مقالات وآراء سياسية

“رداً على د. النور حمد في “ههنا يكمن تكلّس اليسار” (1/2) “

معتصم القاضي

لا شك أن  د. النور الحمد كاتب مرموق وله إسهامات قيمة في معترك الفكر والسياسة السودانية، ونحن نكن له إحتراماً كبيراً يستحقه، لكن يبدو أن شهوة الانتصار للنفس قد دفعته لكتابة سلسلة مقالات “ههنا يكمن تكلّس اليسار” بنوع من العجلة على غير ما أعتدنا عليه منه، فجاءت سرداً لأرشيف الحزب الشيوعي مع تعليقات هنا وهناك يشفي بها غليله، واستشهادات من كتابات بعض الكتاب وأقوال بعض السياسيين أو الزعماء ليعضّد بها موقفه. ورغم أن عنوان المقال كان عن اليسار إلا أن الخطاب كان معظمه، إن لم يكن كله، عن  الحزب الشيوعي السوداني.

مثل هذه الكتابات تُدخل الفكر في وحل السياسة بلا فائدة، لأن الغرض منها لا يكون الاستفادة من التجارب وإنما تتبُّع  السقطات في ميدان السياسة لهزيمة الفكر. الأحزاب السياسية كلها ترتكب أخطاء، لكنها تحاول الاستفادة من الدروس بالنقد الذاتي وفتح آفاق الحوار لبعث روح التجديد والتأصيل.

ما دفعني للكتابة ليس هو الدفاع عن الحزب الشيوعي، لأن منتسبيه أحق وأقدر مني في الدفاع عنه، وإنما إنصاف الفكر، بإخراجه من وحل السياسة وإزالة التغبيش الذي تتركه مثل هذه الكتابات على الفكر فتطمس معالمه وتشوش على فهم القارئ، وكذلك إنصاف الحزب الشيوعي لأن مقاومته  الشرسة لسلطة الإنقاذ  وتحمل أعضاؤه التشريد والسجون والتعذيب خلال الثلاثين سنة الماضية، وتفاعله ودوره المشهود في ثورة ديسمبر 2019 والنقد الفكري الذي الزم به نفسه ومارسه، كلها تبعد عنه شبهة “التكلس” التي دمغه بها د. النور حمد.

ليس من المفيد إسقاط تجربة على أخرى بطريقة شاملة وقاطعة. فعلى سبيل المثال، فشل تجربة حكم الاسلام السياسي في السودان لا يعني سقوط الاسلام كدين أو كمجموعة قيم، لأن تجربة الإسلاميين كانت لا تقوم على فهم خاطئ  ومتخلف لمقاصد الدين فحسب بل كانت تعمل على استخدام الشعارات الدينية الفضفاضة لدغدغة العواطف الدينية عند البسطاء واستغلالها لتحقيق مكاسب دنيوية، وذلك عن طريق تمكين أنفسهم بنهب موارد الدولة وباستخدام أبشع أنواع التعذيب للمعارضين في بيوت الاشباح. وفي المقابل نجد أن الشهيد الاستاذ محمود محمد طه، الذي جعل شعاره “الحرية لنا ولسوانا”، قد استلهم القيم العليا في الاسلام المكنونة في آيات القرآن المكي وطرح عملاً فكرياً متناسقاً عبر فيه عن فهم عميق لمقاصد الدين. كذلك إن فشل تجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي لا يعني سقوط الاشتراكية والشيوعية كأفكار إنسانية سامية. فالشهيد الاستاذ محمود محمد طه نفسه كان يرى أن الشيوعية فكرة سامية ولكنها لن تتحقق إلا بإسلام الايات المكية.

في كتاب “الماركسية في الميزان” يرى الاستاذ محمود ان للماركسية حسنات في المادية الدياليكتيكية والإقتصاد، وأن لها مساوئ في “العنف وتزييف الديمقراطية” و”فكرة أسبقية المادة للروح”. وما يهمني هنا هو نقاط الالتقاء أو حسنات ماركس لان السيئات التي ذكرها الاستاذ محمود، حسب علمي،  لم يلزم بها الحزب الشيوعي نفسه أو نقدها وتخطاها منذ زمن بعيد كما سيأتي ذكره.

الاستاذ محمود يرى ان المادية الديالكتيكية هي إحدى حسنات ماركس فيقول: «لكن ما من شك أن الفكرة رائعة جداً ـ فكرة التطور المستمر عنده .. فيما يضيفه “للمادية الديلكتيكية” أن الفلسفة قديماً ورتنا العالم مكون من شنو ، و هذا ليس مهماً و لكن المهم أننا نحن الآن عايزين نحدث التغيير في تكوين العالم .. بمعنى آخر ، المهم أن يكون عندنا أسلوب علمي ليحفز التطور ـ ليكون التطور قائم على ذكاء بشري ، حتى يكون التطور موجه ، و سريع التغيير .. أنا أفتكر دي ، أعني المادية الديلكتيكية ، من النقط التي نضعها ، و على الفور في ميزان حسنات كارل ماركس».

أما في حسنات ماركس في الإقتصاد فيقول الأستاذ: «أن كارل ماركس موش أول إشتراكي ، و هو لن يكون آخر إشتراكي ، لكنه صاحب مدرسة في الإشتراكية عتيدة ، مدرسة مجيدة ، مدرسة ، يمكنك أن تقول ، محترمة .. لقد درس ماركس المسألة الإقتصادية دراسة واعية .. لقد جعل المسألة الإشتراكية أمر دراسة تخضع للرصد ، و للتخطيط ، و للتطبيق .. ده مما يوضع في كفة ميزان حسناته .. هنا نجي لي إشتراكيته العلمية .. لقد نرى أنه يمكنك أن تجد بعض المآخذ فيها ، و لكن لا ضير .. فإنه جميل قوله أن مجرى التاريخ بتتحكم فيهو النظم الإقتصادية ..»

أما سيئات ماركس التي ذكرها الأستاذ محمود فهي «(العنف ، و القوة ، هما الوسيلتان الوحيدتان لإحداث أي تغيير أساسي في المجتمع)» و «(دكتاتورية البروليتاريا)» وتزييف الديمقراطية» التي عبر عنها ب «ديمقراطية الطبقة المستغَلة ، الطبقة العاملة .. أو ما أسماه بإتحاد العمال ، و المزارعين ، و المثقفين الوطنيين» و فلسفة «أسبقية المادة للروح» التي تعبر عن الإلحاد.

هذه السيئات لا تقع في ميزان الحزب الشيوعي السوداني الذي “سودن شيوعيته”منذ تأسيسه. كذلك لم يقم الحزب الشيوعي السوداني بتقييم تجربة الاتحاد السوفيتي وفشل تجربته الاشتراكية فحسب، بل قام بنشر هذا التقييم وجعله متاحاً في الانترنت للقراء ولكل من يريد أن ينتسب إليه. وهذا شي يحمد عليه، ولا يقوم به حزب “متكلّس”. أما الأسباب التي ذكرها الحزب لإنهيار النموذج السوڤيتي في التجربة الاشتراكية فهي كثيرة، منها باختصار: ١) غياب الديمقراطية والاعتماد على الحزب الواحد؛ ٢) الجمود الذي أدى لان تتحول الماركسية من منهج للبحث والدراسة والنقد إلي فلسفة رسمية تمنع كل بحث حرّ وتقمع حركة الإبداع في العلوم والفنون؛ ٣) تحول الإلحاد الي فلسفة رسمية تم بموجبها اتخاذ موقف خاطئ من الأديان وحلت عبادة الفرد ( ستألين ) محل عبادة القيصر وتحول ضريح لينين الى كعبة يؤمها الزوار من كل فج عميق؛ ٤) إجهاض محاولات الاصلاح ؛ ٥) إعتماد  الاصلاح، الذي جاء متأخراً وفوقياً في فترة غورباتشوف فيما عرف (بالبيروسترويكا)، علي التعددية الاقتصادية دون أن يتبعها تعددية سياسية؛ ٦) إجهاض البيروسترويكا بعد انقلاب اغسطس 1992م الذي أدى إلى تفكك الاتحاد السوفيتي والتحول الكامل الي الرأسمالية.

كذلك لا بد من تأكيد أن الحزب الشيوعي السوداني لم يتبنى الإلحاد كفلسفة مطلقاً، إلا أن الاسلام السياسي استخدم سلاح الإلحاد ليخلق حائط صد بين الحزب والجماهير ويستغل عواطفها الدينية للكسب السياسي. وهذا هو نفس سلاح “التكفير والزندقة” الذي استخدمته هذه  القوى ضد الاستاذ محمود وقادته به الى أعواد المشانق.  كذلك قييم االحزب تجربة إنقلاب مايو وأكّد إيمانه بالديمقراطية ورفضه نظام الحزب الواحد، وأثبت ذلك في برنامجه بما يلي: «السلطة في يد الجماهير الكادحة بقيادة الطبقة العاملة – ولا تفرض الطبقة العاملة دورها القيادي فرضا، بل تقتنع به الجماهير والطبقات المتحالفة معها بتجربتها الذاتية باحقية هذا الدور القيادي. وهذه السلطة هي اكثر السلطات ديمقراطية في تاريخ الشعب المعين، كما انها تنبذ نظام الحزب الواحد المفروض بالقانون.»

ولا يحتاج د. النور حمد منا التذكير بأن السياسة رمالها متحركة وقد تحدث أخطاء في التقديرات ولكننا لايمكن أن نضع كل أمر في سلة سوء النية والتآمر. ومن أمثلة ذلك سوء تقدير د، النور حمد نفسه باستحالة، أو عدم إمكانية، قيام ثورة شعبية على نظام الإنقاذ، كما في جاء قوله في صحيفة التغيير بتاريخ  16 أبريل  2018, تحت عنوان ” النور حمد يناقش أطروحة الانتخابات لهزيمة النظام (4): «من يتحدثون عن قيام أكتوبر أخرى، أو أبريل أخرى، مطالبون بتحديد وتوصيف القوى التي سوف تنجز هذه الثورة المرتقبة. فمطالبتنا الرئيسة، لمن يعترضون علينا، تتلخص في أن يقرؤوا الواقع، بعيدا عن الرغبات التي ليست لها أرجل ….. فإذا كانت أحوال أحزاب الاتحادي، كما ذكرنا، وإذا كانت أحوال أحزاب الأمة، كما ذكرنا، وإذا كانت الحركة النقابية تعاني سكرات الموت، إن لم تكن قد ماتت بالفعل، وإذا كان الحزب الشيوعي بلا حركة نقابية تقف من ورائه، فما الذي تبقى من القوى الحية المؤثرة التي في وسعها أن تُحدث ثورة شعبية؟ بل، أين هي تلك القوى الجماهيرية الموحدة، المنظمة، المتماسكة، التي يمكن أن تحرس منجزات أي ثورة قادمة؟».

وقد وضع البعض موقف د، النور حمد هذا في خانة التماهي مع الانقاذ والعمل على تثبيت أركانه بتبخيس الثورة وتثبيط همم الثوار. وهذا هو وحل السياسة، فإن كل سلاح فيه ذو حدين: من بكَفّر يُكفَّر، ومن يَتّهم يُتّهم، وليس في هذا كله مصلحة للثورة ولا فائدة للقارئ في الوقت الذي تعاني فيه حكومة الثورة من ارتدادات الثورة المضادة،

المراجع:
١- الماركسية في الميزان. محمود محمد طه. الطبعة الأولى – رمضان 1392 – أكتوبر  1973
٢- محاضرة (٢) عن البرنامج طبعة ثانية منقحة ومزيدة. 2016م.
٣- النور حمد يناقش أطروحة الانتخابات لهزيمة النظام (4)، التغيير, 16 أبريل, 2018

7 أكتوبر 2020

‫4 تعليقات

  1. الحزب الشيوعي بكل صراحة وكلمة حق يجب ان تقال وضع جميع الاحزاب والتنظيمات في خانة اليك برفع سقف العمل السياسي الواضح والفاضح في نفس الوقت بشفافية وفضح الاعيب السياسية والصفقات المشبوة تحت الطاولة بين القوى السياسية مع العسكر من جانب والخارج من جانب آخر ووضع كل الاحزاب الاخرى في خانة لايحسدون عليها عندما رفع عليه سقف التحدي امام الجماهير

  2. بالله النور حمد ادوهو عقلو ، رفض التطبيع جعله مثل الثور في مستودع الخزف ، كتاباته كلها لا فائدة منها مع الواقع اليومى المعاش ، وكما قال الكاتب أعلاه فأن النور اخذته العزة بالاثم واراد ان ينتصر لنفسه دون عقل وروية ،، على اى حال النور غير مؤثر اذا كتب او لم يكتب .

  3. اعتقد أن الكاتب ركز في جانب أو نقطة واحد ة,اراد بها أن ينفي تهمة التكلس عن الحزب الشيوعي من خلال استشهاده برأي محمود محمد طه كنظرية بينما النور حمد سرد وقائع وأحداث كثيرة وممارسة عمليا تثبت دعواه في التكلس, ولكن لم يتطرق اليها الكاتب في مرافعته. يعني تغاضى عنها الكاتب عمدا أو سهوا لأنها في تقديري حقائق دامغة لا مفر منها. وهنا مكمن الداء في الحزب الشيوعي. يمكنكم مراجعة المقالات بصورة أدق ستكتشفون نقاط جوهرية قفز عليها المقال الاخير المدافع عن الحزب الشيوعي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..