السودان : دولتان فاشلتان وفوضى قادمة

حيدر ابراهيم علي

تكاد خصائص ومؤشرات الدولة الفاشلة تكتمل في دولة السودان وجمهورية جنوب السودان. فقد اختارت الدولة ديكتاتورية الحزب الواحد رغم كل ادعاءات اشراك قوى أخرى. ويتم الإقصاء والتضييق على كل قوى المعارضة الحقيقية. ويشترك النظامان في التعويل الكامل على الأجهزة الأمنية. ومع غياب المساءلة والمحاسبة والشفافية، كان من الطبيعي أن يستشري الفساد بلا أي كوابح ومصدات. وإضافة للاستبداد والفساد، عجزت الدولتان عن السيطرة على كامل التراب الوطني، وتصاعدت النزاعات الاهلية والقبلية في البلدين مما أجبر البلدين على الوقوف في حالة استعداد عسكري وطوارئ بلا نهاية. وهذا يعني بالضرورة العجز عن تحقيق أي قدر من التنمية أو حتى النمو الإقتصادي، وهذا ما حدث بالفعل حيث يعيش الشعبان ظروفاً معيشية مزرية، وتقبع نسبة معتبرة من السكان تحت خط الفقر. لكن فشل الدولتين له جذور أبعد من الإخفاق الإداري وطريقة الحكم، بل يعود إلى الفشل في الرؤية أو صياغة مشروع حضاري أو نهضوي قادر على تحقيق طموحات الجماهير، يقوم على الديموقراطية والتنمية والوحدة الوطنية، أي الدولة المدنية الحديثة.

طرح الإسلامويون السودانيون، ممثلين في الجبهة الإسلامية والإخوان المسلمين وأنصار السنة وبعض الطرق الصوفية (أمانة الذكر والذاكرين) ما درجت تسميته بـ «المشروع الحضاري الإسلامي». وما يجمع هذه القوى هو الدعوة لتطبيق شرع الله. ولكن المشروع سقط سقوطاً مروعاً، ولا يحتاج هذا الحكم لتفصيل الأدلة على الفشل. إذ يكفي الفساد المستشري، والفقر وتدني مستوى المعيشة، والانحلال الأخلاقي الظاهر في تزايد الأطفال غير الشرعيين، وتطور الجريمة ? كماً ونوعاً، وتدهور التعليم، واخيراً توّج المشروع الحضاري إنجازاته بفصل الجنوب. وفي حقيقة الأمر، فرض في الشمال مشروع حضاري ديني لا يقوم به متدينون حضاريون (لا ينتسبون للحضارة الاسلامية في حالة صعودها تاريخياً). فقد قام بالمشروع متعبدون لا متدينون، أي أشخاص يقومون بأداء الشعائر الدينية بحماسة وانتظام، ولكنهم جاهلون وبعيدون من جوهر الصلاة التي تنهي عن الفحشاء والمنكر، وتدعو لمكارم الاخلاق، بقصد بناء المجتمع. وتكونت القوى الإجتماعية للمشروع الحضاري من إنتهازيين، ومشعوذين ودروايش، وعدد قليل من الصادقين والمخلصين الجادين. فكان من الحتم أن يفشل ويسقط «المشروع الحضاري» ليحكم «المؤتمر الوطني» بلا رؤية ولا استراتيجية، معتمداً على التجربة والخطأ، ممارساً سياسة الحكم بطريقة اليوم باليوم، بلا أفق أو مستقبل.

أما في الجنوب فطرحت الحركة الشعبية، مشروع «السودان الجديد» والذي يبشر بسودان موحد اشتراكي وديموقراطي، بلا تمييز من أي نوع، وتقسم فيه السلطة والثروة بعدالة قائمة على حقوق المواطنة فقط. هذه هي أفكاره الاساسية وهي جيدة، ولكنها تفتقد القوى الاجتماعية الحديثة التي تضطلع بإنجاز المشروع: هل هي قبيلة الدينكا التي تمثل الغالبية في الحركة؟ وهل استطاعت الحركة الشعبية أن تتحول الى حركة أو جبهة قومية بعيداً من ديكورية تمثيل بعض العناصر الشمالية؟ وقد كان من الممكن للحركة أن تكون امتداداً لمشروع الثورة الوطنية الديموقراطية والذي كان أول من صاغه عبدالخالق محجوب في كتابه: «آفاق جديدة»، الصادر عام 1957 عقب الإستقلال. وكانت هذه أول مبادرة لسودان جديد تبناها اليساريون والتقدميون، وصعدت في ثورة 21 تشرين الأول (أكتوبر) 1964 بقيادة جبهة الهيئات. ولكن انقلاب 25 أيار1969 بقيادة جعفر نميري اختطف الفكرة، ثم أجهضها بالمصالحة الوطنية عام1977 ليقضي عليها نهائياً بقوانين أيلول (سبتمبر) 1983 الدينية. وكان مستقبل الحركة يكمن في إحياء مشروع الثورة الوطنية الديموقراطية، «السودان الجديد». ولكن يبدو أن مشروع «السودان الجديد» كان مرتبطاً بقائد الحركة، جون قرنق، وكان يغذيه من كاريزميته الشخصية أكثر مما من التنظير له وبثه بين الكوادر والقواعد. لذلك قبر المشروع مع غياب القائد.

إضافة لما تقدم، يمكن أن نؤرخ لبدايات الدولتين الفاشلتين، بتوقيع اتفاقية نيفاشا عام 2005 والتي تسمى تجاوزاً «اتفاقية السلام الشامل». فهي لم تعرف الشمول، والدليل على ذلك هذه القضايا العالقة الآن والتي رحّلها الاتفاق الى بروتوكولات ملغمة. ولم تكن الإتفاقية شاملة لا في أطرافها ولا بنودها، فقد جاءت ثنائية لأنها اعتبرت المعارض الحقيقي من يحمل السلاح ويقاتل. ورغم هذا القصور، كان من أهم مقومات الاتفاق المبادئ الخاصة بإنفاذ التحول الديموقراطي. وهنا كان تواطؤ «المؤتمر الوطني» و «الحركة الشعبية» طوال الفترة الانتقالية (2005-2011). فقد عملا معاً من أجل الإنفصال لكي تستفرد الديكتاتورية الإسلاموية بالشمال، وديكتاتورية الحركة-الدينكا بالجنوب. وضاعت ست سنوات غالية من عمر الشعبين كانت تحاك فيها المؤامرة بهدؤ. وكان الغرب وبالذات أميركا، يبارك كل ذلك، حتى انه بارك انتخابات «المؤتمر الوطني» المزورة (مركز كارتر والإتحاد الاوروبي) بطريقة كوميدية. فقد أعلنا أنها مزوّرة ومن دون المعايير الدولية ولكنها تليق بالسودان والسودانيين.

وأخيراً نجح المخطط تماماً وجاء استفتاء 2011 بدولتين فاشلتين هدفهما الوحيد هو الإفشال المتبادل. وكان نزاع النفط بين البلدين يمثل الدليل القاطع على السياسة الحمقاء: عليّ وعلى أعدائي! وحين أدركت الدولتان الفاشلتان حقيقة المأزق، هرعتا في هلع الى المجتمع الدولي أو الغربي (كالعادة) لكي يتوسط ويحل لهما مشكلات هي صناعة محلية وفعل ذاتي لم يتحملا تبعاته. وجلس تلميذا السياسة الغبيان في أديس أبابا أمام المجتمعين الإقليمي والدولي، لتلقي الأوامر وتنفيذها فقط. والغريب انه حتى نظام الخرطوم الذي يصيح: لن نركع لأحد غير الله!، كان يسارع في الركوع قبل الحركة الشعبية التي كان يدللها الغرب.

من الواضح أن دولتيّ السودان وجنوب السودان، لا تملكان مصيرهما، وفي الوقت نفسه لا تقدمان لشعبي الجنوب والشمال أدنى متطلبات الديموقراطية والتنمية. ولا تظهر أيّ مؤشرات للشروع في بناء دولة حديثة مع نزيف الموارد المادية والبشرية بسبب غياب الديموقراطية، وتنامي الاستبداد الأمني مع فائض الاستبداد الجارف. وينعكس هذا الإنحطاط الشامل على مكونات الدولتين وهي ذات طبيعة تعددية الثقافات والإثتيات. وتشعر هذه الجماعات بالظلم والتهميش مما سيجبرها على التمرد وانتزاع حقوقها. وهذا يعني تفاقم الحروب الأهلية والقبلية، وقد بدأت بالفعل في الدولتين، وهذا مدخل الفوضى الحتمي طالما حكمت الغفلة الدولتين واستمر تجاهل الشعبين سائداً، وأصبح التشبث بالسلطة غاية في حد ذاته.

* كاتب سوداني
دار الحياة

تعليق واحد

  1. ليس هذا وحسب .. انهم أعادونا الي ما قبل الحكم التركي .. فما عدنا تحلم بدولة مدنية اليوم في السودان اذ اصبح الانتماء القبلي هو الاساس ، ما يلبث السودان ان ينفرط الي دويلات صغيره تحكمها ولاءات عرقيه باتت هي الاساس طوال 23 عاما ماضية.
    لقد اصلو للفساد فصار بعضاً من مفاصل الدولة .. فلا مكان لغير مفسد بيننا لا مكان لمن لم تلوث يده بالمال العام .. طوال سنين ماضية كان المشروع الحضاري يتآكل من الداخل وها هو الآن يسقط بشهادة اهله حتي وان لم ينطقوا بالشهادة جهرا

    اعان الله السودان والسودانيين على بلاء الانقاذ وعجل بانقاذهم منها

  2. والله عندنا نقرأ هذا الكلام ,نطن إن السودان بخير وهنالك ناس بتفهم وتفكر ,,عكس ماكنت أعتقده فى السابق ,, بأن البلد ليس فيها رجل رشيد ,, سبحان الله !!!

  3. عندما ابرمت اتفاقية نيفاشا كانت القوى السياسيه الشماليه تعول على الحركه الشعبيه لان كيزان الخرطوم اوصدوا امامها كل ابواب المشاركه او حتى ابدأ الراى وكانت الحركه الشعبيه بتركيبتها الشموليه تمثل الوجه الآخر للعمله القهريه وقد قلبت ظهر المجن للتجمع الوطنى الديمقراطى الحالم ولم توجه له مجرد الدعوة لحضور حفل التوقيع ناهيك عن المشاركه فى مصير السودان الذى اصبح حكرا على حملة السلاح شمالا وجنوباورغم ذلك ظلت قوى اليسار والحزب الاتحادى يهرولون خلف الحركه الشعبيه حتى ركلتهم بضربة معلم بعد ان ضمنت شرعية تنفيذ بنود الاستفتاء على تقرير المصير فى هذا الاثناء عقد حزب الامة ندوة سياسيه لتقييم اتفاقية نيفاشا خاطبها رئيس الحزب اشار فيها الى 20 عيب فى الاتفاقيه كفيله بنسفها تماما وقال انها لن تقود الى وحده طوعيه بل ستقود الى انفصال عدائى مالم تعالج تلك العيوب وطالب طرفى نيفاشا بالموافقه على عقد برلمان سودانى لكل السودانيين دون اقصاء لدراسة الاتفاقيه ومعالجة قصورها واكسابها الصفة القوميه حتى تكون اتفاقية سلام سودانيه وتقود فعلا الى سلام شامل وتحول ديمقراطى كامل الا ان ذلك ووجه باذان صماء من طرفى نيفاشا واستهجان من التجمع الذى ظل يحلم بان الحركه الشعبيه هى البديل الآن وقد طفح الكيل وانكشف كل المستور وانفضح امر عملاء الصهيونيه المؤتمر الوطنى فى الشمال والحركه الشعبيه فى الجنوب والذى يؤكده الاهتمام الغربى ببقاء النظامين الفاشلين فى السلطه ولو كان الثمن هلاك كل السودانيين والدعم الفاضح والعلنى من تصريحات المسؤولين الغربيين بتاكيد حرص الغرب على عدم سقوط نظام الحكم فى السودان يبرز السؤال اين الشعب السودانى من هذا الذى يحاك حوله والمصير المرعب الذى اعده له الصهاينه بدعم عملائهم فى الداخل هل سيظل فى موقف ديك المسلميه ام له موقف آخر ؟

  4. شفتوا ليكم بلد تكون محكومة بالعسكر او بحزب شمولى واحد وتكون ما فاشلة؟؟؟ان غايتو ما شفت!!! وما تقولوا لى الصين نعم هى نجحت اقتصاديا لكن عندها مشاكل سياسية بالكوم وتلوث البيئة ومشاكل الاقليات ومشكلة الديمقراطية والفساد الخ الخ هى نار تحت رماد وما يغركم النمو الاقتصادى بتاع راسمالية الحزب الواحد لانه لا توجد حرية وراسمالية اقتصاد بدون حريات وتعددية سياسية!!! الصين طايرة بجناح واحد وبعد شوية الجناح ده ما بيقدر يحمل كل مشاكل الصين والله يستر ما يقوم ينكسر وتقع البلد بردلب!!!!!!!

  5. في اخوان جنوبيين زي ‏good man ‎‏ ما برضو اي انتقاد للحركه الشعبيه و لو بسيط التقول سلفا و باقان و غيرهم ملائكه نازلين من السما مع انه في 4 مليار دولار تم اختلاسها و اتهم فيها 75 مسؤول في حكومه الجنوب و غير الجرائم و الانتهاكات القامو بيها قيادات في الحركه ، و لكن الجنوب افضل من الشمال و انشاء الله حيكون ليه مستقبل اقتصادي وسياسي جيد و لازم نراعي ان الجنوب دوله حديثه مازي الشمال الغارق في الفشل ، علي العموم نحنا ما في قلبنا لاخواننا في الجنوب غير الخير و ما بننكر تضحيات و نضال الجنوبيين من اجلنا في الشمال و الجنوب بقياده الراحل جون قرنق المحبوب من جميع مكونات الشعب السوداني و شفنا كيف كان استقبال قرنق لما وصل الخرطوم و كان في استقباله 5 مليون سوداني و دي ما حصلت قبل كده لاي شخص طوال تاريخ السودان .

  6. السودان فى خطر شديد .. ستعجز الحكومه فى الفترة القادمه عن تغطية نفقات الدفاع ضد الحركات المسلحه . وستغرق البلاد فى مستنقع الفوضى . الامريكان يرون الخطر والصومله ولذلك طلبوا من الدول العربيه دعم حكومة السودان الفاشله .. السياسه ليست كراهية وشتائم . هى رؤية صائبه .

  7. لكل يعلم الفشل الذريع لأئمة النفاق الديني الكيزان خاصة بعد ترأس المؤتمر الوطني الخائب أمر الدولة وساد الفساد والافساد والغبن والقبيلة والمحسوبية وكل ما هو بغيض وغريب، اذن دعونا نستنهض الهمم لايجاد مخرج لهذه المعضلة الغارقة في الفشل والمزرية لخلق الله كيف الخلاص بعيداً عن أحزاب الجهوية والدين السياسي

  8. الحركة ألا إسلامية والحركة ألاشعبية وجهان لعملة واحدة من يخرج من رحم الفساد لن يكون إلا فاسدا وقدر السودان شماله وجنوبه أن يكون في قبضة ثلة من الفاسدين والمفسدين إلا أن دوام الحال من المحال ومؤكد التغيير قادم وعندها سيدرك الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..