الزمن لن يقول شيئا

مروة متولي
من يورك إلى نيويورك، كانت خطوات الشاعر الإنكليزي الذي سيصير أمريكياً في ما بعد ويستان هيو أودن 1907- 1973 أحد أهم شعراء القرن العشرين، الذي كان يستطيع أن ينظم الشعر على كافة أشكاله وقوالبه الفنية القديمة والحديثة، والذي كان مهموماً بأسئلة الحياة الكبرى، وعلى رأسها أسئلة الحب والزمن، فعلى الرغم مما عاشه من تجربة حياتية ثرية، شهدت الحروب والتغيرات السياسية والاجتماعية والفكرية العنيفة، الأمر الذي انعكس بطبيعة الحال على تجربته الفنية وعلى ما كتبه من قصائد في مختلف المراحل، إلا أن هذه الأسئلة كانت دائماً ما تطغى وتلقي بظلالها على أشعاره: ما هي حقيقة الحب؟ وما هي إمكانية وجوده في هذه الحياة؟ وهل من الممكن أن نحب حقاً؟ ماذا سيقول الزمن؟ وماذا سيفعل؟ وماذا علينا نحن أن نفعل؟ وماذا بإمكاننا أن نصنع حيال ذلك الزمن؟
في عام 1939 غادر أودن إنكلترا، وفي العام نفسه أثناء جلوسه في إحدى الحانات في نيويورك، وتحت وطأة بدايات الحرب العالمية الثانية، كتب واحدة من أجمل قصائده وأكثرها انتشاراً وتأثيراً، وهي قصيدة بعنوان «الأول من سبتمبر 1939» وهذا التاريخ الذي جعل منه الشاعر عنواناً لقصيدته، إنما هو تاريخ غزو قوات هتلر النازية لبولندا.
يخبرنا أودن في بداية القصيدة بأنه يجلس في إحدى حانات شارع 52، ثم يذكر ما كان يعصف به من مشاعر في تلك «الحقبة الوضيعة الكاذبة» كما يسميها، يرثي الآمال التي فسدت ولم تعد صالحة في عالم غارق في الكذب، يصف موجات الغضب والخوف وفقدان اليقين التي كانت تجتاح نفسه، يتحدث عن رائحة الموت التي تعكر صفو ليالي سبتمبر/أيلول وعن الجنون الذي أصاب العالم. وسط كل هذا الرعب والفظاعة، يظهر الحب في واحد من أشهر أبيات الشاعر حيث يقول: يجب أن نحب بعضنا بعضاً أو نموت.
هكذا يحسم أودن المسألة، إما الحب أو الموت، فنقيض الحب هو الموت لا الكراهية، وكأنما الكراهية هي مرادف للموت أو للقتل، ونلاحظ أن الشاعر لم يقل إما أن نحب أو نقتل، وإنما قال أو نموت، ربما لأنه في القتل يكون هناك دائماً القاتل والمقتول، وعادة ما ينجو القاتل، أما الموت فهو أعم ويشمل الجميع، وهكذا يجب أن يكون المصير كما يرى الشاعر.
لم تكن تلك القصيدة هي طريق أودن إلى الشهرة، فهو لم يذهب إلى أمريكا شاعراً مغموراً باحثاً عن مكانة أدبية، لأنه كان قد عرف الشهرة وصار مثار اهتمام نقدي بالغ منذ أن أصدر ديوانه الأول في سن مبكرة، إنما يمكن القول إن هذه القصيدة كانت أولى قصائده «الأمريكية» إن جاز التعبير، حيث يبدو ذلك في انفتاحه وتعبيره عن عواطفه وميوله بشكل أكثر وضوحاً وتحرراً، كما يبدو ذلك من خلال بعض المفردات وأسماء الأماكن التي لم تكن موجودة إلا في أمريكا التي وجد فيها الحرية، فلم يكن ذهابه إليها إلا بحثاً عن مزيد من التحرر، وفيها أيضاً وجد الحب، ولا نعلم إن كان قد ذهب بحثاً عنه أيضاً أم لا، إلا إننا نعلم أنه قد التقى في أمريكا بحب حياته الذي استمر لأكثر من ثلاثين سنة.
في تناوله لفكرة الحب، لم يكن أودن رومانسياً حالماً، كما أنه لم يكن متشائماً سوداوياً في تناوله لفكرة الزمن. كان يواجه الحياة كما هي، ويساعد القارئ على مواجهتها أيضاً، فلم يكن إيمانه الراسخ بالحب ضعفاً وانهزاماً، وإنما كان اختياراً حراً واعياً يحمل مسؤوليته، حتى مع إدراكه لاستحالة تبادل الحب بشكل متساوٍ بين الطرفين، نجد أنه يختار ويرغب في أن يكون هو «المُحب الأكبر»، فالحب عند أودن هو الحياة. أما موقفه من الزمن فلم يكن أيضاً ضعفاً وانهزاماً، وإنما كان إدراكاً ومواجهة كاملة للحقيقة، فهو حينما يقول: لا تدع الزمن يخدعك/ لن تستطيع أن تقهر الزمن. لا يريدنا ألا نحاول أن نهزم الزمن حسب، بل إنه يريدنا ألا ننتظر منه شيئاً، وأن ننصرف عنه إلى الحب، أي إلى الحياة. فقد أخبرنا أودن بأن: الزمن لن يقول شيئاً / الزمن لا يعرف سوى الثمن الذي علينا أن نسدده.
٭ كاتبة مصرية
القدس العربي