مقالات متنوعة

عليها تسعة عشر..!!

لطالما مثلت الأعداد والأرقام مجالا خصبا للنقاشات والحوارات الصادقة و(الضاربة) على حد سواء، وتناولها الجميع علي سبيل الاحتفاء والتذكر وتفخيم المناسبات التي ارتبطت بها وجعلها ايقونات سودانية نعيشها كل يوم بالحق حينا وبالباطل في أحايين كثيرة.

كما ترسخت في أذهان المجتمعات المحلية بالكثير من المعتقدات والأسبار من التطير والتشاؤم الى الأمل والطموح والرهبة من أرقام معينة واعتبارها نذيراً للشؤم وغرابا للخراب والدمار وانقطاع الوصال وضيق العيش الذي تزايد وتمدد هذه الأيام النحسات، لولا فسحة الأملِ.

ومن هذه الأرقام التي تكررت كثيرا وورد ذكرها في تضاريس الحياة السودانية وجيوسياسية الواقع المعاش وبصورة تدعو للاندهاش، رغم اننا اصبحنا لا نندهش ونستغرب كثيرا في ظل ما يدور من (صدمات)، إلا أنه يجدر بنا التوقف لبرهة عند هذا الرقم العجيب، أو لربما نحن من جعلناه كذلك وصنعنا منه العجب العُجاب.

فلقد قدمت الى ارضنا المنكوبة جحافل الاتراك الغزاة والذين ارسلهم محمد علي باشا لغزو ارضنا ونهب ثرواتنا وهي المهمة التي اكملها مع الأسف، ابناء (الوطن) هذه الايام، جاء هذا الغازي في حوالي ۱۸۱۹ م ليقضي في خلال عامين على السلطنة الزرقاء ويعم السواد ارضنا لما يقارب النصف قرن.

وبعدها تردد الرقم ۱۹ في العام ۱۹٥٥ م من شهر ديسمبر حين تمت مسرحية اعلان الاستقلال من داخل البرلمان كما حفظت ذلك كتب التاريخ المزيف، وحدث حينها تشوه خطير في وجه السياسة السودانية الكالح وممارساتها المكفهرة والتي اعيتها القترات والعبرات، وذلك حين تم اغفال حق الحزب الجمهوري والحزب الشيوعي باعتبارهما الحزبين الوحيدين اللذين دعيا للاستقلال الحقيقي لا أن نكون تحت الوصاية البريطانية أو التاج المصري كما اراد لنا السيدين، ولعله من هنا بدأت معضلات الساسة عندنا من تغيرات المواقف وبيع الذمم والكسب الرخيص ونكران العشير ونظام (الحفر والدفن) والذي انتشر بعد ذلك، حتى اصبح ما تبقى من ارضنا المكلومة (حفرة كبيرة) حفرها(الاخوان) لاخوانهم ولكن وقعنا فيها كلنا ولم نجد من يلتقطنا من السيارة والكل فينا من الزاهدين.

ليت الأمر توقف عند هذا الحد بذاك الرقم، بل عاد اكثر قوة في العام ۱۹۷۱ م يوليو التاسع عشر، في الثورة التصحيحية لمايو وصدام الرفاق، وبينما كان الناس يغنون في الشوارع: هاشم العطا صحح الخطا شال نميري فوق دق بي الوطا كانت دماء العزل والأبرياء تسيل في الشجرة وبيت الضيافة والقيادة العامة، لتفقد البلاد من كان في حياتهم خيرا كثيرا، ولكن ابتلعتهم حبال المشانق ونصال المقاصل وحوائط الدروة، ولا تزال الكثير من التساؤلات حول تلك الأحداث بلا اجابة حتى الآن.

ثم جاءت ليلة التاسع عشر من يناير من العام ۱۹۸٥ م حيث كانت الطامة الكبرى حين اعتلى منصة المشنقة رجل وضئ المحيا، رابط الجاش، تجاوز عمره السبعين عاما وهو يتبسم امام جلاده بعد ان اصدرت مهازل محاكم العسكر حكمها بموته، لا لشيء سوى الحقد والحسد والغيرة والخوف من نور الصبح بعد ان استطال امد الظلام، وليعتلي الشهيد الاستاذ محمود وكانه يردد ما قاله الحلاج قبله:

اقتلوني يا ثقاتي أن في قتلي حياتي
وحياتي في مماتي ومماتي في حياتي
وضعوا القران فوقي أنه حبل نجاتي
وامهلوني كي اصلي لتروا كيف صلاتي

ويتسامى بعدها ويمضي جلادوه الى المزبلة ويظل هو غير محدود الاقامة. والغريب في الامر هو عودة رقمنا المثير هذا للاحداث مجددا، بعد ان تفاقمت الاحتجاجات الشعبية في البلاد وحدث وقوع لضحايا ودماء طاهرة، اختلف الناس كالعادة في عددهم، قبل ان يأتينا متحدث الحكومة الرسمي بقول جهيزة والتي قطع بها قول كل خطيب، مفيدا ان العدد، وللسخرية، هو تسعة عشر لا يزيدون ولا ينقصون، بعد أن احصتهم الة الحكومة وعدوهم عدا.

ونحن لسنا بصدد التعليق على هذا اوتصديق الرقم أو تكذيبه، وانما جال بخاطرنا بعد هذا الحديث تلك النار التي لا تبقي ولا تذر، جعل الله سبحانه وتعالى عليها ايضا ملائكة غلاظ، ولعلها ليست مصادفة أن يكون عددهم أيضا (تسعة عشر).

الجريدة

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..