
البروفسير عبد الله على إبراهيم مؤرخ متميز، له مكانته الاكاديمية العالية، وكاتب راتب قدم مساهمات فكرية متنوعة وعميقة، ماركسي ما فتئ ينافح بقوة عن ماركسيته ولا يقبل المساومة حولها، وباحث هميم حول قضايا الثقافة السودانية. وأكن له تقديرا لكل ذلك. ولكن كما لكل جواد كبوة، فقد تنكب جوادنا الأصيل عن منهجه التاريخي الصارم، بتبنيه رواية النقابي على محمد بشير حول تأسيس هيئة شئون العمال. ولم يمحص تلك الرواية، ويقارنها بغيرها من روايات وكتابات المشاركين والمعاصرين للحدث أو الكتابات المعاصرة التي تعرضت له. ما دفعني لكتابة هذه المقال ان المعلومات التاريخية التي يوردها عبد الله تؤخذ كحقائق لا تقبل الجدل، لأنها صدرت عن مصدر موثوق. ومن هنا تنبع أهمية الحوار حولها لإجلاء الحقيقة، خاصة وأنها تتعلق بواحدة من أهم مؤسسات المجتمع المدني السوداني وهي النقابة.
في البداية تحية واجبة ومستحقة للبروف عبد الله على إبراهيم في عيد ميلاده. امنياتي له بعمر مديد بكامل الصحة، ومزيدا من الاسهامات في الشأن العام السوداني.
نشر الأستاذ عبد الله علي إبراهيم مقالا في صحيفة سودانايل الغراء مقالا بعنوان ” مصرع الحداد ميرغني فرج الله بورشة العمرة (22 أبريل 1946): 74 عاما على مولد النقابة في حياتنا “، بتاريخ 22 أبريل 2020. وكان صلب مقاله مقتطف مطول من كتاب النقابي علي محمد بشير المعنون ” من تاريخ الحركة النقابية في السودان”، ابتدأ من صفحة 37 وانتهي في صفحة 45 من الكتاب. والذي اعتبره عيد ميلاد نقابة عمال السكة الحديد.
ويمكن تلخيص ما كتبه علي بشير في النقاط الاتية (أتمنى ان يكون تلخيصي وافيا):
- لعب الفصل الدراسي للأستاذ أحمد مجذوب ، الذي كام ينعقد بدار خريجي الصنائع ، دورا محوريا في التفاعل مع الحادث الأليم الذي تعرض له الحداد ميرغني فرج الله.
- اجتمع فصل الأستاذ أحمد مجذوب وقرر ارسال مذكرة لإدارة الورش.
- قاموا باختيار النقابي سليمان سعيد لإنه ( كموندة).
- قرروا انشاء لجنة ثم تحركوا لتعيين اللجنة من الأقسام (13 عامل).
- قررت اللجنة التي اختاروها، وفي اجتماعها الثاني تسمية اللجنة بلجنة شئون عمال السكة الحديد.
- نلخص محتوي ما كنبه علي بشير بان مجموعة صغيرة من الفصل (منها علي بشير نفسه) قادت المبادرة والتحرك حتى انشاء هيئة شئون العمال.
هذا ما قدمه لنا البروفسير عبد الله كميلاد لنقابة عمال السكة الحديد، والذي تناغم وتوافق مع ميلاده شخصيا.
ما يدفعني لكتابة هذا المقال ان عبد الله مؤرخ له مكانته العلمية، وان كل ما يصدر منه يعتبر حقيقة تاريخية صلدة، لا يمكن الشك فيها. وإذا اضفنا لذلك ان عبد الله عطبراوي يفخر بوطنه الصغير، وماركسي يعتذر بماركسيته ويرفع لواء الطبقة العاملة عاليا، هو كتشف خطورة ترك ما كتب بلا رد.
إذا قارنا رواية علي بشير وحديثه عن الدور الذي لعبه هو ولجنته التي تكونت من فصل الأستاذ أحمد مجذوب بجميع الكتابات الأخرى نجد انه جانب الحقيقة فيما كتبه.
وإذا عقدنا مقارنة سريعة لرواية النقابي علي بشير مع الكتابات الآتية، لا نجد ما يدعم روايته، وان الدور الذي أعطاه لنفسه خلال تلك الحقبة المبكرة لتأسيس اول نقابة في السودان هو دور غير حقيقي. وأهم تلك الكتابات هي:
- كتاب الطيب حسن ” مذكرات الحركة النقابية “. وهو أفضل وأكثر الكتب دقة في عرض كيفية انشاء هيئة شئون العمال.
- كتاب الحاج عبد الرحمن ” ملامح من تاريخ الحركة العمالية السودانية “.
- كتاب عبد الرحمن قسم السيد ” ميلاد الحركة العمالية السودانية “. هذا الكتاب هو نص لقاء مطول اجراه عبد الرحمن قسم السيد مع سليمان موسي اول رئيس لهيئة شئون العمال، وفيه يحكي كامل التطور من خلال مشاركته في النشاط.
- كتاب الشفيع أحمد الشيخ ” الحركة النقابية بين تيارين”.
- كتاب الدكتور مصطفي السيد ” مشاوير في دروب الحياة “.
- كتاب د. عثمان السيد محجوب ” ام المصالح: سكك جديد السودان السيرة والمسيرة 1900 – 1970″.
- كتاب الشفيع الجزولي ” المناضل الجزولي سعيد: رمز الحياة والامل وسيرة عامل سوداني “. مما يجدر ذكره عن الجزولي سعيد انه دفعة علي بشير في مدرسة الصنائع بعطبرة، ونال نوط الجدارة لإنه تخرج كأول الدفعة.
- كتاب حسن محمد علي ” تاريخ الحركة العمالية”.
- مقابلات حسن العبيد مع محجوب على (النقابي العجوز)، وهو أحد قادة أول لجنة للهيئة، حول تأسيس هيئة شئون العمال (نشرت كسلسلة من أربع حلقات).
(لم اذكر المراجع الإنجليزية لصعوبة الحصول عليها للقارئ الذي يود ان يتحقق بنفسه حول هذه الحقيقة التاريخية الهامة حول أول نقابة سودانية).
ما اود التأكيد عليه حول النقابي على محمد بشير انه لعب أدورا هاما في مراحل لاحقة من العمل النقابي. اهم تلك المراحل فترة أوائل خمسينات القرن الماضي، ثم خلال الدكتاتورية العسكرية الأولى. أما ما ذكره عن دوره خلال تلك المراحل المبكرة فقد جانبه الصواب. وقد قابلته شخصيا في لقاء حول تجربته النقابية، كما قرأت كتابه.
النقطة الأخرى التي أود ان أعلق عليها هي تعليق عبد الله عن دور قادة نقابيين يساريين. فقد كتب عن غيابهم: “وسيرى القارئ غياب من اشتهروا بيننا من نقابيّ عطبرة من مشهد البذرة الأولى للنقابة. فلن تجد قاسماً ولا الشفيع ولا الحاج “.
نلاحظ هنا تقبل عبدالله علي إبراهيم لكامل رواية علي بشير، لذلك نبه القارئ لغياب يعض أهم القادة النقابيين، وذكر بالاسم قاسم والشفيع والحاج.
ولنبدأ النقاش بقاسم أمين. قاسم هو المندوب المنتخب عن قسم الكهرباء لأول لجنة لهيئة شئون العمال. وقد اختير في ذلك الاجتماع التأسيسي كنائب لسكرتير لجنة هيئة شئون العمال. كما انه وقع مع نائب رئيس الهيئة علي محضر ذلك الاجتماع الذي اسموه ” الاجتماع التكويني لهيئة شئون العمال”.
أما دور الشفيع أحمد الشيخ في تلك المرحلة الباكرة فقد فصله الدكتور مصطفي السيد في كتابه المعنون ” مشاوير في دروب الحياة “.
أما الحاج عبد الرحمن فقد كتب عدة مقالات حول النقابات وقضايا العمال في مجلة العامل السوداني التي صدرت قبل تأسيس هيئة شئون العمال، ولعبت دورا بارزا في شرح فكرة النقابة وفي تنوير العمال عن ضرورة التنظيم. ومما يجدر ذكره هنا مشاركة بعض القادة النقابيين اليساريين بالكتابة في مجلة العامل السوداني، في اطار تنوير العمال، ومنهم محجوب علي و هاشم السعيد.
كما ان لكل جواد كبوة، فهذه كبوة المؤرخ عبد الله علي إبراهيم.
صديق الزيلعي
[email protected]
يا دكتور زيلعي
لم تقدم اي دحض لرواية عبد الله على ابراهيم
كل ما في الأمر انك احلتنا لمراجع، القارئ العادي لن يجري وراء تلك المراجع، ربما المتخصص سيفعل هذا، ويبدو ان الجملة التي دفعتك لكتابة هذا المقال هي:
(وسيرى القارئ غياب من اشتهروا بيننا من نقابيّ عطبرة من مشهد البذرة الأولى للنقابة. فلن تجد قاسماً ولا الشفيع ولا الحاج “.)
فهنا نفي تام لدور الحزب الشيوعي في تأسيس هذا الجسم، وهو يخالف الرواية الشيوعية التي تتبنى انها كانت البذرة الأولى لهذا العمل، وبالتالي ستترك الشيوعيين (في السهلة). فهم قد (كوشوا) على هذا التاريخ ويرفضون اي محاولة للنبش فيه او إثارة شكوك حوله، أو النظر لهم بانهم قطفوا ثمرة جاهزة لم يتعبوا في زراعتها.
نأمل منك بكل احترام التكرم بتوضيح ما غمض من كتاباتك وتفصيل الموضوع بدلا من احالتنا للمراجع. فقد كان سرد الدكتور عبد الله واضحاً ومشى بنا خطوة خطوة وقدم لنا رواية متكاملة.
هاك بعض حديثك:
(ولنبدأ النقاش بقاسم أمين. قاسم هو المندوب المنتخب عن قسم الكهرباء لأول لجنة لهيئة شئون العمال. وقد اختير في ذلك الاجتماع التأسيسي كنائب لسكرتير لجنة هيئة شئون العمال. كما انه وقع مع نائب رئيس الهيئة علي محضر ذلك الاجتماع الذي اسموه ” الاجتماع التكويني لهيئة شئون العمال”.)
فهنا انت تعترف بطريقة غير مباشرة بان هناك خطوات سبقت مرحلة وصول قاسم لمرحلة (المندوب المنتخب عن قسم الكهرباء)، فهل جلس عمال قسم الكهرباء وانتخبوه هكذا؟ أم أن هناك احداثا حدثت قبل ذلك لك لم يكن له فيها اي دور؟
ثم نرصد محاولات الهروب التالية، يقول الزيلعي:
( أما دور الشفيع أحمد الشيخ في تلك المرحلة الباكرة فقد فصله الدكتور مصطفي السيد في كتابه المعنون ” مشاوير في دروب الحياة “.
أما الحاج عبد الرحمن فقد كتب عدة مقالات حول النقابات وقضايا العمال في مجلة العامل السوداني التي صدرت قبل تأسيس هيئة شئون العمال، ولعبت دورا بارزا في شرح فكرة النقابة وفي تنوير العمال عن ضرورة التنظيم. ومما يجدر ذكره هنا مشاركة بعض القادة النقابيين اليساريين بالكتابة في مجلة العامل السوداني، في اطار تنوير العمال، ومنهم محجوب علي و هاشم السعيد.)
لم يحدثنا الزيلعي ولو بصورة مختصرة عن دور الشفيع.
اما كتابات الحاج عبد الرحمن وغيره من اليساريين في مجلة العامل السوداني، فهي تظل كتابات..لكن دكتور عبد الله يتحدث عن وقائع حدثت واجتماعات وخطابات وممارسات عملية، كان الحزب الشيوعي بعيدا عنها، وبالتالي لا يصح للحزب الشيوعي لملمة الموضوع ووضعه تحت ابطه باعتبار ان بعض كتابه كتبوا عنه، لأن اي كاتب مصري يساري او كاتب مغربي او نيجيري يمكن ادعاء ان هيئة شؤون العمال قامت على يده بناء على ما كتبه في مجلة العمال المصرية مثلا او الطليعة النيجيرية او التقدم المغربية او أي اسماء من هذا القبيل، والأسماء المذكورة مجرد امثلة وقد لا يكون لها وجود في الواقع.
لذا فهذه الحجة لا تجوز.
جواد الدكتور عبد الله حتى الآن لم تكبو …
الناس في شنو والشيوعيين في شنو؟!