أخبار السودان

أمير تاج السر وألبير كامو : لوحات العنف الوبائي بين «إيبولا 76» و «الطاعون»

صالح الرزوق

ترتبط رواية «إيبولا 76» لأمير تاج السر مع «طاعون» كامو بالعنوان الوبائي. وإذا كان العنوان هو أول نافذة على العمل فإن التفاصيل تحمل المزيد من التشابه.
لقد كانت «الطاعون» الصادرة عام 1947 ردة فعل متشائمة حيال الحرب العالمية. وبالمثل «إيبولا» صدرت عام 2012 لتتكلم عن أخطاء وعثرات مأساوية.. من الانقلابات والأمراض والفقر وكوارث الطبيعة، وحتى انعكاسات الربيع العربي الدامي.

هذا غير مسرح الأحداث. كلتا الروايتين عن قارة أفريقيا التي هي أصل وفجر البشرية.. بر السودان وبحر الجزائر.
ولا يخفى على أحد الحمولة الرمزية لهذا الاختيار. أن تكون الأحداث على حوض المتوسط وبمحاذاة أوروبا، حيث الذهن الكولونيالي المنتج لظاهرة الاستعمار القديم بما يتضمنه من تاريخ عنفي وسادي، أو في أعماق الأدغال التي تعيش على تخوم التخلف والجمود، كأنك تركب آلة الزمن وتعود للخلف عشرات السنين، حيث الانفصال الحضاري وخطوط العزل بين الأعراق والثقافات.

لقد اتفقت الروايتان بالمنطق ورسمتا لوحة حالكة للعنف الوبائي، وللإصابات الجسيمة التي لحقت بمفهوم الإنسان عن جوهر الصورة وعلاقتها بالروح، ولكن هذا لا يلغي حقيقة وجود مسافة أو فاصل عازل، يعكس طبيعة الاهتمامات..
فهناك «بتون» تفصل بين كامو وتاج السر. الأول يتحدث عن رموز واضحة ولم يعد لديها عقدة نقص حيال الواقع. مقابل دائرة مقفلة من المجاز والاستعارة والكنايات عند تاج السر. وهذا يعكس ما في جعبته من رهاب ورعب، إن لم نقل أعصبة، والعصاب كما نعلم يرافقه الخوف من الموضوع. إنه يساهم في بناء شخصية تبحث عن المعنى المهدور وفائض القيمة وليس عن المعنى الضائع.
ومثل هذا الفرق يمهد للتضاد بين الشعور والمعرفة والقوة وبين اللاشعور والسبات والتخلف، وفي الوقت نفسه يفتح الباب لإعادة تعريف مكان الوعي من الذهن.. هل هو ناشئ عن مجتمع أم عن شعب متحول؟

وفي تاريخ الرواية العربية أمثلة مشابهة، منها حالة «قصة حب مجوسي» لعبدالرحمن منيف. إنها عن تصورات تصوفية غامضة لغرائز تتحكم بالسلوك والأخلاق والتقاليد. وهي تصورات ترادف جزئيا ما ورد في «آنا كارنينا» تولستوي. مع الاحتفاظ بشيء من الفرق الرمزي. فحفلة الأقنعة الراقصة عند عبدالرحمن منيف تدور في غرف مغلقة بنوافذ ضيقة وجو سديمي معتم يشبه ما نراه في الأحلام، على حين أن حفلة تولستوي كانت في بلاط تحت وابل أو شلال من النور المبهر.
لذلك مبدأ التقابل هو نفسه.. بروفيل لإنسان الغرائز أمام تصورات متخيلة بقوة الافتراض، حيث كل شخصية هي حاملة لمحمول أو ظرف لحالة تواطؤ.

* * *
هذه «البتون» خطوط العزل كما أسميها، والضفاف المتعاكسة كما يقول عنها سعد محمد رحيم في كتابه الشيق «سحر السرد»» تتوضح من خلال المقارنة بين رواية سابقة لتاج السر هي «أرض السودان» و»أعمدة الحكمة السبعة» للورنس العرب. ففي الأولى إعادة إنتاج لأساطير ذات مضمون نفسي لأنها قائمة على التجريب وليس المنطق. في حين أن الثانية هي إنتاج لتصورات مسبقة عن شرق مفترض، ومصدرها أنا أعلى مفروض فرضا. ومع أن موضوعها تنويري فقد كانت التهيئة استجابة لمنبهات خارجية.

وأظن أن الحالة الوجودية لهذا الإنذار الكاذب تجد صداها عند تاج السر في نموذج «صائد اليرقات» التي تتكلم عن تحول مهني ينقلب على إثره المخبر عبدالله فرفر من كتابة التقارير لكتابة الروايات. وكان يحدوه لمثل هذا التحول افتراض أن التصورات قبل الكتابة هي النص الحقيقي. إنها مثل اليرقة التي تنتظر لحظة تمزيق أربطة الظلام والصعود للنور. ولكن للأسف يتبين أنها ليست يرقات حقيقية، بل هي نص مسبق. مثلما هي تصورات لورنس التي دمرت ديالكتيك الواقع. وهي بذلك تشبه كتابات داروين عن أصل الأنواع التي لعبت دورا في تبديل القناعات الملموسة لإنتاج واقع ذهني مضاد تحول لاحقا إلى حقيقة «كما يقول فوكو عن دور النص في إنتاج الحياة نفسها».

* * *

وإذا كانت «إيبولا» لا تتساوى فنيا مع «أرض السودان» رائعة أمير تاج السر، التي تبز الرواية المعروفة «موسم الهجرة إلى الشمال»، فهي ذات أهمية معرفية، إنها تعيد الاعتبار للقيمة اللاشعورية للرموز والمجاز.
وتضعنا من خلال حكاية نوا الحامل للمرض أمام دور الغرائز في نشر الخراب والفوضى، حتى أن أدوات العمل تتحول إلى أدوات للقتل وإزهاق الأرواح وتصفية الحسابات الشخصية «كما في الحكاية الفرعية عن معول تينا ? ص 82».

لقد تطورت كل سبل الحياة في «إيبولا» باتجاه هدام وعنفي. وهي من أول كلمة ولآخر حرف تتكلم عن الخيانة الزوجية والغواية والليبيدو. وكل ما من شأنه تعميم جناية الغرائز على العقل. وهذا هو مصدر الفرق الآخر عن «الطاعون». فرواية كامو نظيفة من الغرائز وباردة ومصمتة، ولذلك رموزها أحادية المعنى وليست متعددة الإيحاء. وتصور عالما نعقله ونعرفه جيدا « كما قال سوتشكوف عن دواعي الرموز ? ص 45»، بعبارة أخرى أن العلاقة ميكانيكة بين الرموز والمعاني.

أما تاج السر فقد كتب عن مجتمع لقيط «إن صحت التسمية». لقد كان بطل روايته موظفا يغرق بالجهل والعادات العشائرية الوضيعة. والمبدأ الاجتماعي لديه يكون أدنى من الغرائز التي لا تتبدل مع الزمن، كما يقول سوتشكوف أيضا- ص 139. إنه مسخ شيطاني يطور نوعا من الاستلاب الذي يغذيه السحر والشعوذة والخرافات «وكل عناصر الواقعية السحرية». وهكذا يبدو من منشأ لذّيّ يبحث عن الإشباع وليس الاستيعاب ولا التهذيب والهضم. لقد كان يغط في سبات الإدراك ويعيش كل الوقت في منطقة يسميها «صحوة الموت». إنه ببساطة صورة لبلاده، وكلاهما يمر بحالة غيبوبة معرفية واحتضار اجتماعي، وعليه تتطور رواية «إيبولا» على مستوى أفراد يمثلون فئات أو أزمة الشريحة.

بالمقابل تتطور «الطاعون» بشكل كارثي وعام، وسرعان ما تأخذ اتجاها رمزيا له دلالة قيامية. وكما أعتقد فإن مرض الطاعون عند كامو نتيجة لرهاب الحرب الذي يأخذ شكل ملاك الموت، حيث اتجاه أو محور الحركة نخبوي، من الأسفل ? عالم الصور الملموسة إلى الأعلى ? الرموز التي تدل على مستوى متطور من التعلم. وأعتقد أن هذه الاستراتيجية في تجريد الواقع تنطوي على تعذيب مازوشي، يشبه معاناة ميرسو في «الغريب» بسبب الندم والجريمة التي ارتكبها بالخطأ، وكذلك بقية ماكينة الرموز.

أما إيبولا تاج السر فقد كان مشخصنا. بوسعك أن تراه لأن له كتلة وصورة. فهو سفاح سادي ومراوغ « يسره موت الضحايا ? ص 74». وهو أيضا مجرم حرب «يمتلك لغة الموت ص 104»، وهكذا?
ولا أستطيع أن أفكر بمرض ذكره الأدب العربي، بهذه الطريقة، غير الحمى الخجولة التي تزورك بعد منتصف الليل، كما وصفها المتنبي في قصيدته المشهورة.

* * *

ولكن أرجو أن لا يفهم أحد أن «إيبولا» عمل تجريدي مثل وجوديات كامو أو تراجيديات تولستوي ومنيف، فهي تحمل جرعة واضحة من السخرية ? النكتة السوداء. كما كان يفعل ماركيز. فالسخرية لديه طريقة لاختصار السلبيات ولتسليط الإضاءة عليها.
إنها سخرية اجتماعية وناقدة يرعاها منطق «العين الشريرة». فقد كانت الشخصيات غائبة عن الوعي.. تعيش حالة من النكوص والتثبيت وتعيش بدافع وتحريض من الغرائز، وتفهم السعادة في ظل مبدأ إشباع اللذة.

إنها شخصيات غير محبوبة، وفي كل فرصة كان الراوي المستتر «يشبه الملقن في المسرح» يتدخل ليلفت انتباهنا لموبقاتها وشذوذها. غير إيبولا الشرير، يوجد لويس نوا بطل الرواية، الإنسان المكيافيلي الذي يؤمن أن الغاية تبرر الوسيلة، وزوجته تينا أزاقوري التي لا تختلف أبدا عن أي ساحرة شمطاء كما يصورها الخيال الشعبي، بيدها مكنسة ليس للتنظيف ولكن للضرب والقتل.

كان كامو في روايته يدور مع عقارب الساعة. وخطواته تدب على طريق صاعد. بينما الحركة في إيبولا بعكس عقارب الساعة. والاتجاه نحو العالم السفلي، المظلم والمكفهر، حيث الأضرحة والقبور والكهوف التي يسكنها أشخاص يشبهون العفاريت والشياطين.
ألا يذكرك شكل نوا بإبليس، الملك المتوج في عالم التآمر والانحراف؟ فالرواية ترسمه بجبين برونزية كأنها تلتهب بالنار، وفي وسطها فصوص عريضة، لها معنى يدل على مكانه من شجرة العائلة، أو بالأحرى القبيلة « ص10». وكأنه صورة لفنان انطباعي من القرون الوسطى، حيث كان للملائكة جسم أبيض عاجي وللشياطين جسم ملتهب يحرق النظر..

إن مثل هذه الصور السلبية والمغرقة بعدميتها كما أرى هي المسؤولة عن النهاية الغامضة للرواية.
لقد أراد أمير تاج السر للأزمة أن لا تنفرج، ولم يقدم حلا للوباء وترك شخصياته أمام واحد من اثنين: إما أن تموت، أو أن تحتضن المرض القاتل وتتأقلم معه بانتظار حل غامض لا تعرف ماهيته.
مثلا أن تهز إيبولا صحوة ضمير مباغتة، ويعفو عن الجميع، كما ورد في الفصل الأخير « ص141»?

* كاتب سوري

صالح الرزوق*
القدس العربي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..