من أين أتيتي يا جدتي العزيزة ؟ لا زلت أفتقدك بشدة فلا تذهبي.

من أين أتيتي يا جدتي ؟لا زلت أفتقدك بشدة فلا تذهبي.‏
أنني أفتقدك ّبشدة يا جدتي و يا صديقاتها العزيزات. و أعلن لكم بلا حدود شوقي و حبي ‏الطاغي بالرغم من أنكنّ بعيدات هناك ، بعد أن صعدتنّ إلى الأعالي في الرحلة الابدية ‏المحتومة.و قد عبرتنّ الحدود المادّية الفاصلة بين الصدق و الحق و بين الزيف و الباطل.‏‎ ‎‎
ما فتأت صوركنّ تلألأ في خاطري دائماً ،حتى بعد أن صِرتُنّ كائناتٍ أثيرية شفافة. و إن ‏أصبحت صةركن عندي أكثر تشيوءً و نضارة و أنصع حضورا و ألقاً مما كنت اعرفها في ‏صغري. ‏
كيف بعد كل هذه السنوات ـتأتون إلي و اتفجأ بكن تقفْنَ تحت نافذتي منتظرات ان انفض ‏الوسن الفجري عن عيني الساهرتين؟ ها قد اتاني صوتك طازجاً و نابضا مثل حبي لك يا ‏جدتي ؟ كيف اخترقتن بالله هذه الحُجُب؟ حُجُب السنين و الزمان؟كيف اتيتنّ مصطحبات ‏معكنّ الذكريات الأثيرة القديمة التي كنتي انت و صديقاتك ايقوناتها المضيئة. ‏
ما الذي اتى بجدتي اليوم ؟ ترى من ناداها بعد كل هذه السنين لتطل عليّ اليوم ؟ الآن انظر ‏إليها غير مصدّق و أنا اراها تقف تحت نافذتي تنظر إلي في حنان ‏كما كانت و أنا طفل ‏صغير.‏‎
‏كيف تذكرتني يا ترى بعد كل هذه السنين؟ من ناداها، من أيقظها من نومها الأبدي؟ ‏‎
يا بشراى! و يا لسعادتي! إنها لم تأتي وحدها.بل وراءها مجموعة من النسوة في سنها ‏تقرياً. ‏و لكني لم اتبين ملامحهن بعد. إنهم الآن يظهرون أمامي و تقف كل واحدة إثر ‏الأخرى ‏أمامي مُقدِمات أنفسهن و مُعرّفات بأنفسهن… هل نسيتهنّ أنا؟. يتقدّمن لكي اعرفهن‎
كجوقة ممثلين يحيّون الجمهور في ‏المشهد الختامي لمسرحيتهم.‏
الآن أنظر إليهنّ فأتعرف عليهم واحدة و احدة:. بشرية، زينب، سعاد، مدينة، ‏فاطمة، ‏فضلوا، نفيسة،زينب‎.
هاهم يقفن أمامي في حبور مزدحمات أمام نافذتي و ‏إبتساماتهن القديمة لا تزال ترسم ‏ملامحهن الطيبة ، التي لا تخفى عليّ و التي لم أنسها.‏‏‎

‎-‎ها نحن قد جئن لك خصيصاً… بعد أن دعوتنا‎.
‏- أنا؟
‏- نعم..أنت‎! ‎
‏- متى؟‏‎ ‎
‏- الم تحتفي بنا امس؟ ألم تدعوا لنا في صلاتك أمس.. بالليل؟‏
‏- آها….تذكرت( قلتها في خجل)‏‏‎.‎‏..تقصدون احتفالنا السنوي بذكر موتانا ‏‎)‎‏ يوم الجمعة ‏اليتيمة‎)‎الرحمتات‎(‎‏.‏‎
و بدات جدتي و صديقاتها يتزاحمن امام نافذتي ليتحدثن معي و هن في شوق و حبور.‏
خلال تلك الدقائق احتشد الافق بعبقهن الآسر و في شفاههن و في عيونهن و كلماتهن ‏اشواق السنين و توق الدهور. و تدفق سيل الالأسئلة الممزوجة بالحنين: ‏
‏- الحمد لله، لم تضع تربيتنا لك سدىً يا صغيري إذ لا زلت وفياً لذكرانا نحن العجائز ‏الراحلات.‏
‏- نراك لم تزل كما تركناك ، لا تفتأ تتذكر أحبابك و أصحابك.‏‎
‎ – ‎لعلك لا زلت تحب الحلوى؟
‏- لا بد ان اسنانك تضررت منها. فلتعتني بنفسك يا بُنيّ!‏
‏ – لماذا يا بني هذه الدمعات تلمع في أطراف عينيك؟ اه إنه الشوق و الحنين.‏
‏ و هكذا بدأ سيل الكلمات ‏المبتلة بالتوق والحنين يتدفق في نغمٍ اسيف من شفاه جدتي و ‏صديقاتها العزيزات.‏‎ ‎
ثم بعد دقائق دنت جدتي مني و ادنتني إليها كما كنت تفعل و انا صغير. ثم بدات تسالني ‏في حِنوٍ هامس:‏‎
‏- أحكي لجدتك بصدق ماذا فعل بك الزمان يا ولدي، ؟ ‏
‎-‎هل زوجتك في نفس وسامتك؟‏‎
‎- ‎‏ قل لي هل زوجتك طيبة مثلك؟‎ ‎أم هي مثل زوجات هذه الأيام كالحات الوجوه و ثرثارات و ‏نكديات؟‏
‎- ‎‏ كم عدد أبناءك؟‎ ‎ما هي أسماؤهن؟
‏- هل يشبهونك؟ أم يشبهون أمهم؟
‎-‎‏ ‏‎ ‎هل لا زلت تنسى فطورك كما كنت؟‏‎
‎- ‎هل لا زلت لا تحب طبيخ البامية المطبوخة؟‎
‏- لا اظنك الآن تخاف من كلاب الجيران كما كنت صغير.‏‎
‎- ‎‏ هـه قل لي بصدق!هل تذكرني دوماً ؟‏‎
‎- ‎‏ كيف تذكرتي بالأمس؟ أم أن طبق الزلابية الذي صنعته لك زوجتك الأمس هو الذي ‏جعلك تتذكرنا؟ ‏
‏- هل تتذكر ‏زلابيتي التي كنت تحبها؟‎ ‎‏‏أتذكر حين كان يسيل زيتها ليسرح في ثيابك؟‏
غيمة كثيفة من الحنين و الشجن حطت بثقلها فوق قلبي رويداً رويدا. ثم بدات غلالة شفافة ‏تحيط بالانحاء و دون وعيٍ او إحساسٍ مني تنسال الكلمات من داخلي دون ان احس و ‏دون ان تنتظر الامر مني:‏‎
‎- ‎‏ انا لم أنساكٍ يوماً يا جدتي منذ أن غادرتي بيتنا فجأة ذات امسية حزينة لا زالت ‏تفاصيلها في ذاكرتي كانها حدثت قبل ساعة.‏
‏ – لم أنساكِ و لم انسق صويحباتك و جاراتك العزيزات. الا ترينَ أني عرفتهن من أول ‏وهلة؟
‏ بينما كانت كلماتي تنسال من فمي كنت اراهن يبتسمنَ و يضحكن في حبور و تراءى ‏لناظري شبح ابتساماتهن الحلوة في وجوههن الوضيئة و هن يزددن اقتراباً مني. ‏‎
توقفت الكلمات برهة و دمعات حرّى تحجب الرؤيا عن عينيّ و فجأة يتهدج صوتي في ‏عفوية مفاجئة:‏‎
أشكو إليك يا جدتي حياتنا التي تبدلت بعد أن ذهبت و صارت بعدك ماسخة. بعد أن ‏احتشدت بالأحداث و تكاثرت لتنوء عن حملها تلك ‏السويعات القليلة المتاحة، و بعد أن ‏تضاءل الوقت فصار يومنا ساعة و صار أسبوعنا يوم. و أصبحنا يا جدتي و صديقاتها ‏الحميمات نهباً للتشرذم الحياتي و النسيان و الزهايمر المبكر. لقد ‏تغير الزمان يا جداتي و ‏تغيرت الحياة لعدكن فصار طعم الأشياء غير الذي كان. لقد كنّا في أيامِكُنّ نستمتع بطعم ‏الأشياء.و سمر الاصدقاء و رفقة اللعب و بحكي الكبار في ‏الليل و الظلام يُحكم حصاره ‏حولنا.‏‎
لا افتأ دائماً أذكر و نحن نتدثر بحبكم يا جداتي العزيزة. و لا زلت احس ملمس يديك ‏الحانيتين و هي تمسح عن قلوبنا اليافعة المخاوف و الظنون و انتٍ تضعين على وجوهنا ‏الحالمة دثار من الاحلام المباركة إيذاناً بإنقضاء يومٍ سعيدٍ.‏
لقد اختفيتنّ يا جداتي من حياتنا، هكذا في غفلة من الزمان. و توارتينّ دون أن نحسَّ، وراء ‏الغيب و الحُجُبْ. لقد كنتنّ جدات حقيقيات لكل طفل في الحي و أنت جارات و صديقات و ‏حارسات لأحلام طفولتنا البريئة‎. .
كم ذا وجدت شقاوة طفولية منا لصبيةٍ في الحي و مكر يافع بريء، دعوات صادقة و لمسات ‏حانية على الرؤس.‏‎ ‎لقد كنتنّ ‏مدرسة تعلم الحب الشامل و ليس الحب المتخصص،ليس ‏الحب المحدد بالأسرة أو ‏العائلة و الأقرباء‎.

‏كن يقفن خلف النافذة بينما ترجع ذاكرتي للوراء إلى تلك العقود من السنوت‎ .
التي كان فها ‏هؤلاء في الحي جارات و صديقات و حارسات لأحلام طفولتنا البريئة‎.
كن يوزعن الحب و ‏الرعاية في رضا على كل طفل و كل صبي في الحي. لا يفرقون بين ‏أبنائهن وين أبناء ‏الجيران…فالكل لديهنّ سواء.‏
ما بال الحياة اليوم قد عقمت من أن تلد جدات مثل هؤلاء الجدات؟ ‏
حانيات،صادقات، شفوقات، مخلصات، حارسات لطفولة الأطفال. كم جُدْنَ على شغفنا ‏الطفولي اللاهي بالحلوى بمنحنا بضع قطعٍ منها، لندسها ‏في أفواهنا الشرهة و في جيونا ‏المتسخة.‏‎
كم أنعمن على نفوسنا اللاهفة بالرفق و الحنان من كل حدب و صوب‎ .
كم منحننا في حبور، ‏الدعوات الصادقة و النظرات المتابعة الشفوقة و أفردن لنا الأحضان ‏الدافئة. ‏‎
كان حبهنّ لنا يسرح في الحنايا كما كان يسرح في كل الدروب، ليحرس خطواتنا الطفلة. ‏‏‎.
و كم و كم؟ حميتنّ ظهورنا و وجوهنا اللدنة من سياطٍ والدية لاهبة أو صفعات زاجرة أو ‏نظراتٍ ناهرة ناهية.‏‎
‎ -‎‏لماذا ذهبتنّ أيتها الجدات ؟ هكذا دون إنذار؟ ‏‎
‎ -‎لماذا تركتنّ أطفال اليوم في ‏صحراواتٍ القاحلة؟‏‎
‎- ‎لماذا تركتموهم ضائعين في لهيب الحياة المعاصرة الجافة ؟ ‏
‏-لماذا و قد صارت الحياة مرتعا و موئلاً للفردانية الكالحة و لخُلّب العولمة الكاذبة و الحب ‏الزائف و المشاعر المداهنة؟ ‏‎
‏لماذا تركتننا لمصيرٍ مجهول بين عالم التقنية الماكرة، و ركام ‏الأجهزة و الإليكترونيات ‏الجامدة القلب و الأحاسيس؟‎
كنت أسائل فيهن عن غيابهن الباكر و قد تركننا و ذهبن فجأة. و نحن في ‏صبانا كنا ‏لاهون، و غافلون‎.
فارقونا و نحن و أطفال.و اليوم لازلنا في أشد الحاجة ‏إلى حنانهنّ المخلص، و رعايتهنّ ‏الصادقة‎. ‎لقد تركتننا و نحن نواجه اليوم قلقنا الميتافيزيقي و أزمة مصيرنا وجودي منذ أن ‏دلفنا إلى منحنى الألفية الثانية‎.
و نحن قاب قوسين أو أدنى ‏من السقوط من فتحات كوكبنا هرباً من مصيرٍ كونيٍ مجهول‎.
و هرباً من حكام ‏ظلمة أفسدوا في الأرض و عذبوا البشر و مزقوا دفاتر التاريخ ‏‎
قبل أن يقرأوا ‏صفحاته و تدّروا أحداثه ليقرأوها و ليفهموها و ليعرفوا مصيرهم المنتظر ‏‎
من خلال سير الحكام الظلمة الذين لطخوا جبين البشرية و الإنسانية ‏والتاريخ. ‏
و فجأة في غمرة اندياح مشاعري انتبهت ..لقد نسيت جدتي و صديقاتها واقفت يسمعن و ‏هنذ صامتات. ‏مالي لا ارى جدتي و صديقاتها خلف النافذة المفتوحة؟ أين اختفين؟
يا للاسى قد اختفين من خلف النافذة. اترى اقلق ضوء الصباح هدوءهن الاثيري الشفيف؟ ام ‏ان مجرد ذكر حياتنا المعاصرة جعلهن ينسحبن لئلا تمسّ براءة و طهر كن قد عشن فيه و ‏عليه و به؟
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..