المحارب.. رواية.. الحلقة السادسة

انتفض اشرف كمن مسه تيار كهربائى عندما سمع جاره يقول ها قد وصلنا المعسكر، فهو وإلى هذه اللحظة لم يستطع استيعاب ما جرى، فعدم قناعته بعدم شرعية تجنيد الشباب بهذه الكيفية، علاوة على وضعه كأكبر اخوته،
وظروف والده المرضية، وفوق هذا وذاك وجود زوجته بالمستشفى وهى بين الحياة والموت، كل ذلك جعله فى حالة من الذهول لم يستطع معها تصديق ما جرى.
اجتازت السيارة البوابة الرئيسة وتوقفت وسط باحة المعسكر العريضة، وبدا من بداخلها النزول بعد ان امرهم العسكرى بذلك.
كان اشرفا آخر المغادرين، فقد تردد كثيرا وحدثته نفسه ان يقاوم مهما كان الثمن ولكنه فى نهاية المطاف استمع الى صوت العقل، فترجل والغضب والحنق يملآن صدره، فذهب لينتظم الصف مع زملائه الذين اصطفوا فى عدة (طوابير )، ثم وقف فى اقرب صف وجده امامه.
اعتدل كما الآخرون وهو فى حيرة من امره فتداعت الاسئلة على ذهنه، وظلت تلح عليه حتى شغلت تفكيره عن كل ما يجرى حوله فطفق يحدث نفسه، ماذا افعل لتجاوز هذه المحنة التى اوقعنى فيها سوء حظى؟ وياترى كيف هى حنان الآن ? شريكة حياته ? التى ترقد مهيضة الجناح؟ ومن الذى يقوم بمسئولية الاسرة فى غيابه ؟ فأخواه لا يزالان يدرسان بالجامعة، ولا يستطيعان القيام بالاعباء التى كان يقوم بها هو .. فليت شعرى اى مصيبة تلك التى حلت على؟ هكذا ظل يطرح على نفسه مثل تلك الاسئلة الى نبهه العسكرى وهو يسأله عن اسمه.
أملَى على العسكرى اسمه بالكامل ثم غرق من جديد فى خضم تفكيره حتى شعر براسه يدور من فرط التفكير، وبينما هو على ذلك الحال انتبه فجأة لصياح العسكرى:
إيينتباه.. إلى اليميين دوور..
انتبه مرتبكا وبدأ يخطو الى الامام متذيلا الصف الذى بدأ افراده يتحركون فى خطوات وئيدة نحو غرفة الطبيب لاجراء الكشف، وكان ذلك بعد محاضرة ألقيت على جمعهم تحت اشعة شمس الظهيرة الحارقة.
كانت الساعة قد تجاوزت الثالثة بعد الظهر بقليل عندما رفع احدهم عقيرته منادياً: أشرف حامد عبد الكريم.
سمع اشرف اسمه وسرعان ما لب النداء وسار مسرعا نحو مصدر الصوت فوجد احد الجنود يحمل فى يده ورقة بجانب باب غرفة الطبيب، طلب من اشرف الانتظار ريثما يخرج من سبقه.. لم يطل انتظاره فقد خرج من كان ينتظر خروجه فسُمح له بالدخول فتقدم والامل يحدوه فى ان لا يكون لائقا طبيا، فقد يكون هذا هو الامر الوحيد الذى يمكن ان يؤدى الى خروجه من هذا المأزق، واعفائه من اداء الخدمة العسكرية التى لم يتحسب لها ابدا فى يوم من الايام.
دخل على الطبيب فوجده جالسا خلف مكتبه فى بذلته الطبية، كان يقلب فى دفاتر امامه، حدس اشرف انه فى العقد السادس من عمره، دله على ذلك كثرة الشيب الذى يكسو فروة راسه، والثلاثة خطوط الرفيعة التى توسطت جبينه العريض، كانت تبدو على وجهه سمات الوقار والجدية مما جعل اشرف يشعر بشئ من الرهبة، القى عليه بالتحية وهو يلقى عليه بنظراته التائهة.
رفع الطبيب بصره الى اشرف وتفرس فيه قليلا قبل ان يرد عليه التحية، ثم سكت برهة قبل ان يسأل:
ما اسمك؟
– اشرف.. اشرف حامد عبد الكريم..
– عمرك..
– عمرى، مواليد 1972
– مهنتك..
– مزارع..
كان الطبيب يسأل ويقوم بتدوين ما يمليه عليه اشرف حتى وصل الى آخر نقطة من اسئلته، وبعهدها طلب منه ان يستعد للكشف.
تفضل استلق على تلك الطاولة، قالها الطبيب بنبرة جافة وهو يرفع نظارته عن ارنبة انفه الى اعلى جبينه، ثم حمل جهاز الكشف وهب واقفاً.
كانت هناك طاولة خشبية تمتد من الركن الى الركن تقريبا، وُضعت بصورة مهملة بجانب احد جدران الغرفة، تقدم اشرف نحوها ونفذ ما طُلب منه ثم جاءه الطبيب وبدأ فى اجراء الكشف الروتينى، لم تمض بضعة دقائق حتى كان اشرف قد استلم نتيجته والتى جاءت بغير ما تشتهى نفسه، فكما اظهر الكشف فان النتيجة برهنت على خلو جسده من اى مرض يحول بينه وبين انخراطه فى الجيش، وبذا يكون قد تبدد آخر امل للخروج من المأزق الذى وجد نفسه فيه.
غادر غرفة الطبيب والالم يعتصر فؤاده، والهم يعصف بضلوعه بعد ان انقطع الخيط الوحيد الذى كان يعول عليه فى الخروج من هذه الورطة التى رمت بها الاقدار فى طريقه، خرج حاسر الرأس كانه يحمل مشاكل العالم كله على عاتقه، ولسؤ حظه صادفه فى طريقه احد العساكر يحمل سوطا فضربه على ظهره وصاح فيه بازدراء: هيا يا مستجد الحق بزملائك.
اصطف القادمون الجدد فى عدة طوابير ووقف امام هذه الطوابير ثلاث من العساكر ذوى الملامح الغليظة، اذ بدت على وجوههم جدية مفتعلة، وهم يلقون واحدا تلو الآخر بكلام غريب على آذان المجندين الجدد ويقومون بتكرار ممل لعبارات ومصطلحات عسكرية بدت للوهلة الاولى عسيرة الهضم لغالبية المستجدين إذ انها لم تطرق مسامعهم من قبل، الامر الذى جعل اشرف الذى لحق بـالطابور واصطف مع رفاقه يحس بالضيق، وهو يستمع الى كيل الاهانات، ووابل الشتائم التى كان يمطرهم بها العساكر احتفاء وترحيبا.
زهاء الساعة او يزيد ظل العساكر فى حديثم المكرور ذاك دون توقف الى ان جاء الفرج حين امروهم بالانصراف لحلاقة رؤوسهم، فوزعوا لكل واحد منهم شفرة حلاقة، على ان يقوم كل اثنين بالحلاقة لبعضهما.
***
سأل اشرف وهو يقبض بيده اليسرى على صدغى رفيقه صلاح الذى تعرف عليه للتو، وممسك بشفرة الحلاقة بيده اليمنى: كيف تم القبض عليك وانت تقول انك وصلت من السعودية بالامس فقط؟
اجابه صلاح بنبرة لا تخلو من مرح: نعم وصلت بالامس من السعودية، الا ان ( الجماعة ) لم يمهلونى فقد تم اختطافى من الشارع وجيئ بى الى هنا و.. وقبل ان يتم حديثه قاطعه اشرف بنفاد صبر: انا اتحدث بجدية، كيف وقعت فريسة بين ايدى هؤلاء.. الم يكن معك جواز السفر؟
– تركته بمنزل اخى الذى استضافنى ليلة البارحة، فقد خرجت صباح اليوم احمل أمانة حملنيها صديقى لايصالها لاهله هنا فى الخرطوم وقد اوصلتها فعلا، وكان فى نيتى ان ارجع الى بيت اخى لاحمل حقائبى واتوجه الى اهلى بمدينة الابيض، وفى طريق عودتى، وعند احد المحطات توقفت الحافلة فصعد على متنها عسكرى جامد القسمات وطلب من كل الشباب النزول فنزلت مع من نزل ودار بينى وبين العسكرى حوار انتهى بترحيلى الى هنا.
– حسنا.. ألم تخبره انك مقيم بالسعودية؟..
– بلى.. الا انه طلب ما يثبت ذلك – هذا – أو اذهب الى تلك السيارة بغير ما اى نقاش ? هكذا تحدث الى العسكرى موصدا امامى كل ابواب الرجاء..
ضحك اشرف – ولعلها المرة الاولى التى يضحك فيها منذ ليلة البارحة ? ثم قال وهو ينظر الى صلاح الذى صار منظره اقرب الى الاشكال الكاريكاتيرية، بعد ان تم حلاقة النصف الاعلى من شعر راسه : اتوقع ان يات اليك اخوك بجواز السفر ليفك اسرك ويريحك من هذا العناء.
– وانا اتوقع ذلك.. ولكن ربما مر اسبوع او اسبوعان قبل ان يعلم بوجودى فى هذا المعسكر، استطرد صلاح قائلا : ولكنك لم تخبرنى عن نفسك.. من اى المناطق فى السودان، وماهى ملابسات مجيئك الى هذا المعسكر؟.
– انا من ولاية الجزيرة ? قالها اشرف وهو يمرر الشفرة على اخر شعيرات فى اسفل راس صلاح، ثم حكى قصته منذ ان تحرك من قريته وحتى لحظة وقوفه هذه.
تاثر صلاح تأثرا شديدا بعد سماعه قصة اشرف فقال بحنق: ولِمَ لم تقاوم؟
– وما جدوى المقاومة؟ لقد حاولت عرض مشكلتى على اكثر من واحد ولكنهم لم يعيرونى اهتماما.
– ولماذا لم تعرضها على الضابط المسئول؟
– لم اجد فرصة.. وكما رأيت فانهم لم يمهلونا، فبمجرد وصولنا ادرجت اسماءنا فى سجلات المعسكر، وقبل ان نلتقط انفاسنا اجري لنا الكشف الطبى، وها نحن الآن نكمل ما تبقى لنا من اجراءات لنكون كما ارادوا لنا.
– على العموم، العسكرية ليست شر.. فالتدريب يُكسب المرء مهارات ما كان له ان يكتسبها فى حياته العادية، ويعود المرء على الصبر، فضلا عن تعلم كيفية الدفاع عن النفس.. قال صلاح ذلك وهو ينفض ما علق على ملابسه من شعر بعد ان صارت ناصيته (قرعاء) تماما.
– اوافقك الرأى، شرف الجندية لا يدانيه شرف، قالها اشرف وهو يقوم بتنظيف الشفرة ويرم بها جانبا ثم اردف قائلا : ومن ينكر فضل العسكرية والعساكر على الوطن؟ فهم حماته ودرعه الذى تتكسر عليه نصال الاعداء، فقط لدى بعض التحفظات على عسكرة الناس بالصورة التى تمت معنا وتتم مع غيرنا من الشباب.
– هذه ارادة الحاكم ويجب ان نذعن، فالتبرم لن يجدى نفعا.. علينا ان نتكيف مع الواقع الذى ترسمه لنا اقدارنا.. اجلس يا اشرف فقد جاء دورك..
جلس اشرف وقد اسلم راسه لصلاح ثم سرح قليلا محاولا تحليل شخيصة صلاح وسبر اغوارها، فهو برغم انه عاد حديثا من دار هجرته الا انه لم يتذمر كبقية الشباب، ومن المؤكد انه فى شوق لملاقاة اهله ومدينته واصدقائه، فما الذى يجعله يجابه هذا الوضع الذى فرض عليه بكل هذا الرضاء؟ انه لجد مستغرب..انه يذكره بصديقه الهميم ود الضو، مرحه، لا مبالاته، سخريته، تساءل بينه وبين نفسه ترى ماهو موقف صاحبه الهميم ود الضو حين يعلم بقصة تجنيده هذه؟ وفى ذات اللحظة تذكر صديقهما متوكلوف الذى انقطعت اخباره منذ اواسط التسعينيات عندما غادر الى اسمرا للالتحاق بقوى التجمع الوطنى.
قال اشرف وقد احس بوخزة مؤلمة، وجزء من حافة الشفرة ينغرس فى راسه: مهلك صلاح ، انك تجرحنى، واردف: ولكن قل لى ما الذى يجعلك راض بهذه الصورة؟.. انك تحيرنى.
– لا حيرة ولا يحزنون، رد صلاح وهو يقوم بتجفيف بقعة الدم الصغيرة التى خلفها الجرح واستطرد قائلا : سمه امتثالا لما تفرضه الظروف.. ماذا عساى ان افعل؟.. فلا احد يستطيع رد القضاء.
– سكت اشرف هنيهة قبل ان يقول: ولكنك لم تتذمر كما الآخرون..
– عموما لا احاول التذمر مهما ساءت الامور، اتكيف بسرعة مع اى وضع تفرضه على الظروف، ولاتنسى ان وجودى خارج ارض الوطن له دور كبير فى تعودى على مثل هذه الحالات، فالغربة تعود الانسان على الصبر، فهى اشد مرارة مما نحن فيه الآن.. جبال من الالم نحتملها ونحن بعيدون عن ارض الوطن.. لذا كل شئ عداها لا يعدو ان يكون نزهة..
– أوتسم وجودنا هنا نزهة.. سامحك الله ، قالها اشرف هازئا وقد بدت على فمه ابتسامة ساخرة.
– مقارنة بجحيم الغربة نحن هنا فى نزهة خلوية.. يبدو انك لم تهاجر من قبل.
– لم اعتد على البعد عن ديار عشيرتى.. اكثر فترة غبت فيها عن اهلى كانت ايام امتحان الشهادة الثانوية، حينها غبت شهرا كاملا إذ كنت اسكن داخلية الطلبة، وطلب المعلمون منا وقتها ان لا نغادر الداخلية ايام العطلات حتى يتسنى لهم ان يراجعوا معنا ما يحتاج الى مراجعة من مقرر المنهج.
– وايام الجامعة ألم تغادر فيها قريتك؟
كان من المبرزين هو وصديقاه متوكل عثمان متوكلوف، والهميم ود الضو، ولم يخرج ثلاثتهم عن الخمس الاوائل فى جميع مراحلهم الدراسية، اكتفى هو والهميم ود الضو بالمرحلة الثانوية وهجرا قاعات الدراسة، فضل الهميم العمل مع ابيه فى الجزارة، بينما واصل متوكل تعليمه حتى تخرج فى كلية القانون، كانت رغبة اشرف وامنيته التى صاحبته منذ بواكير الصبا هى دراسة الزراعة، غذى رغبته تلك التصاقه بوالده، ومساعدته الدائمة له فى (حواشته ) ذات الخمسة افدنه قبل ان يجور عليها قانون الملكية الجديد وتتقلص بموجبه الى اربعة فدادين فقط، كانت تعجبه شخصية الباش مفتش حسان الطيب باناقته وعربته اللاندروفر الرمادية، وحديثه العلمى الشائق الذى لم يكن يفهم منه حرفا واحدا، ساله ذات حصاد وهو يرفع نظارته الطبية السميكة عن ارنبة انفه: ماذا ترغب ان تكون حينما تغدو كبيرا؟ كان عمر اشرف حينها احدى عشرة عاما، اجاب بشقاوة ماكرة: ارغب فى ان اكون مثلك، واستطرد باسما وهو يشير الى العربة اللاندروفر باعجاب، اريد ان اكون مفتشا زراعيا لاركب مثل عربتك هذه.. كان يرى المزارعون يتحدثون الى حسان ورؤوسهم الى الارض، ويعملون بتوجيهاته ونصائحه ويلتزمون بكل ما يطلبه منهم، فتكونت لديه رغبة جامحة فى ان يصبح مفتشا زراعيا حتى يكون مثل حسان الطيب وكل المفتشين الذين عرفهم فى ايام طفولته، كبرت معه رغبته وتبدلت مفاهيمه من مجرد اعجاب بشخصية المفتش ونظارته وعربته الى رغبة ملحة فى معرفة العلوم الزراعية، والاسرار التى ينطوى عليها عالم النبات.
– لم يتسنّ لى ان ادخل أى من الجامعات، قالها بنبرة ملؤها الحسرة والاسى، واستطرد فى الم: مرض ابى ولزم السرير، فقمت مقامه، وصرت قيما لاسرتى لا سيما واخوتى حينها كانوا صغارا.
[email][email protected][/email]