في ذكرى معركة كرري

كرري تحدث في ذكراها

في ذكرى معركة كرري

أما آن للسودان أن يطالب الإنجليز بالإعتذار عما إرتكبوه
من جرم وإنتهاك لحقوق الإنسان في معركة كرري

محمد داود الخليفة

السيد محمد داود الخليفة، رحمه الله، من القادة السياسيين المتمرسين. وهبه الله قوة في العقل ورجاحة في الرأي وفصاحة في اللسان وشجاعة في البيان مع خبرة اكتسبها عبر تقلده مناصب عديدة وتصريفه مسؤوليات وطنية جليلة ـ وهو حفيد الخليفة عبدالله خليفة الإمام المهدي الذي حكم البلاد نحواً من ثلاث عشرة سنة. والسيد محمد خريج كلية الزراعة ـ كان غزير العلم واسع الثقافة تدرج في العمل الحكومي في حقل الزراعة حتى بلغ اسمى المناصب وأرفعها. وفي حقل الزراعة كان رئيساً وقائداً للكثير من الشركات والمؤسسات الخيرية الناجحة المرموقة، وفي حقل السياسة تبوأ مركزاً قيادياً في حزب الأمة وفي النيابة والوزارة حيث كان وزيراً للحكومة المحلية ووزيراً للدفاع، وكان له إسهام بارز في لجنة الاثني عشر التي وفرت الحلول لمشكلة الجنوب قبل إنقلاب مايو الذي قضى على الأخضر واليابس ـ كما في المجال الدولي ـ فقد كان السيد محمد داود الخليفة ممثلاً للأمم المتحدة في منظمة الأغذية والزراعة الدولية ومبعوثاً شخصياً لمديرها العام لدى حكومات الدول العربية. رحمه الله رحمة واسعة فقد كان يناضل من أجل رد الاعتبار لشهداء كرري الذين ضحوا بأرواحهم من أجل استقلال السودان وبذل الغالي والرخيص في ذلك فكان سلاحه قلمه وماله الخاص الذي أنفقه في المحافظة على بيت الخليفة الموكولة به الدولة، فهو رجل بقامة دولة، كما قام بالمساهمة في تشييد صرح شهداء أم دبيكرات تخليداً لذكرى شهدائة. ألا رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه في فسيح جناته.

في يوم الجمعة 2 سبتمبر العام 1898م، ومنذ أكثر من مائة عام مضت غزت الجيوش الإنجليزية والمصرية أرض السودان وتوغلت فيه بعد زحف دام قرابة العامين حتى وقفت صبيحة ذلك اليوم المشؤوم في سفوح جبال كرري المطلة على مدينة أم درمان عاصمة الدولة المهدية آنذاك … وبواخرهم المحملة بالمدافع تمخر عباب النيل .. ودارت المعركة … ووقف أباؤنا وأجدادنا كالأسود وعلى رأسهم الخليفة عبدالله ـ خليفة المهدي ـ يذودون عن وطنهم ودينهم وأرضهم وعرضهم ـ وهم يتدافعون نحو النصر أو الشهادة دون خوف أو وجل ويتنادون لضم الصفوف في هجومهم على الغزاة ولسان حال كل منهم يقول:

ولست أبالي حين أُقتل مسلماً ــ على أي جنب كان في الله مصرعي

ومدفع المكسيم اللعين الذي كان استخدامه محرماً في الحروب الأوربية ـ جاؤوا به من مصانع الموت والهلاك في أوربا ليجربوه لأول مرة في معركة كرري ـ كان هذا المكسيم اللعين يحصد الأرواح صفاً إثر صف .. والوقت يمضي والآباء والأجداد يتساقطون شهداء مقبلين غير مدبرين مما أرهب الأعداء وأثار دهشتهم حتى قالوا عنهم فيما كتبه السير ونستون تشرشل الذي كان مراسلاً حربياً في تلك المعركة في كتابه “حرب النهر” كتب يقول:ـ

(لو كانت مقومات النصر في ذلك اليوم في معركة كرري ترتكز على الشجاعة والإقدام والثبات والإيمان بالمبدأ والتضحية والفداء، لكانوا هم ـ أي الأنصار ـ المنتصرين … ولكن لحسن حظنا ـ لم يكن النصر في ذلك اليوم الرهيب لهذه المقومات بل كان لمن يمتلك السلاح الأقوى ومدفع المكسيم ـ وكنا نحن ـ لذا فنحن لم نقهرهم في كرري ولكننا دمرناهم بقوة الحديد والنار) … وسبق أن قال تشيرشل عن الأنصار في نفس الكتاب إنهم أشجع من مشى على وجه الأرض … والفضل ما شهدت به الأعداء.

وانجلت المعركة عن استشهاد اثني عشر ألف شهيد وأكثر من ستة عشر الف جريح في أقل من خمس ساعات!!! إن شجاعة الأنصار وثباتهم في كرري أجبرا الإنجليز على احترام السودانيين وحدهم دون باقي الأمم التي استعمروها.

ثم قام بعد ذلك الجنرال كتشنر سردار الجيش المصري وقائد الجيش الغازي باصدار أوامره بقتل جميع الجرحى في أرض المعركة ـ ستة عشر الف جريح ـ قتلاً مباشراً وقد تم ذلك وبدم بارد.!! حتى أن السير ونستون تشرشل الذي سبق ذكره والذي أصبح رئيساً لوزراء بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية ـ كتب في كتابه السابق يصف تلك الفظائع والجرائم اللا إنسانية التي إرتكبها كتشنر بقوله:ـ

(إن النصر في معركة كرري ليتوارى خجلاُ من العار الذي لحق به من جراء جريمة الذبح والقتل اللا إنساني لجميع الجرحى في أرض المعركة الذين فاق عددهم الستة عشر ألف جريح ـ والمسؤول عن ذلك هو كتشنر). إنتهى كلام تشرشل.

والآن ـ فإذا كان اليابانيون يطالبون الأمريكان بالإعتذار لهم عما إرتكبوه من جرائم وظلم ضد حقوق الإنسان الياباني منذ أكثر من ستين عاماً مضت لضربهم هيروشيما وناجازاكي وقتل المئات من الألآف من السكان الأبرياء ـ رجالاً ونساءً وأطفالاً ـ

ويطالب اليهود الألمان بالإعتذار لهم وتعويضهم لما إرتكبته النازية وزعيمها هتلر من فظائع وإبادة جماعية لليهود في ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945).

ويطالب البوسنيون في يوغسلافيا السابقة الصرب بالإعتذار لهم وتعويضهم لما إرتكبه الصرب في حق شعب البوسنا من جرائم واغتصاب وإنتهاك لحقوق الإنسان والقتل والمقابر الجماعية للأبرياء خلال الحرب بينهما في السنوات الماضية ..

واليوم يطالب المصريون الإسرائيليين واليهود بالإعتذار لهم وتعويضهم عما فعله الجنود الإسرائيليون بالأسرى المصريين في صحراء سيناء مما يعد إنتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان وتقاليد الحروب وحقوق الأسرى ..

وبالأمس إعتذر الرئيس الأمريكي للشعوب الأفريقية عما إرتكبته أمريكا من إنتهاك لحقوق الإنسان في تجارتها للرقيق من أفريقيا في القرن الثامن عشر الميلادي والظلم ??0 والاستعباد الذي حاق بالإنسان الأفريقي على أيديهم بسبب هذه التجارة!!!

فإذا كان كل هؤلاء يطالبون بالإعتذار والتعويض للجرائم اللا إنسانية والإنتهاكات البشعة لحقوق الإنسان التي إرتكبت ضد الأبرياء والأسرى والجرحى ـ نساءً وأطفالاً ـ خلال الحروب التي خاضوها … فإذا كانت مثل هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم أو مرور الزمن … أفلا يحق لنا نحن ـ السودانيين ـ أن نرفع الصوت عالياً لنطالب كلاً من بريطانيا ومصر ـ بالإعتذار للسودان لما إرتكبه الجنرال كتشنر باسمهم من فظائع وجرائم وإنتهاك لحقوق الإنسان مما جعل معركة كرري مذبحة بالاستعمال الجائر لمدفع المكسيم المحرم استخدامه في الحروب الأوربية والذي كان يطلق ستمائة رصاصة في الدقيقة الواحدة!! والذي حصد أكثر من اثني عشر ألف شهيد في أقل من خمس ساعات ثم قتل جميع الجرحى الذين فاق عددهم الستة عشر ألف جريح قتلاً عمداً …

ثم استباحة مدينة أم درمان ـ عاصمة الدولة المهدية ـ التي بلغ سكانها في ذلك الحين حوالى 750 ألف نسمة ـ لمدة ثلاثة أيام للنهب والقتل والسلب وهتك الأعراض والإغتصاب من أفراد الجيش الغازي الذي بلغ عدده أكثر من أربعين ألف مقاتل!!

إن هذا الذي حدث في معركة كرري وما بعدها ليعد أقبح وأبشع جرم يرتكب ضد الإنسان وحقوقه في السودان من أناس جاؤوا لغزوه باسم الحضارة والمدنية التي كانوا يدعونها آنذاك زوراً وبهتاناً … وهم اليوم يتبجحون بالدفاع عن حقوق الإنسان دون أي حياء أو خجل مما فعلوه بالأمس!!

والمسؤول عن كل ذلك هو كتشنر. كما شهد به ونستون تشرشل ـ وبذا يكون كتشنر مجرم حرب!! أما نحن … فإننا نضع الأمر كله أمام القانونيين السودانيين والمسؤولية فيه ليبحثوا احدى الطرق للمطالبة بهذا الإعتذار ورد الإعتبار … ولاسماع صوتنا للعالم كله بالظلم الذي حاق بنا في السودان والجرائم البشعة التي إرتكبت ضد شعبنا وهو يقاتل من أجل حريته واستقلاله وعقيدته في يوم 2 سبتمبر 1898 في معركة كرري.


محمد داؤد الخليفة

[CENTER]

[/CENTER]

سليمان ضرار

تعليق واحد

  1. كتشنر و بريطانيا مسؤولين عن هذه الجريمة النكراء جريمة قتل الجرحى و لا شك في ذلك … لكن هناك معلومات تاريخية أوردها الكاتب ليست صحيحة : اباحة المدينة ثلاثة ايام كانت اباحة نهب أموال الأنصار و لكن كان ممنوعا فيها اغتصاب النساء و ليس كما فعل المهدي و خليفته عند انتصاراتهم على خصومهم عندما استرقوا و اغتصبوا (اتخاذ نساء المهزومين سراري) .
    كان جيش كتشنر مكونا من 25 ألف فرد و ليس 40 ألف .
    أما مسألة استخدام المكسيم فلا يمكن لأحد أن يحدد لخصمه نوع السلاح الذي يستخدمه في المعركة ، السلاح تنتجه عقول ليست مغيبة و التقدم لا يأتي لعقول تقول إنها مأذونة من الله بقتل كل من لا يصدق بمهدية محمد أحمد … التقدم تصنعه عقول فارقت الخرافة و الدجل و الأكاذيب لذا تجد بلادنا لا زالت تعاني من مشاكل تم حلها قبل مائة عام في بلاد فيها عقول فارقت الدجل و الخرافة … امثال الكاتب يكرسون للعقلية التي تصنع التخلف .

  2. نفس الروايد مكررة ولا جديد …. أن يموت هذا العدد وفي أقل من خمسة ساعات دليل على جهل القيادة في هذه المعركة .

  3. قرأت مرة أن التقاليد العسكرية تحتم على المنتصر مواربة جثمان الميت فى القتال وعد تركه للسباعز. فعندما قام الانجليز بدفن شهداء كررى وكانوا بالالاف لم يجدوا أيا منهم مصابافى ظهره من الخلف..جميعهم مضروبين فى الصدر..أيام دخل المرحوم خليل ابراهيم أم درما فجأة ضرب لستم عربية جوار محطة المهداوى فى الثورة… الجماعة كلهم ركضوا فى كل الاتجاهات..سبحان الله…كررى كوم وواقعنا اليوم كوم اخر.

  4. كرري بما تحمله من مجزرة بشرية يتحملها في المقام الأول الزعامة السودانية التي رفضت رأي كبار القادة العسكريين ولولا تعنتها وسوء إدارتها للحرب وتقسيمها للمقاتلين على أساس قبلي مشين لكانت المفاجأة , حيث حانت فرص النصر ولكن لا ينفع الندم

  5. مقالاتك كلها لها نكهة مميزة. هي قمة الروعة. لا تحرمنا منها عليك الرسول:
    محمد داؤد الخليفة اليس هو القائل ان الانجليز حكمونا واحسنوا الحكم وباننا لا ولم ولن نتخلي عنهم: التاريخ برهن ان الراجل كان صادقا وواضح الرؤية وان نبوءته تحققت. فياريت سمعنا كلامو في وقتو.

    بس تاكد لينا ان سكان مدينة أم درمان اثناء المهدية بلغ حوالى 750 ألف نسمة
    لانهم كانوا بضعة عشرات الآلاف حسب احصائيات النص الاول من القرن الماضي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..