ترق منا الدماء أو ترق كل الدماء.. وقد أرُيقت

رأي

ترق منا الدماء أو ترق كل الدماء.. وقد أرُيقت

محمد عيسى عليو

٭ حزنت حزناً شديداً بعد سماعي لخطاب السيد الرئيس الأسبوع الماضي، ذلك الخطاب التعبوي أمام قيادة الدفاع الشعبي، حيث أعلن من هناك العدد الحقيقي حسب إحصائية الحكومة لقتلى الجنوب، حيث قال السيد الرئيس إننا فقدنا ثمانية عشر ألفاً من القتلى، ومستعدون أن نفقد ثمانية عشر ألفاً آخرين من أجل تحرير البلاد من المتمردين.
الذي أحزنني ليس هذا الكلام فحسب، وإنما الدوامة الدموية ورحى الحرب التي ظلت تطحن في السودانيين منذ تحرك الأتراك لاستعمار السودان في 0281م، بدءاً من أول معركة حقيقية دارت بينهم والشايقية قرب كورتي في 4/11/0281م، بعد أن استسلمت دنقلا والمحس وأرقو. منذ تلك المعركة، ودماء السودانيين تنزف إلى يومنا هذا!!. لماذا؟ لا أدري، ففترة الأتراك كلها كانت دماء تسيل على النيل، وتتشربها صحارى ووهاد السودان، ويمكننا أن نفرد إحصائية بدموية المعارك بالتاريخ ومواقعها، مئات الآلاف من السودانيين فقدوا أرواحهم في فترة الأتراك التي طالت لستين عاماً، ولم تكن المهدية بأحسن حالاً من الأتراك، فاذا اعتبرنا أن المعركة كانت تدور بين الاتراك والوطنيين، فإن معظم فترة المهدية التي امتدت لثلاثة عشر عاماً كانت بين السودانيين أنفسهم، ما عدا فترة بقاء الإمام المهدي على قيد الحياة، فكانت كل الحروب ضد المستعمر، ففي فترة حكم الخليفة عبد الله كان الموت بين السودانيين عظيماً عظم موتهم ضد الاستعمار، وهنا لا نريد أن نحاكم من هو المخطئ، ولكنه سرد فقط للموت والدمار الذي حصل بالسودانيين. ثم جاء الحكم الاستعماري الثاني الذي عُرف بالحكم الثنائي، فلم تشهد البلاد أى استقرار البتة في سنيه الاول فكانت هناك مقاومات سواء في سط البلاد أو في الجنوب أو في الغرب، ونتج عن ذلك موت زؤام، حتى نال السودان استقلاله عام 6591م. ومنذ ذلك التاريخ والبلاد تنزف دماً، وتفقد رجالاً، وترمل نساءً، وهكذا تدفع بمجتمع خامل، معقد مريض نفسياً، ومن ثم نطلب منه الإنتاج والإبداع! أضف إلى ذلك الصراع حول السلطة منذ عبود والانقلابات التي كانت ضده والنميري الذي كانت فترته دموية للغاية بدءاً بالجزيرة أبا وود نوباوي، وانقلاب حسن حسين ومحمد نور سعد، وقبل ذلك انقلاب الشيوعيين 7/1791 وما أحدثه من قتل وسحل وترميل للنساء، ودفعت هذه الأهوال للمجتمع السوداني بجيل حاقد وحقود، ثم جاءت الإنقاذ التي لم تهدأ البلاد في عهدها يوماً واحداً، واعتادت الحياة في السودان على سماع المارشات الحماسية والخطب الدموية: ترق منا الدماء، او ترق كل الدماء. وهكذا توالت المحن والموت يمشي برجلين بيننا كل يوم وفي كل بيت، ففي فترة نميري على الأقل عاش السودانيون هدنة لاثني عشر عاماً، بعد اتفاقية أديس أبابا في عام 1791م، ثم انطلقت حركة جون قرنق في مارس 3891م.
ولكن في عهد الإنقاذ متى ارتاح الناس؟ حرب في الجنوب حصدت ثمانية عشر ألفاً من الأنفس العزيزة، وأعتقد أن هذه الإحصائية يعني بها الرئيس فقداء الدفاع الشعبي، ولا يشمل ذلك فقداء القوات المسلحة والأمن والمواطنين الشماليين والجنوبين، لأن الاحصائية الدولية تشير الى فقد مليوني سوداني، وذلك منذ بدأ الحرب في 5591م، وعلى العموم نتفق على أن هناك موتاً كثيراً وسط السودانيين، وهذا ما نحن بصدده في هذا المقال، واكرر السؤال لماذا هذا الموت؟! ألم نحظ بقيادة رشيدة طول هذه القرون؟ والسؤال يخرج دون استئذان لماذا لم نوفق في تقديم هذه القيادة الرشيدة؟! ولا أستطيع ان اجب على هذا السؤال لأنه كبير، وإن لم تكن فينا الشجاعة للإجابة عليه فسوف نظل ندفع بأنفسنا إلى هذه المعركة قروناً أخر تبتلي فيها أجيالنا القادمة، فأطفالنا الرضع الأبرياء الآن هم الذين سيدفعون ثمن ما استدانه جيلهم السابق دون دراسة جدوى مشروعة، ولكني أشير الى الآتي:
إن هذه البلاد كانت قانعة بدويلاتها المنتشرة في ربوعها رغم تناثرها في المليون ميل مربع، وليس هناك رابط كنفدرالي بينها، ولكن كانت حتماً بينهم العلاقات والاتصالات التي تتخللها الحروب والمناوشات، ثم جاء الأتراك ليوحدوا هذه الدويلات على غير قناعة منها، والأتراك لم يوحدوها إلا لتسهل السيطرة المركزية عليها والاستمتاع باستيراد الخيرات منها كالعبيد وسن الفيل وريش النعام والجنود الصالحين للحرب في البلقان والمكسيك وفلسطين والحجاز، لا لتطوير المجتمع السوداني، وهذا ما جعل فترة التركية كلها حروباً في حروب، ثم جاءت الثورة المهدية لتحذو حذو الاتراك «الحجل في الرجل»، ولكن بنظرة مغايرة وهى النظرة الدينية التي تدعو للتوحد، وأيضاً جاءت دون إقناع الناس، فقامت الحروب القبلية التي تدعو للاستقلال عن المركز، ومعظم حروب الخليفة عبد الله كانت لإخضاع القبائل التي كانت تجنح للاستقلال، الأمر الذي مضى فيه الانجليز (مع شوية رخرخة للصواميل القبلية) فخرجت القوانين التي تطلق يد القبائل رويداً رويداً لحكم أنفسهم بأنفسهم، وهذا ما جعل فترة الإنجليز تشهد استقراراً في الآونة الأخيرة، ولكن بعد الاستقلال رجعت سياسة المركز بأشنع ما كانت تتعامل به الحكومة التركية، ولذلك تكررت الململة، وذلك من خلال إنشاء الأحزاب والتنظيمات الجهوية بعد الاستقلال مباشرة، مثل مؤتمر البجة وجبال النوبة ونهضة دارفور، ولما لم يسمع المركز لهذه الأصوات الجهوية، تطور الأمر للنزاعات المسلحة التي سفكت دماء السودانيين ومازالت تسفك. ولا شك أن المركز سعى لإسكات هذه الأصوات بمبادرات السلام، ولكن يبدو أنه لم يدفع مستحقاته، وفي هذا الخصوص إن الذي يؤلمني أننا وقعنا اتفاق سلام مع الجنوب، بعد أن سكبنا فيه عرقنا، وسفكنا فيه دماءنا، ومع ذلك وقعنا اتفاق سلام لننهي الحرب، ففصلنا الجنوب، وفقدنا البترول وقبله فقدنا الأنفس، ثم نأتي بعد ذلك لنفقد ثمانية عشر ألفاً من الأنفس العزيزة، كما فقدنا الأطباء والمهندسين والطلاب الناجحين، إذا اعتبرنا ان الذي يموت من القوات النظامية مات في واجبه الذي كان يعرفه عندما دخل الكلية، ولكن ما بال الآخرين الذين يموتون في المقدمة ثم ننسحب فيلاحقنا الآخرون، ما معنى توقيع اتفاق سلام يا تري؟! هذه البلاد مخترقة اختراقاً كبيراً وسوف ترون!!. وأعجب أكثر عندما يزوغ جهابذة اتفاق نيفاشا (ويلبدون) كأن شيئاً لم يكن، ثم ينبرون لنا بعد فترة استكانة باتفاق يفصل النيل الأزرق وجبال النوبة، ثم دارفور، ثم يصوغون لنا المبررات.
أعتقد أننا الأفضل إلينا أن ننقض (نفترق) هذا النسيج الذي غزله غيرنا، ثم ننسج نسيجاً وطنياً متفقاً عليه، وهذا وحده هو الذي يوفر دماء السودانيين، ويرفع من شأنهم، بدل المذلة (والبهدلة)، وسؤال الناس أعطونا أو منعونا، وهذا ما نشاهده من لهث الحكومة والجري وراء دول البترول لسد العجز الاقتصادي واستجداء الأجانب من أجل السلام.

الصحافة

تعليق واحد

  1. لم يهنأ الجنوبيون خلال السبعة و خمسين سنة الماضية بأى نوعيةكريمة من الحياة. تيتم أطفال و ترملت نساء منهم و مات شبابهم وأهدرت ثرواتهم الحيوانية من مواشى و أغنام فى حروب الجيش السودانى عليهم على مدى هذه السنين لا لجرم إلا بمطالبتهم بحياة كريمة ليس إلا. إكتسب الجيش السودانى خبرة طويلة فى قتلهم و حرق قراهم و مواشيهم حين كانت القرية تقتل عن بكرة أبيها ولا يسمح الجنود بدجاجة هاربة منها. لم يحس الكثيرون من الشمال بهذه المآسى لبعدهم عن مكان الأحداث ولتسليمهم بما يقول الإعلام الشمالى ? وكان الناس فى الشمال يستمعون لبرنامج ما يطلبه المستمعون فى وقت يدور فيه قتل الجنوبيين بضراوة من قبل الجيش – كأنما بات الناس فى الشمال مقتنعين بأن اللوم يقع على الجنوبيين وحدهم فى إستمرار هذه الحروب. لم يتجرأ زعيم شمالى واحد للإعتذار للجنوبيين عما أصابهم من خبل الشمال والآن ينبح هذا البوم المسمى البشير بأنه فقد 18 ألفا ويريد أن يرسل مثلهم لمزيد من ضياع الأنفس ولا يتذكر كقائد مسؤول أمام الله مليونين من الجنوبيين من رعيته الذين قتلوا فى هذه الحرب المصنوعة.
    ويصف الكاتب هؤلاء ال18 ألفا بأرواح عزيزة. أوليس 2 مليون من الأطفال والنساء والشباب الجنوبيين أرواح عزيزة أيضا؟ هل صاروا مجرد إحصائيات على الورق و اللسان كما ورد فى المقال؟ ألم يأت بعد يوم نعيهم؟

  2. لصوص الحكومة الاسلاموية لا يحلو لهم النهب الا وسط بحار من الدماء… اليس شعارهم فلترق كل الدماء؟ منذ اول ايام الانقلاب المشئوم و الى يومنا هذا لم تسكت اصوات البنادق و لم يتوقف نزيف الدم … و هاهو المشير الراقص يعدنا بمزيد من الدماء و مزيد من الحروب و مزيد من ضياع الانفس و الامن و الاستقرار و تبديد ما تبقى من موارد بعد ان نهبوا ما نهبوا و باعوا ما باعوا!
    هؤلاء قوم مرضى .. و مصاصي دماء و لكن ما بال الشعب الذي يقع عليه كل البلاء و المصائب و يموت ابناءه و يعيش في الخوف و الجوع و المسغبة؟ اين الشعب الذي اسقط عبود و نميري – و هما لم يرتكبا حتى 1 % مما ارتكبه دراكولا الراقص و عصابته-؟

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..