قراءة في ترشيح البشير صراع من داخل الصندوق

(1) علي غير العادة بدأت حمي الانتخابات السودانية هذه المرة مبكراً ، الجديد فيها ان طلقة البداية لم تكن كالمعتاد من المعارضة تحت دعاوي التزوير ، والمناخ غير الملائم ، وإستغلال إمكانيات السلطة ، هذه المرة تصاعدت التصريحات من داخل الصندوق الحزبي الأبرز في المشهد السياسي السوداني ، طفحت صفحات التواصل الإجتماعي والصحف اليومية بتصريحات متضاربة تحكي عن معركة التيارات المتعددة التي تعتمل في جسد الحزب الحاكم ، بعضها مع ترشيح الرئيس البشير وهو ما لا يتسق مع التشريعات الدستورية التي تنظم الحياة العامة ، وبعضها مع ترجل الرئيس عن صهوة جواده الذي تعب من رهق المسير وأصبح عبئاً علي محبيه وخصومه ، والجياد التي تعجز عن المسير مصيرها عند مسلخ ألفريد سموندز كما في مزرعة الحيوانات لجورج أورويل .

(2) من الأشياء اللافتة للانتباه والمثيرة للتعجب ان التيارات المتصارعة داخل صفوف المؤتمر الوطني كلها تعتقد ان الرئيس يعبرعن قلقها وأنه في كفتها الراجحة حتي مقال دكتور امين حسن عمر بالامس يقول بذلك ، والرئيس حتي اليوم يجلس بذكاء سلطوي موروث ، متفرجاً علي صراع هذه التيارات ، لم تصدر منه أي اشارات مؤكدة تدل علي زهده في الترشيح ، او حتي رغبته في الترشيح ، كل ما صدر عنه عبارات حمالة أوجه ، التيار المؤيد لترشيحه فهم منها ان الدستور عقبة في طريق التجديد له ، والتيار الاخر الرافض فهم ان الرئيس زاهد في الترشيح .

(3)هناك بعض الإشارات التي لا يمكن تغافلها ولا تحتاج الي عناء في البحث والتدبر ، قبل شهور قليلة نشب صراع بين والي ولاية الجزيرة ايلا وبين المجلس التشريعي الذي يسيطر عليه الحزب الحاكم ، انتهت المعركة بإنتصار الرئيس للجهاز التنفيذي ممثلاً في الوالي بخرق دستوري فاضح ، ووجه الرئيس ضربة قوية للجهاز التنظيمي والحزبي ، وكان يمكن له ان يتخذ من السياسات ما يجنبه الدخول في هذه المتاهة ، لكنه كان متعمداً إظهار استخفافه بالكيان الحزبي الذي يتزعمه ، وقبل ذلك تظهر التعديلات والتغيرات في طاقم الرئيس الخاص وحتي جلسائه ، الملخص أنه يبتعد كثيراً في كل يوم عن حضن التيار الذي وفر له في أوقات سابقات كل وسائل التمكين ، وحتي في القوات المسلحة تظهر قوائم المعاش ان غالب المنتمين الي التنظيم السياسي الذي يتزعمه الرئيس هم الأقرب الي هذه الكشوفات ، قد يكون هذا مقدمة ان يركل الرئيس الحزب الحاكم علي مؤخرته ويقبل بترشيح قومي ، ولا تستطيع ان تقول ان هذا ذكاء سياسي .

(4) الناظر الي الحملات التي بدأت في الولايات بترشيح الرئيس للانتخابات القادمة ، اذا تمعنت فيها جيداً فستكتشف أنها تتم في إطار صراع داخلي بين مكونات النظام ، رغم ان الوالي هو رئيس التنظيم الحزبي في الولايات لكن يتضح بلا شك ان الفاعل الحقيقي في هذه الحملات هو الجهاز التنفيذي لا الحزبي ، واذا تمعنت جيداً ستظهر لك أجسام غريبة تحتاج الي مناظير لمشاهدتها ، هذه التشكيلات من السلطويين الجدد هي من يقوم بهذه الحملات ، بعض أتباع الحركات المسلحة العائدين من ساحات المعارك ، وبعض الحزبيين المنشقين من أحزابهم ، وبعض رجال المال والأعمال ، طبقة سياسية انتهازية جديدة تبرز ملامحها في الصعود كل يوم .

(5) من الاشياء المثيرة للجدل ان القطط السمان في الحزب الحاكم حتي اليوم تنظر الي المعركة الدائرة من بعيد ، لعلهم يتعظون بالحكمة الأوربية ، السويسريون لا يكذبون ولكنهم يعرفون كيف يستفيدون من الصمت ، ولكن قطعاً اذا هززت الأشجار فان شيئاً سيسقط كما تقول رايس والأيام ستهز هذه الأشجار العتيقة ، صحيح ان بعض أصابع هؤلاء تتحرك في فضاء ضيق ، لكن حتي اليوم لم تتبلور رؤي واضحة عند هذه النخب القيادية ، وحتي التي يعلو صوتها اليوم برفض ترشيح الرئيس كثور أسباني هائج هي أقل ثقلاً جماهيرياً ، وأقل ارتباطًاً بمفاصل السلطة الحاكمة وتشعباتها ، وتفتقد للعمق الشعبي والجماهيري .

(6) قد يعتقد البعض ان المؤتمر الوطني في هذا التوقيت أضعف من ان يكتب سطراً مؤثراً في معركة الانتخابات القادمة ، لم يعد هو ذات الحزب الجماهيري صاحب القاعدة المنظمة ، الانتخابات الأخيرة أثبتت أنه ضعيف التأثير ولا يملك القاعدة الجماهيرية التي كان يظنها الرئيس ، ولذلك قد لا يعول عليه كثيراً في المعركة القادمة ، لكن علي أي حال لا يظن عاقل ان الرئيس سيرمي بالحزب الحاكم في سلة المهملات مثل قطعة فاكهة عصرها عصراً ثم رمي بنواتها في قارعة الطريق كما يقول سهيل ادريس ، فالحزب الحاكم علي علاته يحتاجه الرئيس للمرحلة القادمة اذا لم تتوفر له خيارات اخري ، و كالعادة سيعمل الرئيس علي إيجاد مبيض شديد النصاعة لتجميل صورته وتقديم مبرر أخلاقي وقيمي اذا قرر الترشيح وتعديل الدستور ، ولا شك ان المحامي علي عثمان هو أفضل من يجيد هذه الأدوار ، تأثير هذه المعركة الانتخابية قد يشهد الحزب علي إثرها مزيد من التساقط و خروج مجموعات جديدة من عضويته ولكنها ستكون أقل تأثيراً من المرات السابقة .

(7) قد تكون القوات المسلحة رغم ضعفها في السنوات الأخيرة و الإعتماد علي قوات بديلة ، هي الفاعل الأبرز في الساحة ولها اهمية عند الرئيس ، سيسترضيها اذا قرر الترشح في الانتخابات القادمة ، بالمحافظة علي الطاقم العسكري في سدة القيادة ، قد يعيد تشكيل المشهد لكن لا أظن أنه سيتخلص من نائبه الأول ، عموماً أثبتت مجريات الأوضاع وصراعات السياسة ان الرئيس يحتفظ حتي اليوم بقدرته علي خلط الأوراق ، وأنه يملك كتابة ملامح المرحلة المقبلة ، اذا رغب في الترشيح فلا شك أنه سيكون الفائز بسهولة ، واذا أراد ان يترجل فهو قادر علي تحديد ملامح المرحلة المقبلة بترشيحه لخليفته المقبل .

(8) القوي السياسية الحزبية وغير الحزبية في هذه المعركة سيظل دورها في دائرة المحدود ، فهي منذ سنوات تعيش عصر التيه والاضمحلال ، صحيح ان بعضها استبق هذه المعركة بتكتيك جديد وقرر ان يخوض الانتخابات بشكل من أشكالها ، لكن أعتقد ان الحركة الشعبية التي تتزعم هذا التوجه الجديد أصبحت أقل تأثيراً في المشهد السياسي بعد التصدع الذي طالها بنيتها التنظيمية والعسكرية ، أحزاب الحوار الوطني قد تكون خياراتها أكثر صعوبة وقطعاً هي في موقف لا تُحسد عليه خاصة المؤتمر الشعبي ، اذا باركت ترشيح الرئيس وهو الخيار الأسهل والأقرب لمنطق الواقع ، ستخسر المزيد من قواعدها وسيكثر صف الزاهدين فيها ، وهذه القوي السياسية لن تعدم المبررات الموضوعية فالخوف علي السودان واستقراره و تنفيذ مخرجات الحوار سيكون حاضراً في تبريراتها الأخلاقية ، واذا رفضت ترشيحه فستدخل في متاهة حسابات سياسية معقدة وعسيرة ، عموماً أعتقد ان فقه العاقل اذا خير بين شرين فيختار أهون الشرين وأقلهما ضرراً كما يقول الأمام مالك سيكون الخيار الواقعي .

علي عثمان علي سليمان
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..