مقالات وآراء
من لطائف السيرة

ظِلَال القمــــــر
عبدالرحمن محمـــد فضــل
سيرة النبي عليه الصلاة والسلام فيها الكثير من اللطائف مثل مواسته للطفل الصغير الذي فقد عصفورة حين لاطفه النبي بكل مهابته وعظمته (ياعمير مافعل النغير).
عن أنس رضي الله عنه: ((أنَّ رجلًا من أهل البادية كان اسمه زاهرًا ، يهدي النَّبي صلى الله عليه وسلم الهديَّة من البادية ، فيجهِّزه النَّبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج ، فقال رسول الله : إنَّ زاهرًا باديتنا ، ونحن حاضروه . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّه وكان رجلًا دميمًا ، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبيع متاعه ، فاحتضنه من خلفه ، ولا يبصره الرَّجل ، فقال: أرسلني ، مَنْ هذا؟ فالتفت ، فعرف النَّبي صلى الله عليه وسلم ، فجعل لا يَأْلُو ما ألصق ظهره بصدر النَّبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه ، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من يشتري العبد؟ فقال : يا رسول الله ، إذًا والله تجدني كاسدًا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لكن -عند الله- لست بكاسد . أو قال : لكن – عند الله – أنت غال) وعن أنس بن مالك رضي الله عنه ، أنَّ رجلًا استحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (إنِّي حاملك على ولد النَّاقة فقال يا رسول الله ، ما أصنع بولد النَّاقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهل تلد الإبل إلا النُّوق؟) وسباقه للسيدة عائشة رضي الله عنها وقال لها هذه بتلك لانها في اول شبابها عندما سابقها سبقته وعندما كبرت نحو ما سابقها وفاز عليها وذكرها بسابقهما الماضي الذي فازت هي فيه وقال فيما معناه فوزي اليوم بفوزك علي في الامس ، ومن لطائف السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمّي متاعه وسلاحه ودوابه بأسماء ، فسمّى ناقته القصواء ، وبغلته دلدل ، وحماره يعفور ، ودرعه ذات الفضول ، وحربته النبعاء ، وفرسه السكب ، وركوته الصادر ، ونحو ذلك مما تجده في المصنفات المطولة في السيرة الشريفة ، وذكروا في علة هذه التسميات أن ذلك كان من عادة العرب ، وأن غرضهم تحقيق التمايز حتى إذا طلب المرء دابته مثلا بالاسم عرفت من سائر دوابه.
وقد يستغرب الآن تسمية بعض المتاع الشخصي أو المنزلي بأسماء ، وقد يكون لذلك صلة بتغيّر العلاقة الشخصية
بالأدوات والأثاث المنزلية في الزمان المتأخر بعد ثورة التصنيع ، كما أشار لذلك عالم الاجتماع الألماني جورج زيمل (ت1918م) ، وهو يرى أن الجهد الذي يبذل في صنع الشيء وتزيينه والاستعمال الشخصي الحصري له يجعل منه جزءًا من الشخص نفسه أو يكاد ، ويشير إلى الصعوبة الشديدة في شراء الأشياء المستعملة المصنّعة يدويًا لدى الشعوب والقبائل الطبيعية أو “البدائية”، لكونها تكتسب حميمية خاصة بسبب طبيعة الإنتاج الذاتي، ومن ثمّ فكون الأثاث لم يعد يصنّع أو ينتج محليًا بل شخصيًا يضعف علاقة الفرد به ، هذا ملمح التغيّر الأول في العلاقة بالأثاث والأدوات المنزلية.
الملمح الثاني يظهر في تسارع تبدّل الأثاث والأدوات بسبب الصيغة الجديدة للاستهلاك الرأسمالي ، فالأثاث الذي يعايشه الطفل لا يبقى إلى أن يكبر ، بل يتبدل مرارًا ، فالعلاقة لا تكاد تبنى مع “الشيء” بالنسبة للفرد الواحد فضلًا عن الأجيال كما كان في السابق والملمح الثالث يتجلّى في تزايد الأدوات نفسها وتكاثرها على نحو غير مسبوق ومن الواضح أن كثرة “أشياء المنزل” تضعف تكوين الصلة الحميمية بها وتبعثرها ، ويفسّر زيمل شكوى ربّات البيوت آنذاك -أي في الربع الأول من القرن العشرين- من ثقل الأعمال المنزلية وبؤسها ، بأنه يعود للانفصال الموضوعي عن الأشياء المصنّعة الكثيرة المتراكبة داخل المنزل ، والتي تثقل الكاهل بضرورة رعايتها والاهتمام بها ، في حين أن نشاط الزوجة الرعوي القديم أكثر مشقة وشمولًا ؛ إلا أنها الزوجات لم يكن يشعرن بهذا القدر من البؤس ، لأن الأعمال والأشياء مستقرة ، ومرتبطة بالشخصية لأجيال أو لعقود ، وهذا التباعد أو الانفصال الشعوري عن “أشياء المنزل” يفسّر أيضًا ربما ظاهرة الاهتمام المفرط بالتفاصيل الدقيقة في الشأن اليومي في المنزل ، والتي تسعى ضمنيًا لابتكار هذه الصلة الحميمية مع “الأشياء” المصنّعة.