مقالات وآراء

الذهب في السودان .. بين الانتعاش الاقتصادي والفساد المؤسسي : ثروة وطنية مهدرة

عمر سيد احمد

 

لطالما كان الذهب أحد أعمدة الاقتصاد السوداني، حيث يُشكل مصدراً رئيسياً للعملة الصعبة وأحد الموارد الطبيعية الأكثر قيمة في البلاد. لكن بدلاً من أن يكون منجمًا للرفاهية والتنمية، أصبح الذهب لعنةً اقتصادية بسبب سوء الإدارة، الفساد، والتهريب. هذا الوضع أدى إلى فجوة غامضة بين الإنتاج والعائدات، وسط حرب أهلية مستمرة تهدد وحدة السودان واستقراره.

قفزة في الإنتاج .. وتراجع في العائدات

وفقًا لتقرير حديث نشرته وكالة بلومبيرغ في 24 فبراير 2024م، كشفت بيانات الشركة السودانية للموارد المعدنية عن قفزة هائلة في إنتاج السودان من الذهب، حيث ارتفع إلى 65 طنًا في عام 2024م، مقارنة بـ 34.5 طنًا فقط في عام 2022م، أي بزيادة بلغت 88.4%. ومع ذلك، وبشكل مثير للدهشة، انخفضت العائدات إلى 1.6 مليار دولار فقط في 2024م، مقارنة بـ 2.02 مليار دولار في 2022م، أي بتراجع بلغ 26.3%، رغم أن أسعار الذهب العالمية شهدت ارتفاعًا قياسيًا بأكثر من 30% منذ عام 2022م، وفقًا لمجلس الذهب العالمي.

هذا التناقض الصارخ بين الإنتاج والعائدات يثير تساؤلات حتمية حول الفجوة بين الأرقام الرسمية والواقع الاقتصادي، خصوصًا أن الحكومة السودانية خفّضت الضرائب والرسوم على المُعدّنين التقليديين، مما شجّع الكثيرين منهم على دخول السوق الرسمي، كما تم تشديد الرقابة على عمليات التهريب.

كيف تضاعف الإنتاج بينما تراجعت العائدات؟

منطق الاقتصاد البسيط يقول إنه إذا زاد الإنتاج وارتفعت الأسعار، فيجب أن ترتفع العائدات أيضًا. لكن ما يحدث في السودان هو العكس تمامًا، مما يشير إلى وجود اختلالات جوهرية في إدارة قطاع الذهب.

وفقًا لرئيس قسم التخطيط والبيانات في الشركة السودانية للموارد المعدنية، الصادق الحاج، فإن الزيادة في الإنتاج تعود إلى تخفيف الضرائب والرسوم الحكومية على المعدّنين الأهليين، الذين شكل إنتاجهم 53 طنًا من إجمالي الإنتاج، بينما لم تنتج الشركات الكبرى الحاصلة على تراخيص سوى 12 طنًافقط. ورغم أهمية هذا التفسير من ناحية تحفيز التعدين الأهلي، إلا أنه لا يفسر انخفاض العائدات، مما يترك الباب مفتوحًا أمام عدة احتمالات خطيرة.

التهريب .. أكبر المتهمين في المعادلة الغامضة

التهريب هو المتهم الأول في تفسير هذا التناقض. وفقًا لتقارير محلية ودولية، فإن نسبة كبيرة من الذهب السوداني لا يتم تصديرها عبر القنوات الرسمية، بل تُهرَّب إلى الأسواق الإقليمية والدولية، وخاصة إلى الإمارات وتركيا عبر شبكات معقدة تتورط فيها جهات نافذة. ويقدر مختصون أن السودان يخسر سنويًا مليارات الدولارات بسبب عمليات التهريب، وهو ما يفسر التناقض بين الأرقام الرسمية والواقع الاقتصادي.

كما أن هناك اتهامات بتورط شركات أجنبية في استغلال الذهب السوداني دون أن تستفيد منه البلاد. فقد استأنفت شركتا “تحالف للتعدين” و**“كوش للاستكشاف والإنتاج”**، التابعتان لشركة “إميرال ريسورسز” الإماراتية، عملياتهما في ولاية البحر الأحمر، التي تخضع لسيطرة الجيش السوداني، وتمكنت الشركتان من تصدير أكثر من طن من الذهبخلال عام 2024م.

التلاعب في العقود والأسعار: أين ذهب 2.3 مليار دولار؟

هناك احتمال آخر وهو أن جزءًا من الذهب يُباع بأسعار أقل من السعر العالمي لصالح جهات مستفيدة، سواء عبر عقود غير شفافة أو عمليات بيع لا تخضع للرقابة الكافية. فإذا كان متوسط سعر الذهب في عام 2024م يقارب 1900 دولار للأوقية، فإن قيمة 65 طنًا من الذهب لا يجب أن تقل عن 3.9 مليار دولار، ومع ذلك لم تعلن الحكومة سوى عن 1.6 مليار دولار فقط، ما يعني أن أكثر من 2.3 مليار دولار مفقودة أو لم تدخل الخزينة العامة! .

لطالما تم الحديث عن تهريب الذهب، التلاعب في التصريح بكمية الصادرات، وغياب الشفافية في إدارتها، لكن كما قال الشاعر السوداني الراحل محمد الفيتوري:

“الأشياء ليست هي الأشياء،

حكيم القرية مشنوق،

والقرّدة تلهو في السوق …

ويا محبوبي؛ ذهب المُضْطَّر نحاس.”

السودان : أكثر دول العالم فسادًا وفقًا لمنظمة الشفافية الدولية .

ليس من المستغرب أن يكون السودان من بين أكثر دول العالم فسادًا، مما يفسر بوضوح الفجوة بين إنتاج الذهب وعائداته. وفقًا لتقرير منظمة الشفافية الدولية (Transparency International) لعام 2024، جاء السودان في المرتبة 170 من أصل 180 دولة، بحصوله على درجة 15 فقط، مع تراجع -5 نقاط عن العام الماضي.

ويرجع هذا التصنيف المتدني إلى الأزمة الإنسانية والفساد المتفشي، خاصة بعد ما يقرب من ثلاث سنوات من الحرب الأهلية بين القوات المسلحة السودانية بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي). ومع استمرار هذا الصراع الدموي، تزداد صعوبة فرض الرقابة على الموارد الوطنية، مما يسهل عمليات التهريب والاستيلاء على الذهب لصالح جهات غير معلنة.

اتفاقيات جديدة .. هل تنقذ الاقتصاد أم تعزز النفوذ الخارجي؟ .

في محاولة لتقليل الاعتماد على الإمارات في معالجة الذهب، وقع السودان اتفاقًا مع قطر لإنشاء مصفاة جديدة للذهب في الدوحة، وهو تطور قد يغير مسار تجارة الذهب السودانية في المستقبل. ومع ذلك، يظل التساؤل قائمًا حول ما إذا كانت هذه الخطوة ستمثل إصلاحًا اقتصاديًا حقيقيًا أم أنها مجرد إعادة توزيع للنفوذ الإقليمي على ثروة السودان المعدنية.

الحرب والانقسام السياسي .. تعقيدات إضافية

رغم الانتعاش النسبي في قطاع الذهب، إلا أن الحرب الأهلية لا تزال تلقي بظلالها الثقيلة على السودان.

الذهب في السودان : نعمة أم نقمة؟

رغم أن السودان يمتلك احتياطيات ضخمة من الذهب، إلا أن الفساد، ضعف الرقابة، والتهريب جعلت هذه الثروة نقمة بدلًا من نعمة. ومع استمرار الحرب والصراعات السياسية، يبقى مستقبل الذهب في السودان معلقًا بين أمل الانتعاش الاقتصادي وخطر استمرار النزيف المالي.

السؤال الأهم : هل تستطيع حكومة الأمر الواقع القضاء على الفساد واستعادة السيطرة على ثروتها الوطنية؟ أم أن الذهب سيظل مجرد “ذهب المُضْطَّر نحاس”؟ الأيام القادمة وحدها ستكشف الحقيقة.

 

[email protected]

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تعليق واحد

  1. تتحدث عن الذهب وضياع عائداته فما بالك بالمورد الانسانى الاكثر اهمية من اى مورد اخر فالسودان ربما يكون هو البلد الوحيد فى العالم الذى لا يضع اعتبارا لكادره البشرى فى اى مجال سيما التخصصات النادرة الا يكفى السودان عارا ان ينتهى شخص كمحجوب عبيد رحمه الله مغتربا باحثا عن لقمة عيش خارج وطنه وهو الذى تتلمذ على يديه الاف الفيزيائيين السودانيين والوف اخرون من امثال البروفيسور المرحوم عبيد..ان الطريقة التى سمح بها السودان لبعض الدول للاستفادة من خبرة كوادره لم تكن رشيدة ابدا اذ كان التركيز يتم على الضرائب والجبايات دون النظر الى الفراغ الذى يحدثه غياب تلك الكوادر داخل الوطن حتى تم افراغ البلد بالكامل. اذ كان من الممكن الطلب ان يكون التعاقد على سبيل الاعارة مع شرط المساهمة فى بناء المؤسسات المعنية فنيا وتدريب الكوادر البديلة.. حدث لعميد احدى كليات البيطرة ان اوكلت له احدى الجامعات الخليجية انشاء كلية مماثلة فيها كرصيفتها السودانية وقدمت له التسهيلات حط الاستاذ الجليل بالخرطوم وتعاقد مع كل العاملين بالكية المعنية بمن فيهم الفراشون وامناء المكتيات وفنيو المعامل وفقدت الكلية ذات صباح كل العاملين فيها ويقال ان عامل البوفيه لحق بهم فيما بعد..السودان كل موارده تهدر وتتلف بطريقة سبهللية تدعو للرثاء والحيرة ولا تضاهيها دولة فى هذه القارة ربما تكون نيجيريا قريبة منه فقد حدث فى التسعينات من القرن الماضى ايام الجنرال المشهور ابراهيم بابنجيدا والمعروف فى نيجيريا اختصارا ب ( I B B ) ان قدمت لجنة من الجامعات الامريكية فتعاقدت مع اغلب الاساتذة ومساعدى التدريس فى الجامعات النيجيرية سيما فى المجالات التطبيقية مما سميت بعملية تفريغ الجامعات النيجرية .. ولا ننسى هنا بطبيعة الحال دور السياسة فى طرد الكوادر ولعل الانقاذ اوضخ مثال على ذلك رغم ان النميرى لم يكن بافضل حالا ولربما نضيف اليهم الصادق المهدى فى عدائه غير المبرر وهجومه السافر على كل من د عشارى احمد محمود وزميله سليمان بلدو لنشرهما كتابا يوثق لمجزرة الضعين والرق فى السودان ..تلك الممارسات هى التى اودت بالسودن الى الحالة التى نراها الان.. فقد غابت طبقة من المتعلمين ممن يخططون ويستشرفون المستقبل ويقترحون الحلول للقضايا الشائكة وارتفعت اصوات المتملقين الطفوليين بل تسلل الى مرافق الدولة من يحملون الشهادات المزورة وانهار كل شئ لا الطبيب صار قادرا على علاج مريض ولا الادارى صار متمكنا من تجويد عمله وتسلق اصحاب الولاء دون اصحاب القدرات اذن فماذا نتوقع غير ان يتذيل السودان قائمة الشفافية الدولية .. نشرت جريدة التلغراف الهولندية عام 2016م ان شقيق المخلوع الراقص كان يستخرج جوازات سفر سودانية لغير السودانيين لقاء مبالغ وصلت فى بعض الاحيان الى عشرة الاف دولار للجواز… اذا كان هذا شقيق الرئيس فماذا نتوقع ان يكون الحال.. نعم الذهب سلعة لها قيمة ويمكن ان تساهم فى تعزيز الاقتصاد السودانى ولكن قبل ذلك علينا النظر بعمق حيال توفير الكادر الذى يعطى للذهب قيمته الحقيقية كل موارد السودان مهدرة والامور تسير فيه بعشوائية فلا غرابة اذن تفشى الفساد والرشوة والمحسوبية فقد قال رجل البر والاحسان الشيخ الراجحى رحمه الله بانه راى صورا من الفساد فى السودان لم ييتخيلها فى اسوأ كوابيسه طوال حيال عمره الذى امتد لما يقارب المئة عام وقال بالحرف الواحد ان ( فساد السودان غير)…

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..