الحقيقة

د. عوض النقر بابكر محمد
قصة قصيرة
(من زعم انه يعرف كل الحقيقة فهو واهم نمتلك جزءا منها والباقى محض ظنون وهذا القول بعينه ينطبق على حرب السودان) .
انحنت اشجار النخيل الباسقة امام سطوة الرياح الجنوبية الغربية المطيرة والتى كانت تعوى فى جنون يحكى عمق الجفاء بين النخيل والمطر . عمى احمد الذى تجاوز الثمانين من عمره كان يمسك بفنجال القهوة بين اصابعه الطويلة فى ثبات يتحدى منعطفات الزمن ورغم كل شىء لم يكف عن سرد تلك القصة الغريبة التى ارقتنى طويلا كان ينسج كلماتها من وميض البرق وهدير امواج النيل وهى تضرب الضفة الطينية ويوشيها بانين سقف الغرفة الطينية المصنوع من جريد النخيل تحت وقع قطرات المطر, ثم يمضى قدما فى رواية احداثها … ارخى فتيلة مصباح الجاز العتيق فتراقصت الظلال استطالت ثم انكمشت وهو يتامل وجهى ليتاكد من اصغائى وقد كنت فعلا كذلك قال كانت حياة جدك عادية جدا يصلى ويصوم كباقى الناس يعمل فى النهار وحتى مغيب الشمس فى مزرعته وتربية بهائمه من الضان والماعز والابقار, يصل الرحم ويغيث الملهوف ,تجده واقفا بقامته الفارعة فى مقدمة الناس عند افراح اهل القرية واحزانهم يعمل بيده ويساعد بماله لذلك احبه الناس الا العمدة فقد كان يرى فيه خصما محتملا !!فقط ما لم يعرف عنه هو سر تلك الرحلة الغامضة التى يقوم بها كل اسبوع حيث يستيقظ قبل الفجر يدفع قاربه القوى المصنوع من خشب السنط الى داخل النهر ويجذف بقوة تجاه مغرب الشمس حتى يختفى عن الانظار ذلك اليوم لا يعود الى البيت الا حين يبتلع النهر آخر شعاع ارجوانى من قرص الشمس, يقول بعض الناس انه كان يتجه ناحية مشرق الشمس محاذيا للشاطىء اذ ان قريتنا تقع فى بقعة يلتوى ويتمطى فيها النهر , والله وحده اعلم توقف عمى لوهلة حتى يتلاشى صوت الرعد المخيف تناول جرعة من الماء حك ارنبة انفه ثم اصغى الى وانا اساله فى قلق الم يعرف احد السر حتى الآن؟ اصلح من وضع طاقيته ثم قال كان جدك يعرف طبيعة شخصيتى والتهور الذى اتميز به لذلك حين اعتراه شىء من الضعف اختار اباك ليذهب معه فى تلك الرحلة الغامضة ذلك اليوم كنت اغالب الصبر حتى عاد اخى لكى اعرف منه كل شىء .لم يكن على طبيعته ابدا كان زائغ العينين مشتت الذهن قال لى رفعنا الى القارب عددا كبيرا من جوالات القماش التى لا اعلم ما تحتويه وسرنا الى داخل النهر , الدنيا وقتها فى موضع ما بين الضياء والظلام حين رايت عشرات الايدى تبرز من النهر تريد فتح تلك الجوالات الغامضة اعترتنى نوبة هلع لم اعرف لها مثيلا كان العرق يغمرنى وجسدى يهتز بعنف حين انتبه ابى فسار من مقدمة القارب الى فى الخلف وقف امامى ثم صفعنى بقوة سقطت منها على ارضية القارب ولم استيقظ الا ونحن فى رحلة العودة الى الدار مع آخر شعاع ارجوانى على وشك المغيب …….. لم يفيدنى بشىء بل وتركنى اشد حيرة واكثر تلهفا للمعرفة …. ثقلت كلمات عمى ثم ما لبث ان غط فى نوم عميق اطفات المصباح وخرجت الى الشارع كان المطر قد اصبح رذاذا وتحولت الرياح الى نسيم عليل , جدى ذلك الشخص الغامض الذى فارق الدنيا قبل اكثر من عشرة اعوام ولا زال الناس يشعرون بوجوده بينهم حتى ان احدهم قد زعم بانه قد رآه فى صلاة الفجر وهو يصلى معهم وآخر قال بانه قد اتاه فى المنام واوصاه ان لا يزوج ابنته لذلك الرجل الذى خطبها منهم كلما اعود الى هنا اتذكر كلام الناس عنه البعض كان يقول عنه بانه يذهب الى قوم من الجن فى ذلك المكان الخفى وهذا يفسر سر ثرائه الفاحش شيخ عبدالله امام المسجد كان يقول عنه بانه رجل صوفى صالح يذهب الى ذلك المكان لاجل الخلوة والتامل اما تاج الدين والذى عرف بحبه للحشيش فقد كان يقول عنه بانه واحد من عظماء الحشاشين يستجيب لاحكام المزاج كما ينبغى ثم ينخرط فى قهقهة لا حد لها , عبد الجليل هو الذى كان ينظر الى الامر بشكل تجارى كان يظن بان جدى يعمل فى التجارة مع سكان احد الجزر الامر الذى يعود عليه بالمال الوفير ولذلك فهو يعيش على جمر حتى يعرف السر, ابن العمدة كان يعتقد بانه يدرب جنودا من الجزر البعيدة للثورة على الحكومة اما قريبنا جعفر الذى عرفه الناس بزيجاته المتعددة فقد قال فى قناعة تامة بان الرجل له اكثر من زوجة فى الجزر البعيدة اما جدتى رحمها الله فقد قالت عنه فى بساطة كان زين الرجال فى حله وترحاله.
هكذا اختلف الناس عليه فى حياته ومماته, عدت الى الدار وقفت امام باب غرفته التى لم يفتحها احد منذ وفاته حيث قررت ان اقتحمها عنوة عسى ان اعرف شيئا لم يعرفه الاخرون اول ما قابلنى هى تلك الرائحة القوية ربما هى مزيج من انواع البخور لست ادرى ! ثم ذلك العدد الهائل من قطع القماش مختلفة الالوان . وهناك جوار الحائط مجموعة كبيرة من الكتب التى هدها ثقل الزمن توجهت نحوها على ضوء الشمعة التى احملها حين ضرب البرق فى شدة بثت الرعب فى نفسى كانت معظم الكتب فى الفقه والسيرة وبجوار الطاولة كان هناك بضع اوراق بخط اليد ليس بها شىء غير حسابات بيع وشراء ثم فى ورقة اخيرة كانت هناك اسهم تشير الى اتجاهات غامضة ورغم ذلك قررت ان اتبعها .فى صبيحة اليوم التالى ذهبت الى الشاطىء وبدات ارمم فى القارب الذى لم يستعمله احد منذ وفاة صاحبه ادهن بقعة هنا واضع لوحا مكان آخر تالف ثم اعلنت فى سوق القرية باننى سوف اذهب غدا الى المكان الذى كان يذهب اليه جدى ومن يريد ان يرافقنى يمكنه الحضور.
صباح ذلك اليوم حضر الجميع الى الشاطىء عند موقع القارب لم اتوقع قوة الاستجابة حضروا جميعهم حتى شيخ عبدالله امام المسجد . لم يحضر تاج الدين وذلك لقناعته التامة بان جدى من عظماء الحشاشيين او لعله يريده كذلك.
كان الجو ربيعيا ينعش الروح والجسد دفعنا القارب الى عرض النهر والجميع يعتقد باننا نسير وفق خريطة تركها جدى وهى كذلك لكننى لم اكن واثقا حتى بانها خريطة اصلا. ذلك جلال مهيب النهر يلتصق بالسماء والصمت عدا اصوات حشرات تتطاير حولنا وبعض العصافير المبكرة , لم يفلح احد فى كسر دائرة الصمت الرهيب حتى تحدث شيخ عبدالله قائلا (كان جدك رجلا صالحا نفع الله به البلاد والعباد ودعنى اقول لك بانه منذ ان توفاه الله لم يمر علينا موسم واحد يشبه مواسمه معنا حتى اشجار النخيل شح طرحها .. رحمه الله كان له اسراره ومن منا ليس له اسرار). نظر الى الوجوه من حوله ليرى صدى حديثه ولكن الجميع كان يتعذب بنار الانتظار توسطنا النهر تماما حين تبدل وجه النهر ارتفع الموج وظهرت غيوم من حيث لا ندرى وابتدات لعبة الحياة والموت بين القارب والنهر كانت الحركة العنيفة تدفع الجميع من مؤخرة القارب الى مقدمته والعكس حتى سقط الجميع من الاعياء فى جوف القارب وكاننى فى تلك اللحظة كنت ارى العديد من الايدى ترفع القارب الى الاعلى كلما اوشك على الغرق ثم رايت عشرات النسور غير عابئة بالمطر تنتظر انجلاء المعركة ثم لم اسمع او ارى شيئا بعد ذلك حتى اصطدم القارب بالضفة الطينية وبدانا نفيق واحدا اثر الآخر حتى اكتمل عقدنا فربطنا القارب وتسلقنا الضفة الطينية العالية كانت المنطقة جرداء لا نبات فيها وليس هناك غير طريق من الرمل الابيض ينتهى عند خط الافق حيث قرص الشمس الكبير ثم بدأ الضوء فى الانحسار فلم نعرف هل هو شروق ام غروب ام ان الفجوة بينهما قد ضاقت حتى اختلط علي الامر او ربما هذا ما اشاهده انا! كان الجمع ينطلق الى الامام فى اصرار ام لا وعى لست ادرى كان قريبنا جعفر الاكثر اندفاعا لعله راى اسرابا من الحوريات المسعورات بالشبق وكذلك عبدالجليل ربما الرمال البيضاء التى اراها انا يراها هو اكواما من الذهب لست ادرى, وقف شيخ عبدالله فى وجهنا وهو يرتل آيات الطمأنينة واجبرنا على التقهقر الى الوراء كنا نتبعه وكاننا تحت تاثير تنويم مغناطيسى حتى ادخلنا الى جوف القارب لننطلق فى سرعة برغم ان رجلا واحدا بيننا هو الذى كان يجذف ….. وصلنا الى الضفة وخرجنا الى الشاطىء وولينا وجوهنا شطر الديار لم نتحدث عن اى شئ ربما كان الكل راضيا فقد راى ما يريده ويعزز من قناعته بصدق توجهه.
تركنا النهر وراء ظهرنا فى طريقنا للقرية حين التفت فجاة الى النهر ادركت اننا لم نربط القارب الذى انطلق الى جوف النهر حتى غاب عن الانظار واصبح نقطة عند حافة الافق الى ربما ذهب الى هناك حاملا معه كل الاسرار الى الشاطىء الجديب والرمال البيضاء وشروقا اشبه بالغروب!!!
عبارات رشيقة وآلاف الايحاءت تفتح المجال لتاويلات لا نهاية لها استاذ النقر انت من مظاليم هذا المجال الابداعى – ليس لك اصدقاء فيه ولم ارى ناقدا يتحدث عن اى من اعمالك الكثيرة؟؟ الى متى تسيطر الشللية لتسلط الضوء على من لا تستحق اعمالهم حتى القراءة
صدقت والله فى مقدمتك حرب السودان التى استعصت على الحل لا احد يعرف كل الحقائق عنها
انا والله ما بعرف اجامل واقول للاعور اعور فى عينه لكننا فعلا امام كاتب متميز فى عالم نيلى مدهش ووجهة نظر اقرب الى دوامة نهرية لا تدع اليقين شكا ولا الشك يقين تميل لهذا مرة ولذلك مرة اخرى لتعطيك حرية الطفو شكرا لك نتظر المزيد
عند سؤال جدته عن جده اللغز اجابت كان خير الرجال فى حله وترحاله اى تكريم للمراة حين تكون لديها الحقيقة التى نبحث عنها هذه مجرد قراءة