال الجنقو حزين للتفكير القاصر من الدولة منذ الأستقلال . تقدير العمال معدوم و أهمية العامل صفرية , لا مؤسسات لا نقابات (قاعدين في السهلّه منذ الأستقلال).
يا اخي انت ع ربي عديل كدة — مقال ممتع -رائع — متسلسل — قصصك يا سائمون تجعل الشخص يرتجف ليس من ابرد بل من هول ما واجهته انت ومن معك — لا حول ولا قوة الا بالله — والله افتقدناكم — نحن الشماليين اكثر من فقدنا لابنائنا الذي هجروا هذه البلد — ستظلون في القلب رغم العواصف التي رمت بكم بعيدا عنا –والسياسة العرجاء لنخب السودان البالية — اصدق قولا من غيركم واقرب للقلب من المتنطعين الذين يرموننا بالعنصرية وهم اكثر عنصرية قبحا
لك التحية سايمون ولاخوتنا في الجنوب نتمنى ان تعود عقارب الساعة لتجمعنا اخوة متحابين لا متصارعين بفعل الساسة الخاسة الجبناء
والله مستر سايمون انا سعيد بمعرفتك ولو عن بعد قصصك شيقة
ودائما اهلنا الجنوبيين لا تعرف قيمتهم الحقيقية الجيدة الا اذا عايشتهم عن قرب