ليبيا حكاوي تراجيديا في ذاكرة الاغتراب السوداني

حكى لنا احد الإخوة العائدين من ليبيا في منتصف التسعينات, عن كيفية عودتهم إلى السودان من غربة امتدت سنوات في عمر الشباب وعن كيفية حسم قرار العودة من ليبيا القذافي (ليبيا الابسماك), يحكي والحسرة تكسو صوته: كنا نعيش في تلك الديار على هامش الحياة ونمتحن هوامش المهن ونقتات الكفاف وتتسلل أجمل سنوات العمر ونحن لاندري, وفي إحدى ليالي ليبيا الباردة والباردة جداً, كنا مجموعة من السودانيين نتقاسم بيت عزابه في مدينة بنغازي ضم بين جنباته مايزيد عن (الطاشر) فرد, واهم قاسم مشترك يجمع بيننا هو عمر الشباب حيث لم يتجاوز أكبرنا سناً الثلاثينيات من العمر, والكتشينة هي الوسيلة الوحيدة للتسلية حيث نلتقي على طاولتها ليلاً لنفرغ زهج وقرف النهار ونتناول تفاصيل اليوم والذي غالباً ما يأتي مكرراً (حتى أدمنا الملل), وفي ذاك اليوم الذي غير مسار سبع من أفراد تلك الشلة .. حيث قرار العودة المفاجأ إلى السودان, عندما جاءنا في ذاك اليوم احد الشباب ومعه تسجيل للفنان مصطفى سيد احمد له الرحمة, وكان لابو السيد في تلك الأيام سطوة جارفة على خارطة موسيقى الشباب, ويداعب بألحانه الحزينة أوجاع ومعاناة فقراء بلادي … والشلة لامة حول الكتشينة ومصطفى يغازل ليل بنغازي البارد بأغنياته التي تنفذ في مسام الروح وتخاطب (جوة الجوة), وفي احد اغنياته التي اتت تماماً تجسد تلك اللحظة التي كنا فيها حيث رائعته (الدنيا ليل غربة شوق ومطر .. وطرب حزين وجع تقاسيم الوتر … شرب الزمن فرح السنيين والباقي هداه السفر … ) وفي لحظة صمت ضاج بالانفعالات العاطفية .. رأينا احد الأخوة وقد اغرورقت عينيه بالدموع وفاض بيه الحنين وفاض بيه الشجن (وقد قال احد الحضور دا زول بكاي وحنين شوية) وانسحب من الجلسة وهو يداري دموعه حتى لا ينفضح ضعفه وتأخذ عليه هذه (الجرسة) .. وهو لا يدري ان عدوى الجرسة قد سرت في معظم الشلة وفيروس الحنين للوطن (homesick) قد ضرب الجميع بلا استثناء, ولم تنقضي تلك الليلة حتى قرر سبع من إفراد تلك الشلة العودة إلى السودان وبشكل نهائي ولم يمضى سوى أسبوع من ذاك التاريخ حتى كنا في السودان نستدرك ما تبقى لنا من سنين الشباب.
وليبيا هذه كانت في حياة الشعب السوداني فصولاً من المآسي الممتدة ونزيفاً موجعاً لمواردنا البشرية .. وقد جرف تيار الهجرة إلى ليبيا اعماراً شبابية غضة وامتص رحيقها ولفظها على رصيف الكهولة بلا زاد ولا معين على ما تبقى لهم من محطات العمر الأخيرة. فقد كانت رحلات الابسماك (كما يطلق عليهم في ذاك الزمان) تمتد عبر الصحاري القاحلة عبر منفذي مليط في شمال دارفور ودنقلا في الشمالية ومن خلال عمليات التهريب الأشبه بتجارة البشر حيث يتم تكديس العشرات من الأفراد في الرحلة الواحدة, وفي العادة يقود الرحلة خبير بمثابة بوصلة اتجاهات ودليل هادي للسير وأي قدر يصيب هذا الخبير يعني الكل في خبر كان.. (ابسماك خبيركم مات بين كفرة والعوينات لا موية ولا زاد) وتشير هذه المقولة التي كانت تردد للمهاجرين إلى ليبيا مدى صعوبة هذه الرحلة التي تزداد فيها نسبة المخاطرة عن النصف (إنها لعبة مع القدر).. ويمتدد على الجانب الآخر من هذه الرحلة القاسية وبعد الوصول إلى ليبيا وانقضاء عدداً من سنوات المكابدة والمجازفة, واصطدام الأحلام العريضة بواقع بائس لا يرتقي لسقف تلك الأحلام التي أتى بها المهاجر من السودان حتى تبدأ أحلام الشباب تتمدد مرة أخرى غرباً نحو ارض الأماني الجميلة (أوروبا), وتبدأ رحلة أخرى عبر السنابك في مياه البحر الأبيض المتوسط إلى جزيرة مالطا الايطالية ثم التسلل إلى الدول الأوروبية الأخرى, وهذه الرحلة ترتفع فيها نسبة المخاطرة إلى أعلى درجاتها وتكاد تشارف ال 90% , وكثيرأ من الارواح التي راحت في عرض البحر وصاروا طعاماً لأسماك البحر الأبيض المتوسط, وربما عرفوا طريقهم إلى السودان مرة أخرى عبر علب التونة التي يمتد الوفاء بينها وبين صحن الفول في السودان.. وكان شعار أولئك الشباب: (يا حققنا احلامنا يا جيناكم تونا اكلتونا) .. (لا اتحققت احلامكم والتونة ذاتها قامت اتعززت علينا).
وقد شكلت ليبيا في تلك الفترة ثمانينيات القرن الماضي ملاذاً لكل راسباً فارق كنبات المدرسة او مراهقاً أراد الخروج من جلباب وسطوة ابيه او يائساً اقعدته الحيلة وسارت به أحلامه او حبيباً دفعت به تفاصيل الزواج (المرهقة جداً) او من خرجت به ظروف أهله المادية او ……… (ليبيا خريت. وخريت هذه كلمة ليست للترجمة) وهذه المقولة كان يطلقها كل من حزم حقائبه وتيمم شطر الجماهيريه الليبية.
وليبيا في ذاكرة أبناء دارفور وكردفان حكاوي وقصص تروى طابع اغلبها الألم والحسرة وقليلاً من الفرح … فما زالت ذاكرة طفولتنا الباكرة تعج بمجموعة من المشاهد والصور وحكاوي مغتربين ليبيا .. وما زال طعم المكرونة والكسكسة الليبية وصور الباقات البلاستيكية الكبيرة ومراتب الإسفنج والمشمعات و(شيكارات) القمامة (المرحوم كان قدرك وقد توفى وهو مقدراً لظروفك) و كميات مهولة من الكرور (عذراً ساكني امبدة كرور ربما كان مؤسسي هذا الحي من مغتربين ليبيا الاوائل) .. وما زالت الذاكرة تحتفظ بمنظر عربات المرسيدس التشاركية (تشاركيات القذافي كما كانت تسمى) الضخمة حجماً والمترهلة بما حملت على جنباتها وتلك الارتال المكدسة من الأشياء الآنفة الذكر (والصورة المرفقة بتم الناقص) .. وتعود هذه التشاركيات محملة بكثيراً من خيرات بلادي من المنتجات الزراعية (السمسم ? الفول ? الكركدي ? …. وهلم زراعة ).
ومن حكاوي ليبيا التراجيدية .. كان لنا زميل دراسة (زمن القراية ام دق) وقد جلس معنا امتحان الشهادة الابتدائية إلا انه لم يوفق في إحراز النجاح والانتقال إلى المرحلة المتوسطة فلامه والده على ذلك (لوم بجيب ليه دق يعني ما كلام وبس), فشكل ذلك سبب منطقي للذهاب إلى ليبيا فغادر السودان وهو لم يزل غضاً والعود طري (وزيد عليه شوية جهالة), وامتد به المقام في ليبيا لسنوات طوال اكلت كثيراً من سنوات شبابه .. وعندما عاد إلى السودان بعد محاولات وجهد مضني من احد أشقائه, وكان والده قد فارق الحياة في تلك السنوات الفاصلة, وبعد وصوله إلى السودان عاش غربة أخرى اشد قساوة من تلك التي كان يعيشها في ليبيا, فقد غادر السودان وعاد إليه وما زالت ذاكرته تحتفظ بكل صور الطفولة الباكرة وبآخر المناظر والمشاهد التي تركها خلفه, وتصور له ذاكرته كل تفاصيل المدينة والملامح القديمة .. وما زال يتذكر اصدقاء الطفولة وزملاء الدراسة الابتدائية, وهو لا يدري ان الزمن قد سار على التفاصيل القديمة وغير ملامحها وشكلها, فكانت صدمته اكبر من ان يستطيع تحملها فأنقلب على عقبيه هارباً. وعلى لسانه احكي وهو يقول: (دفعتي لقيتهم اتخرجوا من الجامعة واتوظفوا وبقو ناس كبار, وناس بيتنا رحلو من حلتنا القديمة بعد وفاة الوالد وسكنو في حلة جديدة لا بعرف فيها زول ولا في زول بعرفني, وحتى ناس بيتنا شايفيني زول غريب عنهم, واخواني الصغار كبرو وبشوف في عيونهم لوم عجيب وكأنهم بقولو لي انت هربت مننا وقت نحن كنا محتاجين لاخو كبير يقيف جنبنا والآن جاي تعمل شنو, ديل شايفيني غريب وكلامي عجيب وما راكب بعضو … ويقول بحسرة والله انا هنا تاني ما بقدر بعيش, ويواصل قائلاً: طلبت من امي العفو وقلت ليها انا ما بقدر بعيش هنا اسمحي لي انا راجع ليبيا).. ويتمدد الألم ليغطي ما تبقى من مساحات.
[email][email protected][/email]
أنتو نخاو الماء العذب تذهبوا للصحراء وحتى مياة خليجها مالح أرجعوا للسودان احسن من ليبيا مليون مرة سوى أضحت ليبيا القذافي ام الثورة أرجعوا للبلد الخضراء بلد ماء النيل بلد الاشجار
لسه ليبيا ما إتغيرت و اله شنو؟ زمان كان راكبها عفريت إسمو قذافي ! الآن أفتكر أحسن شوية من السودان – عفاريتنا شداد جداً
عفوا الاخ الكاتب ربما كتبت سماعيا او جمعت افكارك وبالطبع لم تسال نفسك لماذا كل من ذهب الى ليبيا يصبح امر عودتة صعبا جدا جدا …
عملت فى تلك البلاد فى منتصف الالفينات سنتين ونصف فقط وعدت ولكن هذة البلاد العجييبة والغريبة لم ولن تفارقنى ابدا وهى نفس حيرة الاصدقاء والمعارف الذين كلما قابلنى احدهم سالنى ياذوول انت حطمت الرقم القياسى مافى ذول بمشى ليبيا وبجى بعد سنتين ؟؟؟ عملتها كيف دى ؟؟؟ ويردف معظم السائلين باستفسار انت لية الناس البمشو ليبيا ما بجوو ؟؟؟؟!
وكنت اقول لهم لقد هربت من تلك البلاد حتى لا تهرب بى وايقنت باننى اذا اكلمت الثلاث سنين لن اعود ابدا فتلك البلاد ساحرة بحق وحقيقة ؟؟؟
هناك جوانب مشرقة وجميلة اغفلها الكاتب تما وهى غائبة عن معظم السودانيين الذين يعيشون بها وعن الذين يتسائلون عن سر ليبيا ؟؟
كنت طيلة السنتين و نصف فى حالة ملاحظة لسلوك الجاليات السودانية الكبيرةالتى تعيش فى لببيا ..
لكن ببساطة اعتقد باننى يمكن ان اصنف السودانيين الذين يعيشون فى ليبيا ليسو بالمغتربين بالمعنى الحرفى ولكنك يمكنك ان تصنف قاطنى ليبيا بالمهاجريين فوضعهم اشبة بالمهاجرين تماما وليسو بمغتربين مثل دول الخليج فى اعتقادى هذا هو السر … علاوة على ان ليبيا اشبة فى ايقعاها بالدول الاوربية من ناحية المناخ والاكل والشرب وحتى العمارة وهى تختلف تماما عن دول الخليج … والمدهش بانك فى ليبيا تحس بغربة قاتلة جدا جدا لدرجة البكاء فى حين ان هذة المشاعر تختفى تماما فى دول الخليج رغم ان السودانيين الموجوديين فى لبييايوازى مغتربى السعودية بل يتفوق عليهم من ناحية الوجود الاسرى والدليل كثرة الاندية والقنصليات والمدارس السودانية فى تلك الديار … فهى بلاد رائعة جدا ولن تنسى ابدا بالتاكيد هناك من لازمهم سوء الطالع ولكن هناك الالاف الذين يعتبرونها وطنا ويعيشون فى سلام وامان وبحبحوبة وحرية لدرجة نسيان الاهل والاقارب.. كان هذا فى عهد ليبيا القزافى اما الان فالله اعلم ..
ونحن صبيه ..عندما كنا نذهب لمنزل صديقنا محمد الذى تزين جدرانه صوره انيقه كنا نساله ببرائه صوره من هذه ؟؟..فيجيب ان الصوره لخاله المغترب فى ليبيا كبرنا قليلا والصوره لا تزال معلقه تحتضن جدار المنزل كبرنا ودخلنا المرحله الثانويه والصوره هى هى ..بعدها ذهب كل الى حال سبيله ..اما الى الجامعه او الى وظيفه او الى الخارج متعربا..انقطعت اخبار صديقنا واخباره خاله واخبار الصوره..لكن الغالب الاعم ان صحب الصوره ربما لم يعود للآن..تذكرت هذه القصه عند قرائت لهذا المقال المعبر والمأثر فى آن واحد..
ليبيا… انها الأرض اليباب وليست ببلد يصلح للاغتراب…انها أرض للعذاب بامتياز… رحم الله من مات عطشا في البيداء اليها مهاجرا كان آخر مشتهاه من الفانية جرعة ماء تروي غليله، ورفيق درب يواريه الثرى و يبلغ وصيته للأهل يوم رحيله، رحم الله من مات علي يد من كان ببطشه وطيشه سببا في ثورة من ثار عليه من الثوار، رحم الله من مات بنيران من يسمون الثوار، أو بنيران وشهب الحلف الأطلسي الجبار،رحم الله من ابتلعه المتوسط في جوفه وهو من ليبيا كان مبحرا صوب الشط الأوربي، رحم الله من بلغ الشط الأوربي جثة هامدة لفظه اليم للشط بعد أن كتم أخر الأنفاس منه كتما في محاولة فاشلة ويائسة للسباحة صوب الساحل بعد أن تحطم المركب…،عدد غفير من أهل السودان خاصة من دارفور وكردفان لا يحصيه ويعلم عدده الا الرحمن…. اللهم أغفر لهم جميعا وارحمهم، فمن كان منهم في بطن الحوت فارحمه كما رحمت يونس، ومن كان في غياهب الصحراء فيسر أمر آخرته فقد كان أمر دنياه عليه عسيرا وأنت قد وعدته يا رحمن يارحيم بأن من بعد عسر يسرا.