مع بعض كتاب شأننا العام (2)

محمد سليمان الشاذلي
أكتب هنا عن بعض الكتاب. فيهم المفكر العميق واسع الثقافة. فيهم الصحفي . فيهم نفر ممن عف قلمهم ، فهم عن رثيث القول معرضون . ثم هم في خصومتهم لا يفجرون. كذلك ، فيهم من يحتد ولا يتحرج ، يمضي ، فلا ينثني ، خصومةً وصداما عنيدا لا يلين. أتناولهم ها هنا لأنه لابد من الحوار ولابد من القول فيمن يقول في الشأن العام . ولم تزل خارطة الشأن العام عندنا تتصف بالجور والتمترس خلف الأيدولوجيا والتيارات الفكرية بدلا عن خلق شبكة علاقات تسمو فتأثر ، تجمل وتفصل النسب والأبعاد ، ما يزيد من قدرتنا على الرؤية الصحيحة. حتى تاريخه ، لا ريب أنك ترى أن منتوجنا المكتوب لا يرقى مطلقا للقدرات والإمكانات . ولا ريب أنك تشهد أن آفاقنا ضيقة لا تسع منا حوارا أو تثاقفا أو حججا فتلاقي فقربى ، أو على الأقل ، حق تقدير وحق احترام. نعم ، أتناول هنا قلة ممن أكاد أتابع جهدهم ورفدهم راصدا للاتجاهات السياسية الفكرية العامة ، للأشارات الحزبية التنظيمية المؤطرة. إنهم ، في مجموعهم ، فروع صغيرة تجهد أن تكون روافد للنهر الكبير . والآن ، هؤلاء ، الذين أتناولهم ، وللأسف بالكثير من الاقتضاب ، هم ليسوا من الصحفيين المتفرغيين للعمل التحريري اليومي ، ليسوا جبهة واحدة ؛ إنما هم شعبة رائدة رافدة تدافعت ألسنة حضورها لتلتوي تارةً ثم تستقيم طوراً في صفحة سمائنا المعفرة دوما ، منهم هداة في أدلاء في هذا العاثور ، في هذه المهلكة من الأرضين . لكل واحد منهم منطلقه ، لكل واحد منها مزاج. أجد نفسي أتحدث عنهم حديث المعجب بجهدهم وانتظامهم في رفد الشأن العام في أيام حالكات جافات تدفع النفس للاكتئاب من بعد أن تمتص من القلم حبره. لا أكتب عنهم كتاب الناقد ، أكتب كتاب المحتفي . لكم يسعدني أنهم أصحاء وأنهم يكتبون : بابكر فيصل، كمال الجزولي ، عبد الوهاب الأفندي ، حيدر إبراهيم بابكر عيسى ، الشفيع خضر ، الوليد مادبو ، أحمد أبو شوك ، مرتضى الغالي ، التجاني
عبد القادر ، أيوب صديق ،
عبد الله الفكي البشير ، صدقي كبلو ، ياسر عرمان ، سيف الدولة حمدنا الله. يجمعني بهم هم واحد فهم معي تحت سقف هموم الوطن . وإني لأرجو فيما أرجو أن أكون قد وفيت لهم بعض حق ؛ فهم السراج الذي يتعين علينا أن نحوطه بأكفنا حماية فوقاية له من ريح اليأس وهبوب السموم. إنَّ ساحتنا السياسية لمأزومة لكن نرجو ألا تنتهي بنا إلى مثقفين مأزومين. وألا تنتهي بنا النهاية إلى أن نفوز بسهم أخيب.
الآن إلى رجل وكاتب من طراز جد مختلف ، عرفت يده ملمس زناد البندقية ، مثلما تعرف ملمس القلم : ياسر عرمان حقا ممن يدهشونك بحيويتهم وطاقتهم وإيمانهم بما هم فيه ذاهبون . رأيته مرات قليلات حينما كان يرتاد بيت الصديق خالد محي الدين ، ممضيا معه الأيام بعد الأيام ، برفقتهما دوما حسن محمد الحسن (نابليون). أفكر أحيانا كيف يتسنى له تخصيص بعض وقته للكتابة من إجل إثراء ساحة رأينا العام! يركز على مفهوم السودانوية مع ضرورة التركيز على أن السودان هو ما يجمع بيننا لا الأطر الخارجية. ممجد لثورة 1924م ويكفي أن حملته الانتخابية العام 2010م انطلقت من بيت قائد حركة الللواء الأبيض علي
عبد اللطيف . ورغم محاولة ياسر الكتابة بموضوعية غير أنك تشعر بعض الأحايين إنه كذلك ممن يجتذبهم شعر الكلمة وسرها الإبداعي اللطيف ها هوذا يقول “لا ترافق الشهداء وتعود عند ، منتصف الطريق ، حيث لا نور إلا نورهم يشق صبح الهتافات ، الحكايات البدايات ، لا عشق الا عشق الشهيد ، ولا هلال ولا صليب ، إلا دم الشهيد ، ولا هلال ولا صليب ، إلا دم الشهيد”. ياسر مثقف ربما بالمعنى الكامل لغرامشي ولبعض مما قد ذهب إليه صمويل هنتغتنون في رباط المثقف مع الفلاح والعامل . بدأ حياته شيوعيا صلبا ثم لم يلبث أن سار مسارا وعرا مختلفا مع حزبه ، منضما للحركة الشعبية بقيادة الراحل جون غرانق . في غابات الجنوب تحول من مقاتل مجازي إلى مقاتلي فعلي ، رجل يمسك على بندقيته ويضغط على الزناد مطلقا الرصاص الحي على اعدائه. وهو ليس أشوس باسل مقدام فقط في ميادين الحرب وأتون معاركها ، بل في المعارك الأدهى والأمر ، معارك الثقافات معارك القيم الاجتماعية السائدة. صفق الكثيرون يوم تزوج ، وهو الجعلي العربي ، من امرأة جنوبية كاملة الزنوجة ، رأيت وقتها ولم أزل أن ياسر يمضي مع يؤمن به حتى المنتهى. فهو رجل فائق الشجاعة. حقا رجل سيف وقلم واجتماع.
والآن إلى كاتب تقيده ثقافة القانون وأطر القانون : سيف الدولة حمدنا الله ، شخصية سودانية صادقة كل الصدق ، في قولها ، في مسلكها بكل ما يتعلق بالشأن العام قاضي عضو لجنة قضاة لسودان1982م له مقالات جمة تتناول الشأن العام مع تركيز على القضايا العدلية والمسائل القانونية ، من أشد المنادين بضرورة تجديد مؤسستي القضاء والنائب العام، بل هو يجعل من ذلك أمرا لازما حيويا وملزما للحكومة الإنتقالية “وإذا ما تعارض تحقيق هذه الأهداف مع القناعات الفكرية لأي صاحب منصب في أي جهة ذات صلة بتنفيذ ما ورد ، بما في ذلك رئيس القضاء أو النائب العام أو أي عضو بالسيادي أو الوزراء ، عليه التنحي من مقعده لا أن تُنحى له هذه الأهداف” لسيف الدولة كذلك مقالات تثقيفية لرفع الوعي والثقافة القانونية لدى قارئه. يمتعك وهو يحدثك عن الفرق بين أصناف الحكم والأحكام ، بين الباطل والمعدوم ، هضمه لمادته يجعله سهلا في في تقديم معلومته وحجته وطرحه. وهو ، من قبلُ ومن بعدُ ، من أشد أنصار ثورة ديسمبر وأعتى المنافحين عنها. وقد أبدى مؤخرا ملاحظات غاية في الأهمية لرفد مسودة الدستور الانتقالي . لا شك أن مساهمة قانونيين إلى جانب الثورة وبمثل هذا العطاء يشكل كسبا عظيما.