أم الربيع العربي ثورة أكتوبر … تاريخ منسي

تقرير:عيسى جديد
تعود ذكرى ثورة أكتوبر الثالثة والخمسين على ذاكرة التاريخ ومياه كثيرة قد جرت تحت الجسر.. تلك الثورة الشعبية التي أسقطت نظام إبراهيم عبود في 1964.. ذلك النظام الذي جاء عقب استيلائه للسلطة فى 27 نوفمبر 1957م بعد أن أطاح بحكومة الديمقراطية الأولى التي كانت برئاسة اللواء عبد الله خليل (1956-1958م)، وقد سبقت تلك الثورة بسنوات إرهاصات سياسية تمثلت في صراعات الحزبين الكبيرين، والتي أفضت إلى انقلاب نوفمبر الذي جاء بحكومة المرحوم الفريق إبراهيم عبود إثر انقلاب عسكري أبيض في فجر يوم 17/11/1958م لإنهاء الصراع داخل الجمعية التأسيسية في عهد الديمقراطية الأول، بين أكبر حزبين متنافسين على السلطة في ذاك الزمان، وهما حزب الأمة الحاكم والحزب الوطني الاتحادي المعارض.
الحكومة عشية ثورة عبود، حكومة منبثقة عن انتخابات برلمانية حرة نزيهة وفق نظام ليبرالي يقودها آنذاك اللواء متقاعد عبد الله خليل رئيساً للوزراء، وهو معروف بولائه التام لطائفة المهدية، ويتفق جميع المؤرخون في السودان على أن انقلاب إبراهيم عبود هذا كان مرتباً ترتيباً متقناً ودقيقاً وأن هناك أيدٍ خفية لجهاز المخابرات الأمريكية CIA لعبت فيه دوراً أساسياً لإنجاحه!! وحيث كان حزب الأمة (ولا يزال) ممثلاً لطائفة المهدية ذات التوجهات الوطنية الخالصة والرافضة لفكرة الوحدة مع مصر بأي شكل من أشكالها، في حين كان الوطني الاتحادي ربيباً بالتبني لطائفة الختمية الموالية لمصر، وكان ابن هذه الطائفة الشرعي هو حزب ثالث أصغر حجماً لكنه الأخطر فكراً، وهو حزب الشعب الديمقراطي، وتكمن خطورة هذا الحزب في أنه كان حزباً طائفياً ختمياً خالصاً، يهدد بولائه الأعمى للعائلة الميرغنية الموالية لمصر، مستقبل وحدة السودان واستقلاله الوليد عن ما عرف بالاستعمار الثنائي (البريطاني المصري)، حيث كان السودان لا يزال عوداً أخضر ينمو فى القارة الأفريقية التي غرس حريتها يظهر في استقلال بلدانها الحالمة بالحرية وسيادة أراضيها وأن تحكم نفسها عبر أبنائها.ثورة أكتوبر والتي اعتبرت حدثاً فريداً في تاريخ السودان الحديث من حيث الزخم والأحداث التي صاحبتها من تصاعد في مواقفها ورمزيتها في تلاحم الشعب وتقديم الشهداء والذين كان رمزهم الشهيد القرشي، حيث أعادت ثورات الربيع العربي ذكراه وهي ثورات الشعوب ضد حكوماتها الظالمة والمستبعدة في حالة مشابهة لثورة 21 أكتوبر أم الثورات العربية، وهي الثورة التي كادت تتكرر في انتفاضة مارس أبريل 1985 عندما ثار الشعب في الخرطوم ضد نظام جعفر نميري، مما أدى إلى انتفاضة أبريل 1986 والتي انتهت بتدخل الجيش بقيادة المشير عبد الرحمن سوار الدهب وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة حينها، وهنا تعيدنا ذاكرة التاريح الحديث إلى تسليم الفريق طنطاوي عقب الثورة المصرية، السلطة للرئيس المصري المنتخب محمد مرسي في مشهد شبيه بتسلم الفريق سوار الدهب السلطة لرئيس الوزارء المنتخب الصادق المهدي، وتبرز هنا انتقال العسكر إلى مربع الديمقراطية والإيمان بضرورة التوافق السياسي عبر منح الديمقراطية فرصة أخرى للحكم، لكن المشهد في مصر الآن يختلف تماماً 1986، حيث ما زال الرئيس المصري مرسي تتجاذبه الأحداث ما بين الموالين للنظام السابق والثوريين ولا يستبعد أن التاريخ يعيد ذات التفاصيل حال أطاحت التيارات العلمانية به من سدة الحكم والعودة مرة أخرى للدائرة الجهنمية ويمكن هنا مربط الفرس الذي ذكرناه سابقاً بأن الثورات سواء كانت في العهود الماضية والحديثة تفتقد إلى التوافق والتواثق بين القوى السياسية والتيارات المختلفة مما تجعلها لا تحقق أحلام شعوبها.كانت ثورة أكتوبر وبالدرجة الأولى، ثورة الشعب والطلاب والمهنيين من المهندسين والأطباء والمحامين وأساتذة الجامعات والموظفين والعمال بمختلف نقاباتهم وخاصة عمال السكة الحديد، وكانت الثورة من داخل الخرطوم وساندتها الأقاليم كما ورد في صحيفة أنباء السودان التي تصدر مانشيتها (ثورة الأقاليم)، وذلك يوم 19 أكتوبر 1964م، أما صحيفة الرأي العام فقد حملت عنوان: (ثورة الشعب البطل والبدء فوراً في تصفية الحكم العكسري)، بينما تخللت صفحاتها الداخلية بيانات النقابات المختلفة والأحزاب والقيادات السياسية واتحاد جماعة الخرطوم، وكذلك رؤساء تحرير بعض الصحف الذين أصدروا بياناً أدانوا واستنكروا إطلاق البوليس للرصاص على الطلبة وطالبوا بإجراء تحقيق وبسبب الحظر لم يستطيعوا أن يكتبوا شيئاً عن الموكب وتفاصيل ما حدث حينها، لأن الأوامر جاءت من الداخلية تحذر من الكتابة في الأحداث، كما توالت البرقيات والبيانات من السيد الميرغني وبرقية من الزعيم الأزهري والإمام الهادي المهدي وبيان للجبهة الوطنية الموحدة.*الإضراب السياسي كلمة السر التي نجحتصحف الخرطوم في صبيحة يوم 19/20/أكتوبر 1964 حملت عناوينها (إضرابات عدة قطاعات ونقابات عمالية بمختلف البلاد عقب تصدي قوة البوليس لطلاب جامعة الخرطوم إثر ندوتهم الشهيرة)، وجاء في صحيفة الرأي العام في يوم السبت 21 أكتوبر بصفحتها الداخلية (إن فكرة الإضراب السياسي جاءت عبر المذكرة القانونية التي وقعها القضاة الشرعيون والمدنيون والمحامون والمستشارون القانونيون والتي أدانوا فيها اعتداء قوة البوليس على الطلبة بجامعة الخرطوم، وعدم شرعية دخولهم لحرم الجامعة)، وجاء في الخبر أن الأستاذ شوقي ملاسي المحامي اقترح دعوة كل طبقات الشعب وفئاته إلى العصيان المدني والإضراب السياسي، وأثنى الأستاذ محمد أحمد المحجوب اقتراحه ووصفه بأنه الطريق العملي واتخذ القرار بأن يكون هنالك موكب في يوم السبت 24 أكتوبر لرئاسة الوزراء وتسليمهم المذكرة، وكان ذلك إلى أن خرج عبود وأعلن عن تنحيه عن السلطة، لأن هذا ما أراده الشعب الذي عبّر عن ذلك بالخروج في المظاهرات السلمية والتي تعرضت لبطش البوليس وراح ضحيتها عدد من الشهداء كما ورد في صحيفة الرأي العام يوم السبت 21 أكتوبر، ويعزو البعض أن كلمة السر في نجاح الثورة، كان سلاح الإضراب السياسي، وبتعبير آخر كانت ثورة تلك القطاعات الفئوية والعمالية هي المؤثر التي أصبحت تعرف بـ(القوى الحديثة)، وقد انعكس ذلك الواقع السياسي ـ الاجتماعي على سلاحها الأساسي في مواجهة النظام العسكري، كما انعكس على صياغة ميثاق الثورة الذي أبرز المطالب الستة التالية: قيام حكومة مدنية انتقالية تتولى الحكم وفق دستور (1956) المعدل، ومن ثم إجراء الانتخابات في فترة لا تتعدى شهر مارس 1965 وتكوين جمعية تأسيسية تمارس السلطة التشريعية وتضع الدستوروالبدء في إطلاق الحريات العامة وإلغاء القوانين المقيدة لها وتأمين استقلال القضاء وجامعة الخرطوم وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وانتهاج سياسة خارجية في فترة الانتقال ضد الاستعمار والأحلاف.*المشهد السياسي بعد ثورة أكتوبر الصعود السياسي للقوى الحديثة بات واضحاً في المشهد السياسي السوداني عقب ثورة أكتوبر، وهو أمر طبيعي في فترة المد الثوري الأول، غير أن هذا الصعود بحسب مراقبين سياسيين، ما لبث أن انحسر لأنه لم يعكس موازين القوى السياسية على الأرض، وتمثل ذلك في الإخفاق السياسي الذي أعقب انتصار ثورة أكتوبر، وذلك في العجز عن الوصول لعقد ديمقراطي بين القوى السياسية يؤسس لقاعدة صلبة لحكم القانون والشرعية الدستورية والتداول السلمي للسلطة، وهو إخفاق لا يزال السودان يعاني من عواقبه بدليل أن القوى السياسية الحزبية ظلت في حالة صراع دائم حتى جاء انقلاب النميري وأطاح بها واستمر كقوة عسكرية تحكم البلاد لمدة (16) سنة، وكانت الانتفاضة التي حملت أشواق الشعب إلى ديمقراطية وعقد اجتماعي كما في أكتوبر، ولكن تمترس الأحزاب في ذات مربعها الاختلافي والصراعات، والأزمة الاقتصادية الضاربة جعلت من فكرة الانقلاب العسكري أقرب، وكانت في 30 يونيو لتجئ بالإنقاذ التي تحكم حتى الآن، وبعد 23 سنة يعاد ذات السيناريو للبحث عن الدستور وكيف يحكم السودان وذات الأسئلة القديمة الجديدة، فى صراع قديم متجدد ما بين الإسلاميين والعلمانيين أو الأحزاب التقليدية التي تقف في المعارضة والممانعة، وهو جزء من مواجهة سياسية برزت منذ استقلال السودان كانت فيها الأيديولوجية الفكرية هي محل الصراع السياسي بين اليمين السياسي المتمثل في الأحزاب الإسلامية والعقائدية، واليسار السياسي المتمثل في الحزب الشيوعي والأحزاب العلمانية الأخرى، وكان الخطاب الفكري السائد، سواء في تجليه الإسلامي أو في تجليه الماركسي ـ اللينيني – خطاباً معادياً للديمقراطية الليبرالية، ولم يكن ذلك الواقع انعكاساً لما يجري فقط في السودان، وإنما كان يعكس أيضاً واقع الاستقطاب العالمي بين المعسكر الغربي والمعسكر الشرقي، وواقع الاستقطاب الإقليمي. وعقب حلّ الحزب الشيوعي وانفراد الإسلاميين بالمشهد السياسي وتصاعد شعارهم الداعي لـ(دستور إسلامي) ليصبح شعاراً مهيمناً، طغت الأيديولوجية عندهم لتصبح إصراراً على إخضاع كل مظاهر الحياة السياسية والاقتصادية والقانونية والاجتماعية والثقافية لبرنامج الأسلمة والتمكين السياسي الشامل الذي طال كل المؤسسات التنفيذية والسياسية. *وكان أكتوبر.. الحلم الأكبروكان أكتوبر الحلم الأكبر والأخضر.. والتاريخ لا يكذب ولكن هل تفيد قراءة التاريخ واستيعاب الدروس الماضية لحاضر اليوم السياسي، وثمة أسئلة أخرى هنا: ماذا يعني أكتوبر إذاً بعد ثلاثة وخمسين عاماً شهدت تأرجحاً سياسياً وتراجعاً كثيراً على مستوى الاستقرار والتقدم للسودان عقب ثورة شعبية أرادت التصحيح فضاعت بين طاولات السياسة الحزبية وتقاطعاتها دون أن تثبت قواعد راسخة للحكم في بلد فقد جزءاً كبيراً من أراضيه بسبب تلك السياسات والتي أهمها قضية الجنوب التي تفجرت الثورة من خلال مناقشة قضيتها إضافة للأسباب الأخرى المتمثلة في الصراع حول السلطة وتداعيات الحكم الشمولي والعسكري، فهل يظل السودان يدور في ذات المربع ويبحث عن أكتوبر آخر أخضر وحلم أكبر لا يخطفه أحد، بل يعيده إلى الشعب الذي صنع أم ثورات الربيع العربي ولم ينل شيئاً سوى الانتظار، أم تظل الأغنيات تحمل الذكريات؟
آخر لحظة.