غيبوبة القنوات التلفزيونية

في وطن صار كل شبر منه ملف شائك من القضايا تحتاج لالف كاميرا لتسلط الضوء عليه . وفي زمن رمتنا فيه المحن بمثقل الفتن تمارس قنواتنا الفضائية اسفافها الابدى مع اغاني واغاني ثم اغاني واغاني . رتل من المخرجين والمنتجين الفاشلين تقاصر ابداعهم عن انتاج مختلف مبدع ولو لمرة عن دورة الملل القاتله هذه منذ عشرات السنين . عشرات السنين عمر تلفزيوننا الميمون ولم يفتح الله على القائمين فيه لعكس ثقافه هذا الوطن الغنيه وطرح قضاياه الملحه وعكس وجهه المشرق للعالم بشكل كافي الا من خلال بعض الشذرات والمحاولات الفرديه البسيطه . وطن بمثل هذا التنوع يبتليه الله بالعديد من القنوات والمئات من المخرجين والمنتجين يدور كلهم في فلك البرامج الغنائيه والحوارية المميته . والتنوع الذي حبانا به المولى عز وجل لو وجد العقليه المبدعة لحطمنا شاشات العالم بالمشاهده ولتسمرت ملايين الاعين على قنواتنا ؟ . ولكن ماذا نقول مع هذه الغيبوبه الابديه .
1984 رواية ممتعه للكاتب البريطاني جورج اورويل ، متعة الروايه تكمن في انها تزج بك في جو من البؤس المزعج كل ما غصت عميقا في صفحاتها . كابوس خانق لا تستطيع الفكاك معه لاخر حرف تقرأه لتكتشف انك كنت اسير حنق وكبت ودوامه أليمه لا ينفعك معها نهايه سطورها . تحكى الروايه عن ونيستون شاب يعيش في مجتمع متحكم عليه نظام شمولى خانق في دولة اوقانيا . تراقب كل سكناته عبر شاشات رصد ويتحكم في تفكيره عبر برامج موجهة تبث عبر هذه الشاشات نفسها وما يطلق عليه الاخ الكبير زعيم الحزب صورته مثبتة على ملصقات في جميع انحاء المدينه مع عبارة ( الاخ الكبير يراقبك ) . الاخ الكبير والحزب هو من يتولى التفكير عن الشعب وهو من يوحى الى الشعب من هم اعداءه ومن يجب ان يحب وهو المسيطر على عواطف الناس فحركة العواطف حركه جماعية لا تختلف من شخص لا اخر فالكل يحب الاخ الكبير ويكره عدو مشترك وذلك من خلال برمجه تسمى بدقيقتي الكراهية يجتمع فيها الناس امام شاشات الرصد ليبث لهم اعداء امتهم فيبصقون عليهم ويشتمونهم في حاله من الهياج والهيستيرا يفرقون معها كل مكنون البغض والكراهية التي تراكمت داخلهم .
ولاننا كشعب سوداني يعيش اوقانيا بشحمها ولحمها أصاب الشلل مفاصلنا كلية واصبحنا محاصرين في احساس واحد نتشاركه جميعاً لا نتسطيع منه الفكاك هو مزيج من البؤس ، اليأس ، القنوط ، الخوف والعجز الذي يكبل التفكير والابداع للدرجة التي تظن معها انه لا خير في ما تفكر فيه انت لو كان ضد فكرة الحزب والاخ الكبير ، ففلسفه الانتاج الفكري والابداع معطلة ومفروضة قوالب بديلة عنها تكرس لمزيد من القهر والضياع فالاحساس بالخوف قد يتطور لدرجة تأليه الاخ الاكبر وبالتالى احلال حبه مكان بغضه وكراهية نفسك اذا حست ولو مجرد احساس بانها يمكن ان تكره او تخون الاخ الكبير . ستعرفون لأي مدى نحن موحلون في هذا التشبيه وغارقون في حطام شخوصنا اذا اسقطنا شعار حزب اوقانيا الثلاثي على واقعنا … ان الحرب هي السلام …. والحرية هي العبودية …..والجهل هو العلم . انظر لهذا الثالوث وانظر لحالنا لتتعرف علي حقيقة واقعنا اليوم .
هلّ علينا شهر رمضان شهر خير وبركات تبارت شاشات قنواتنا في تفريق إيمان هذا الشهر وروحانياته من خلال شلليات من الشيوخ والشباب والشابات لا تكاد تميز ذكرهم من انثاهم كاسيات عاريات متمسحات متشمطات متنمصات . اجاد اخينا الاكبر وحزبنا الشمولى في توجيه شحنة غضبتنا بعيدا عنه لنفرقها في هؤلاء الميع الصيع اعداء الابداع والتجديد بينما ماجت ساحات الوطن بالقتل والتشريد والتنكيل ومفاصل الدولة بالتمزيق والتدمير وخدمه مدنيه فرغت من كوادرها الخبيرة واحلت محلها ببغاوات الولاء والطاعه وشباب تمزقت اماله تحت ظلال الاشجار ينتظر أي مخرج . وقنواتنا مع هذه الغيبوبه والبلد تعج بالاف القضايا تمثل هذه القضايا ماده دسمه وغنيه للتناول الاعلامى لو كان من بينهم رجل رشيد ومنتج او مخرج فتح الله على قلبه بوازع المسؤوليه وعلى عقله بواسع الفطنة . وتجرأ على هذا التنميط والملل وكسر طوق الروتينيه وتمرد على واقعه وخرج على الشارع السوداني يحمل كاميرا وفكرة لخرج علينا باجمل البرامج المعالجة بوعي وادراك . لا يعقل ان تدور الافكار هكذا لعقود من الزمان في فكرتين لا ثالث لهم حوار ثم غناء فحوار ثم غناء اين الابداع اين الشهادات والدراسات يامن تدعون المهنية اين الخبرة ياشباه المبدعين ؟
الشمولية التي شابه السودان فيها دولة اوقانيا خاصة جورج اورويل تربه خصبة لتوالد الفاشلين وعديمي الانسانية واشباه الرجال وفاقدي الحس الابداعي فلا غرو ان تعج قنواتنا بمثل هذه الفطريات وبديهي ان تنتقص حقوقنا كمتلقين لاننا شعب ركن لمخاوفه ، فلا تعالج مواجعنا وقضايانا بشكل جدي وحتى لا يسلط عليها الضو بالشكل الكافي . لا يعقل ان نسمع بباحث في الاثار سويسري اقام بين ظهرانيا لاربعون عاما ينقب عن تراثنا ويخرج هذا الرجل لبلده ليبث برنامج يحكى عن تراثنا في التلفزيون السويسري وقنواتنا هنا تلهو وتلعب وتغني لم يفتح الله عليها ببرنامج وثائقي واحد عن هذه الاكتشافات المذهلة التي قام بها هذا الرجل ناهيك عن تخصيص قناة متخصصة بالاثار تتابع اعمال الحفريات والتنقيب من اول يوم حفرة بحفرة واثر بأثر ، لايمكن ان يأتونا الاخوه من قطر لينتجو لنا برنامجا ذو قيمه خدميه ومنفيعه ولو لم يأتو لما سمعنا عن كثير من القضايا التي تمت مناقشتها . لا يعقل ان يأتي الشقيري وهو صاحب برامج تلفزيوني ناجح قاطع كل هذه المسافات ليكرم شباب يعيشون بيينا ولولاه لما سمعنا عنهم وهم بين ظهرانينا . الطفل عبد الله ادم يشنق نفسه في معكسر زمزم بعد ان فقد والديه ولا احد ذهب بكاميرته ليعكس لنا ماذا يجرى مع هولاء الذين فقدوا ديارهم واهليهم . كل الذي اجادته قنواتنا هو استضافه شيوخ المجون والطرب يملؤون علينا بيوتنا فسق وضلال ضحكات شائخة ماجنه . وفي ظل هذا الشمولية الخانقة المحاصرة بديهي ان تحاصر عقولنا هكذا من خلال هذه القنوات الموجهة وحصر تفكيرنا وعواطفنا في زاوية واحده هي زاوية الغناء والمجون في غيبوبه جماعية تسكر الشعب وتبعده عن اهدافه وتكبيل وجدان الامة وتعليقه في قشوريات المظاهر والمراهقة الحسية وتعميق البعد الجنسي خلال استعراض اسنمة البخت المائلات المميلات والشباب الميع الذين ضج بهم بهو الاستيديوهات حتى كانها المواخير ليس الا . شعب حقيقه فرضت عليه غيبوبه مقيته فاصبح يصوم نهاره كله ليفطر على نهود فلانه او صدر علانه او تسريحة علان او لبسه فرتكان ما بين الضحكات والغمزات. الشئ المؤلم ان اصحاب هذه القنوات يتذرعون وراء منطق السوق وفرضية العرض والطلب وترجع لترمى زائقة المتلقى بتهم الاسفاف والسطحية وهى في ذلك تسلط اتهامها على شريحة الشباب خاصة . ولكن نحن نقول ان هذه الجيل من الشباب جيل تفوق على كثير من مخاوفه وعالج عجزه بنشاطات خيرة تفوق فيها على طواحين الهواء من الساسة النفعيين . واصبح يقود مبادرات هزت اركان هذا المارد المتسلط واصابته بالهلع والخوف عندما احس ان البساط بدأ ينزلق من تحت رجليه .

حيدر الشيخ هلال
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. قد اصبت … اضف الى هذا وفي كل عام تستضاف نفس الشخصيات وليس في جعبتها جديد … فيطرح عليها نفس السؤال الذي طرح قبل خمسة أو عشرة اعوام … (كيف كانت تفاصيل العيد)ليحكي لنا ما حكاه ويحكيه طيلة هذه السنين ونحن نشاهد في بلاهة وسخط …ونفس السؤال يتكرر في كل القنوات وفي نفس اللحظة … يعني ما تعمل مفتح وتغير القناة … نفس الملامح والشبه …
    الرحمة يا الله .. الرحمة يا الله …

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..