الحكومة القومية والمحسنات السياسية

د. هاشم حسين بابكر
الحوار الذي يدور هذه الأيام وهو أمر مطلوب ويجب أن يستمر حتى يأتي أُكله، هذا إن صلحت النوايا ووضع الجميع أصولاً يجتمعون عليها ويتفقون. ومن الملاحظ في الشأن السوداني رغم أن مكوناته لا تجتمع على الأصول إنما تفرقها الفروع والامثال كثيرة يمكن ذكرها، فمثلاً لو نظرنا إلى أحزاب الإسلام السياسي لوجدناها كثيرة ومتعددة رغم أن جواز المرور إلى الدين الإسلامي هو الوحدانية «لا إله إلا الله»!!
الكل يشهد بوحدانية الله ونفي إله على الأرض غيره، ورغم ذلك نجد هذا الكم الهائل من الاحزاب التي تصف نفسها بالإسلامية، وهي في حالة عداء ظاهر ومستتر فيما بينها رغم اتفاقها على الأصل «لا إله إلا الله»!!
وعلى ذلك قس الأحزاب الطائفية والشيوعية والبعث وغيرها، هذا التباعد الفكري لدى الاحزاب السياسية إسلامية كانت أم علمانية «رغم الاتفاق على الأصول» بدا ظاهراً في ذلك الحشد السياسي الذي ظهر من خلال ما يقارب التسعين حزباً على الساحة السياسية في السودان..!!
وقد خلق هذا التعدد والتفرق نوعاً من الفوضى السياسية كما خلق مناخاً سياسياً ضاع عنه الهدف، رغم أن هدف المسلم محدد وهو السير في الطرق إلى الله، الذي آمن به وحده لا شريك له ونفى وجود إله غيره..!!
والمسؤولية عند المولى عزَّ وجلَّ مسؤولية فردية «وكل آتية يوم القيامة فرداً» والذين يظنون أنهم ملاقو الله قلة قليلة عبر عنها المولى عزَّ وجلَّ «كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله» وكم هذه تقريرية تتحدث عن كثرة الحدث..!!
والاختلاف في الفروع يضيع الاصول ويشوش على الهدف، بل يجعل الحياة تسير بلا هدى وهو ما عبر عنه الكثير من الكتاب والمفكرين بالجاهلية. وترك الاصول والاختلاف في الفروع يشتت الامة ولا يجعلها على قلب رجل واحد، وحينها تظهر النعرات القبلية والنزعات العنصرية وتنطبق عليهم الآية «تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى».
وفي مثل هذا الجو السياسي المضطرب، تسود سياسة العصا، فالذي يملك مصدر قوة هو من يتحكم ويبطش واذا تفرقت الغنم..» وتغيب السياسة ويسود مبدأ القوة وقد يجد البعض الإمكانية لمواجهة القوة بمثلها فتظهر الفصائل المتمردة التي هي الأخرى ليس لها اصل متفق عليه ناهيك عن فروع يختلفون عليها، والا ما كانت هي الاخرى متعددة ولو كان لديها ما تتفق عليه لتوحدت!!
تعدد الاحزاب يعني تعدد الاهداف واختلاف الاصول. وكلها تطالب بالحرية والديمقراطية بالرغم من ان الذي فرقها هو غياب ما يطالبون به من حرية وديمقراطية داخل احزابهم التي انشقوا عنها. والاحزاب التقليدية التي عرفناها تشظت إلى عدد لا يصدق، فمنها من اصبح اكثر من خمسة احزاب، وذات الامر ينطلي على تلك التي وضعت شعاراً عظيماً لها «لا إله إلا الله»!!
وامام هذا المشهد السياسي الغريب وجد المواطن نفسه معزولاً فعاف كل هذه الاحزاب والتجمعات السياسية، وما كثرة الأحزاب الا نتيجة لهذه العزلة بين المواطن ونظام حكمه ومعارضته على السواء، فالاحزاب التي تفتقر إلى الحرية داخل أروقتها تطالب بها النظام الذي ما وجد وسيلة للاستيلاء على السلطة سوى البندقية وضعف الطالب والمطلوب..!!
فالاحزاب التي رأيناها تجلس حول طاولة الحوار الكثير منها يمثل الخمسة أو الاربعة والجالسين حول الطاولة.. يمثلون قيادة الحزب وجماهيره على السواء.
وتعدد الاحزاب السياسية يعكس حالة ضياع سياسي وليس مظهراً من مظاهر الحرية والديمقراطية. فالشارع معزول تماماً عنها، ولعلي لا أجافي الحقيقة ان قلت إن غالبية الشعب السوداني قد مل هذه الاحزاب.. حديثها وقديمها طائفية كانت ام عقائدية، وأكبر دليل على ذلك هو عدم تأثيرها على الشارع السياسي العام فكل هذه الاحزاب بما فيها حزب النظام الحاكم لا تستطيع أن تسير موكباً مؤيداً كان أم معارضاً..!!
وقد ذكرت في مقال سابق أن معظم سكان السودان تتراوح أعمارهم بين العشرين والاربعين، واجزم بأن هذه الاغلبية لا ترى لا في حزب النظام ولا في جموع الاحزاب الاخرى لا ترى في أيٍ منها ضالتها..!!
وكلما اشرقت شمس يوم جديد يظهر حزب جديد يبتغي جذب ذلك المواطن الحائر في أمره، وهذا خلل في المفاهيم السياسية، فكثرة الاحزاب ليست ظاهرة صحية ديمقراطية كما يظن الكثيرون، إنما هو انعكاس لتباعد الأفكار والاهداف، وفي نهاية الامر يعزز الصراع على السلطة، وحينها تجد المساومات السياسية والاغراءات مرتعاً خصباً، تستخدم فيه كل أسلحة الفساد والابتزاز!!
فالذي يجلس على السلطة لا يود مفارقتها هكذا لمجرد ان بضع وتسعين حزباً جلست حول طاولة الحوار، وهو يدرك تماماً دوافعهم وهي ليست قومية كما يدعون إنما دوافع ذاتية، لذلك فلا بأس ان تقدم لهم الجزرة «حكومة قومية»، واغرب ما في الامر ان هذه الاحزاب لم تجد الروح القومية في احزابها الام عقائدية كانت ام علمانية، فأي روح قومية بثت فيهم ليشكلوا حكومة قومية تلك القومية التي افتقدوها في احزابهم التي غلبت فيها الروح الذاتية على القومية بالضربة القاضية..!!
وانعدام الروح القومية تحل مكانه الروح القبلية والعنصرية ويضعف الاحزاب السياسية للحد الادني، فيتحول الصراع السياسي إلى صراع عنصري تغيب عنه السياسة وتتحدث مكانها البندقية فالصراع القبلي والعنصري هو في الاصل صراع وجود وبقاء..!!
فالروح القومية انعدمت تماماً ودليلي على ذلك تكالب احزاب المعارضة على الحركة الشعيبة وانضمامها إلى جون قرنق، الامر الذي عاد بالخراب على كل السودان شماله وجنوبه سواء بسواء، وبعد ان وجد قرنق ضالته ركلهم جميعاً وانفرد بوفد حزب النظام الذي كان «شاهداً ما شافش حاجة»، وتم توقيع نيفاشا التي افرغت بأسها على كل من الشمال والجنوب..!!
فالاحزاب تطمع في تقاسم السلطة والثروة وهذا ما تم الحدث عنه صراحة وليس الاصلاح واعادة اعمار البلاد ومؤسساتها من الدمار الذي حل بها..!
والمطالبة بقسمة السلطة والثروة تلخيصاً للمثل الشعبي الذي يقول «سلطة للركبة ولا مال للرقبة» فهم لا يكتفون بالسلطة وحدها بل مقرونة بالثروة وهذه بدعة سيئة من بدع نيفاشا التي لا تنتهي..!
كم يا ترى عدد الوزراء في هذه الحكومة حتى ولو اخذنا من كل حزب شخصاً واحداً، وكيف سيتم توزيع الوزارات السيادية «السلطة» والوزارات التي تدير الثروة، فالامر منصب عليها أكثر من غيرها في قسمة السلطة والثروة..!!
إن انسب حكومة تقوم في الوقت الحاضر هي حكومة التكنوقراط التي لا تحمل اية توجهات سياسية ولها هدف هو اعادة اعمار المؤسسات الاقتصادية لتكون هناك ثروة تقتسم وسلطة تدير هذه المؤسسات، التي ادارها غير اهلها فسببت الخسائر المادية الفادحة، وبدلاً من اصلاحها تم بيعها والتخلص منها بدلاً من التخلص من اولئك الذين خربوها..!!
وحكومة التكنوقراط اذا توافق عليها النظام والاحزاب هي الحكومة القومية المنشودة، وحشد الذين تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى في حكومة واحدة لا يعطيها صفة القومية مهما اضافوا عليها من محسنات سياسية.
[email][email protected][/email]
لو يسمع من اصم اذنيه مطمح السلطة، أو يبصر من أعماه مطمع الثروة، أو يعقل من خلب لبه منصب الوزارة، أو يدرك من أذهب عقله بريق الإمارة، أو يعي من ملك نفسه هوي الاستشارة، نصحك المخلص هذا – يا دكتور – لغدا السودان فردوس الفراديس، و لا غشي السودانيين قط أبليس.
لو يسمع من اصم اذنيه مطمح السلطة، أو يبصر من أعماه مطمع الثروة، أو يعقل من خلب لبه منصب الوزارة، أو يدرك من أذهب عقله بريق الإمارة، أو يعي من ملك نفسه هوي الاستشارة، نصحك المخلص هذا – يا دكتور – لغدا السودان فردوس الفراديس، و لا غشي السودانيين قط أبليس.