عظماء في تاريخي

اذكر في نهايات التسعينيات من القرن الماضي ( طبعاً هذا دليل دامغ على تقدمي في السن ) كنت مجنداً بالخدمة الوطنية التي كانت عائقاً في طريقي كل ما طرقت باب وجدتها أمامي شبحاً يطاردني أقلقني وهدد مستقبلي ولم أستطع مقاومته الا بأدائها فوجدت نفسي مجبراً عليها رغم عدم ميولي للعسكرية وهروبي من الكلية الحربية بعد معاينة القائد الأخيرة للدفعة 47 .
كنت اراها مدخلاً لفتح منافذ الأمل لمستقبلي الحالم آنذاك .. عموماً ذهبت طائعاً مختاراً لتجنيد نفسي مع عزة السودان الأولى علماً بانني اسبقهم بدفعة ولا تنطبق علي شروطهم … قابلت قائد المعسكر وقتئذن وكان إسمه عميد مهندس / الشفيع وبصحبتي 10 حالات تطابق حالتي وكنت الناطق الرسمي بإسمهم .. تفهم القائد شرحنا ولمس جديتنا ووجه بإستيعابنا في المعسكر مع إلتزامه التام بتوزيعنا بعد نهاية المعسكر وختام التدريبات .
جزاه الله خيراً ذلكم القائد كان رجل جميل وعند وعده بعد التخرج اصطحبنا معه بإمر تحرك وإفادة معسكر إلى ادارة الخدمة الوطنية العمارات شارع 61 وتم منحنا النمرة العسكرية وكانت نمرة بتسلسل قديم منحتنا أقدمية على معظم المجندين وكانت لنا مصدر قوة بينهم كما تعلمون نظام الأقدمية في الجيش ( لها حكايات وروايات ) .
تم صرف الزي العسكري ( الكاكي ) ونسِّبنا في إدارة تسمى شعبة التجنيد .
وانطلقت بداية المعاناة التي أصبحت ذكرى جميلة .. كان الراتب الذي نتقاضاه 50 جنيهاً ( 50 ألف جنيه ) وأنا أسكن ام درمان الثورة الحارة 25 تتطلب رحلة الذهاب والعودة 800 جنيه في الأحوال العادية والفطور 500 ( طبعاً شيرنق ) ومصروفات أخرى لممارسات شبابية مضرة … يعني ممكن نقول التكلفة اليومية 2000 جنيه .
الشهر 60 ألف لو حسبنا الجمعة لانه مرات يوجد دوام .
حياة كفاف وضنك وشظف ومخمصة ومعاناة والغريب إنها تعدي ويمر شهر تلو الآخر وبدون ديون كيف ؟ ( الله أعلم ) .
في يوم من أيام نهايات الشهر والفلس ضارب أطنابه وعطية ملازمني والجيوب يسكنها العنكبوت .. كل الجيوب شعارها ابو النوم عدا جيب واحد كان يزخر ويحتفل بمبلغ 350 جنيه وأنا في رحلة الإياب من شارع 61 الى المنزل علماً بأن تكلفة رحلتي 400 جنيه تفاصيلها كالتالي :
1/ من العمارات إلى السوق العربي 100 جنيه حافلات COASTER كوستر ( ابوالقدح ) والتي تم تعديل ماكيناتها من بنزين إلى ديزل لتفاوت سعر الوقود .
2/ من العربي للشهداء 100 جنيه ( بص الموردة ماركة TATA الهندية ) أبو الرخاء الذي تلاشى وتبخر عند غزو ال ROSA ( الروزة ) ومن ثم تلتها ال HIACE (الهايس) و ال GRACE (القريس) .
3/ من الشهداء للشنقيطي الحارة ( 14) 150 جنيه ( الدفارات ) وهي عبارة عن شاحنة ماركة MITSUBISHI متوسطة تم سقف سطحها في ورش السوق الشعبي ام درمان بأيادي حدادين سودانيين مهرة أشهرهم ( ودسنار) وآخرين .. مقاعد جلوس الركاب عبارة عن كنبتين متوازيتين يفصلها ممر يستقله الركاب في الزحام وأوقات الذروة في الجلوس وقوفاً ( شماعة ) وهي الدرجة التي كنت أحظى بها دائماً .. ونتمايل مع المنعطفات والمطبات وصوت ( ابنصات ) الجوكي الممتعة .
آنذاك كانت لا توجد مواصلات الخرطوم الشنقيطي إلا بالقطاعي وبالطريقة آنفة الذكر .
4/ من الثورة الحارة 14 الى البيت قيمة التذكرة 50 جنيه ووسيلة النقل عبارة عن كارو حمار مع مزيكا صاخبة وطرب بأغاني هشك بشك يتراقص معها السائق وحماره والركاب اذكر بعض مفرداتها الرصينة ( رائعة عمك حسبو يعاين لي وشتت قصبو يعاين لي ) أيضاً سيمفونية دق الباب وجانا وانا جريت ليه حفيانة ( حنانة النسى اهلو مانسانا ) … واذكر منها اغنية الشحم دا واللحم دا والسمك دا في الموردة .. والاغنية التي لم تجاز وقتئذن واحدثت ضجة كبيرة ( راجل المرة ) … ويتبادل في غنائها مطربين ومطربات كبار ( تقليعة – الشفت – بت الديم – بت القلعة – غرزة – عذاب ) وأخريات يحملن إسماء منطقتهن أو صفة أشكالهن .
كان سائق الكارو يساعد النساء بالركوب إلى الفارهة بوضع بطارية سيارة منتهية الصلاحية أو صندوق مشروب غازي أستغنى عنه التاجر .
فيما بعد زاد سعر تذكرة الكارو مع زيادة سعر المحروقات ولما سألت قائد الاسطول ( الكارو ) لماذا الزيادة ؟ هل انت تستخدم وقود للكارو ؟ أجابني بثقة طبعاً لا .. لكن زيادتي أتت من زيادة ( العلوق ) . وشرح لي النظرية الإقتصادية التي تخص زيادة الأسعار في السوق … خجلت من نفسي وأحترمته جداً .
كنت حينما اكون منعنش والجيب مليان ومنتفخ أتخذها وسيلة للوصول والإستمتاع بتفاصيل الرحلة ولما الحال يكون بطال وأسيف والظروف تكون حارنة أمتطي أرجلي ( ادق الكدر ) واطلق العنان خلفي وذلك هو الغالب .
نعود لرحلتنا تحركت من 61 إلى العربي وتبقى بحوزتي 250 جنيه وأنا في طريقي من مواصلات الصحافة شرق إلى موقف بصات الموردة ( القبة الخضراء ) فإذا برجل كفيف البصر يختارني من دون البشر لأساعده في تخطي الشارع فهممت بكل انسانية بمساعدته كحال كل إنسان ناهيك عن مسلم وأمسكت بيده وتخطينا الإسفلت وسألته عن وجهته التي يقصدها فقال : أريد الذهاب إلى جبرة فقررت توصيله إلى موقف الحافلات غرب عمارة السلام وهو في خط توازي مع خط سيري .
الغريب في الأمر انه بعد وصولنا للموقف أركبته الحافلة ووصيت الكمساري عليه ان ينزله بمحطته التي سماها وشالتني الهاشمية ودفعت للكمساري قيمة التذكرة والتي تبلغ آنذاك 100 جنيه .
إذن تبقى في جيبي المتهالك والآيل للسقوط مبلغ 150 جنيه وهي غير مؤهلة لتوصيلي المنزل.
تشاورت مع نفسي وقررت ركوب بص الموردة واصل الشهداء وربك كريم مع إنه عندي صلاحية غير إنسانية يستخدمها العساكر بالزي الرسمي عند ركوب المواصلات وهي كلمــة ( ماعندي ) مع صرة وش .
ولكني لا أحب إستخدامها وأخجل منها وافضل المشي على أرجلي (الكدر) على نطق تلك الكلمة البغيضة .
توكلت على الله وركبت البص وكنت من أوائل الجالسين في المقاعد إتخذت شباك ناصية شرفته مطلة على الرصيف لأمارس عادتي السيئة في تعاطي التبغ تحت شفتي السفلى (حماكم الله ) .
ونحن في إنتظار إمتلاء البص بالركاب وضجيج المارة واصوات ابواق السيارات وصيحات الكمسنجي بنغماته التي أصبحت جزءاً من حياتي اليومية فإذا بشحاذ كسيح القدمين يمشي على مؤخرته وهو من الوجوه المعروفة في الموقف يركب البص ويختار المقعد الذي يلاصقني واقرأني السلام وجلس .
دائماً كنت أنتهز سانحة الزمن في مسافة الرحلة المملة والمتكررة بغفوة ونومة الديك في الحبل من كثر الإرهاق ودرش الجيش .
اخذت غفوتي كما العادة فأيقظتني طقطقة أنامل الكمساري التي تشبه نغمة ( أبشر ) لتحصيل التذكرة .. فهممت بسرعة بإخراج ال 100 جنيه لكي افتك منه واستأنف نومي .
مددت يدي وبصحبتها النقود للكمساري فقال: ( مدفوع ) تلفت يمنى ويسرى لم أجد شخص أعرفه فساقني الفضول لمعرفة الدافع فسألته فرد لي ( الزول الجنبك دا ) وهو يؤشر على الشحاذ .. إندهشت لبرهة و بانت الدهشة على محياي وجمت ولم أستطع التحدث إلا بعد أن أصدر دماغي إشارة الى لساني فنطق بسؤال وجهته الى جاري العزيز الفاضل ( الشحاذ ) هل انت فعلاً ؟؟؟ فأجاب بايماءة برأسه تفيد نعم .
أردفت سائلاً والدهشة وصلت أوجها … ولماذا ؟ قال الرجل العظيم كلام جعل دهشتي تتحول إلى دموع وخشوع وإحترام .. قال : حبيتك في الله وجاني مزاج إنه أدفع ليك وأصلاً القروش دي أنا ما اشتغلتها جاية من ربنا وتمشي في ربنا وتاني بتجي .
قبلت رأسه وشكرته شكراً جميلاً وأثنيت عليه ودعوت له دعوات صالحات مع إني لست بصالح وايضاً لست طالح .
حديثه جعلني أعيش في عالم آخر والعبرة تخنقني واغرورقت عيناي وفاضت وإنهمر دمع سخين أغسل ضبابية وعتمة وغشاوة من مقلتي .
وعلمت أن الذي أرسل ذلك الشحاذ هو ذاك الأعمى جزاء صنيعي معه بإيعاذ من خالق ثلاثتنا .
وتذكرت قول الله تعالى في كثير من المواضع التي تشبه الموقف وقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ( رب اشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره ) كماقال ( أعطوا السائل ولو جاء على ظهر فرس )
وتذكرت حكم وأمثال وأشعار وكل عبارة حضرتني سُطرت لمثل هذا الموقف .

يوم أصبح خالد في دفتر حياتي إلتقيت فيه بشخصيات عظيمة صديقي ( الكفيف ) … ومعلمي وأستاذي ( الشحاذ الكسيح )
والشكر موصول للبروفيسور في الإقتصاد ( سيد الكارو ) والعميد مهندس / قائد المعسكر

دونت من أجل الوفاء لأبطال الرواية العظماء .

# عامل الناس كما تحب أن تعامل
# تصدق ولو بشق تمرة
# الناس سواسية كأسنان المشط
# كن جميلاً تحصد أجمل

[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..