مأساة حاج الطاهر

كانت وصية الحاج حسين الأخيرة أن يهتم إبنه الطاهر بالفقراء وأن يواظب على عادة والده في اكرامهم بذبح خروف كل يوم جمعة ودعوة كل أهل القرية لتناول الغداء في الجامع الذي بناه والده. وتوزيع ما يتبق من لحم على الفقراء . كان والده رجلا سعيدا. والدليل انه في نفس اللحظة التي فاضت فيها روحه ذات فجر، دقت مارشات إنقلاب الانقاذ العسكرية. كأن الموت كان في إنتظار تحرّك دبابات الانقلابيين ليقبض روح الرجل الطيب الكريم. توفي الرجل في نفس اللحظة فلم يسمع بيان إنقلاب الكذب الاول. لم يسمع بنأكل مما نزرع او نلبس مما نصنع. لم يسمع بالشعار الشهير: أمريكا وروسيا قد دنا عذابها. علي إن لاقيتها ضرابها! وبدلا من ضراب أمريكا إنشغل (الجهاديون) بمحاولات خطب ودها سرا وعلنا، فيما كان (الضراب) كله الذي أدخرته(الثورة) للأمريكان ينهال على رأس المواطن المسكين! لم يسمع الحاج حسين بالنفرة الزراعية او ثورة التعليم العالي او ثورة الاتصالات وغيرها من ثورات السماسرة الوطنيين الأخرى، لم يسمع بالفجوة الغذائية أو المفاصلة الأولى والمفاصلة الثانية والمفاصلة العاشرة. ألم اقل لكم أنه كان رجلا سعيدا محظوظا؟.
بعد إنقضاء أيام العزاء واظب حاج الطاهر على وصية والده. كان يقوم كل يوم جمعة بذبح خروف ضخم. وتقوم زوجته وبناته بالطبخ ويقوم أولاده بإخراج صحون الغداء ووضعها تحت شجرة اللبخ أمام الجامع الصغير حتى يتناول المصلون غداءهم بعد صلاة الجمعة.
في البداية كان حاج الطاهر يختار أكبر خروف عنده ليتم ذبحه. استمرت عادته تلك عدة أشهر لكن مع مرور الزمن بدأت الانقاذ تدخل في (العظم) ضاقت سبل الرزق واصبحت الزراعة مهنة طاردة تركها معظم الشباب وهربوا الى العاصمة بحثا عن فرصة عمل او فرصة للهروب من الوطن. تناقصت أعداد الضان التي يملكها الطاهر بسبب اضطراره لبيع جزء منها لتغطية خسائر الموسم الزراعي الأول له بعد وفاة والده. ثم تزايدت منصرفات اولاده الذين يدرسون. لم يعد العلاج مجانيا كما كان في السابق، كما انهارت اسعار المحاصيل الزراعية.
في الاشهر التالية بات حاج الطاهر يختار خروفا أصغر حجما. يقوم بذبحه وبدلا من كمية اللحم المشوي الكبيرة التي كانت تقدم للمصلين. اصبحت كمية الخبز أكبر وقلّت اللحوم. ثم أصبح يختار حملا صغيرا. وكان يصرخ في زوجته وبناته طالبا منهم زيادة الماء حتى يكفي الأكل الجميع!
توالت مصاعب حاج الطاهر في الأعوام التالية مع المصاعب الكثيرة التي رافقت الزراعة. إنعدام الوقود وغلائه وغلاء الاسبيرات. في السنوات الاولى كان حاج الطاهر مصرا على الا يذهب الى البنك. لكن مع تناقص الرصيد الذي احتفظ به منذ سنوات الرخاء. بات لزاما عليه خوض التجربة الفاشلة. كانت فترة السداد تكفي بالكاد لفترة الحصاد. وقبل أن يتمكن من تخزين محصوله حتى يتحسن سعره المنخفض، يصل مندوب البنك لتحصيل قيمة القرض وحين يتعذر الدفع يقوم البنك بالاستيلاء على المحصول كله.
رغم خروجه من مولد الموسم بدون حمص، وتردي أحواله لكن حاج الطاهر واظب على وصية والده. كانت اقداح الطعام تخرج كل يوم جمعة بعد الصلاة. تناقصت نسبة اللحوم وإزدادت نسبة الخبز والماء. تدحرج اللحم من الضأن الى العتود حتى جاء دور الديوك .
ولأن دوام الحال في أزمنة الانقاذ من المحال. كان لابد لوصية الوالد الراحل أن تتعثر بسبب غياب حاج الطاهر وراء القضبان. فبعد نهاية أحد المواسم الفاشلة التي بذل فيها حاج الطاهر كل ما تبقى له أملا في أن يعوّضه نجاح المحصول عن سنوات الخسارة المتتالية. لكن النتيجة كانت كارثية. بسبب عدم توفر الوقود تعرضت الزراعة للعطش عدة مرات خلال الموسم، وتواطأ البرد مع الحكومة. فكان الجو حارا في معظم فترات الموسم ما أدى لظهور آفة حشرة العسلة التي تصيب محصول الفول بالمرض. ثم كانت الضربة الثالثة القاضية، حين انهارت اسعار المحصول بمجرد حصاده بسبب تحكم البنوك الحكومية في الاسعار.
جاء مندوب البنك مع عرباته وقاموا بشحن المحصول، شحنوا كل شئ، ولم يتركوا من خلفم ولا حبة واحدة. قبل أن يطلبوا من حاج الطاهر أن يوافيهم في البنك في اليوم التالي. لمراجعة حسابات الموسم.
حين وصل حاج الطاهر الى البنك في اليوم التالي وجد شرطيا في إنتظاره. حاول أن يستفسر عن الأمر لكن الشرطي لم يمهله. أبرز له أمر قبض صادر بحقه بسبب عدم سداد قرض البنك بصورة كاملة لأن المحصول كله الذي استولى عليه البنك لم يفي سوى بنصف المديونية!
لا حول ولا قوة الا بالله … انها حالة من حالات كثيرة تبكي العيون وينفطر لها القلب المحزون … ولا ندري من أين أتى هؤلاء الضالون … اللهم عليك بهم أخرجهم من السودان مدحورين وبالسلاسل مغلولين انتقاما للمظلومين واستغفرك وأتوب اليك …
يا أحمد الملك كتب عنوان حاج الطاهر حتى بتمكن أهل المروءة من فك أسره وحل دينه
والله الشعب كله صار حاج الطاهر