السودان بين استلاف (الحالة العراقية) أو اختراع (ارتباط جديد)اا

نص رأي

السودان بين استلاف (الحالة العراقية) أو اختراع (ارتباط جديد)

خالد التيجاني النور

تبقت أقل من عشرة أسابيع فقط على الموعد المضروب لإجراء الاستفتاء على تقرير المصير، ليس لتحديد مصير الجنوب فحسب بل السودان والمنطقة، ومع ذلك ليس هناك أمر واحد محسوم على نحو قاطع يؤكد استعداد الأطراف لتداعيات وتبعات استحقاق بهذه الخطورة، وحتى إمكانية قيام الاقتراع في موعده أضحى محل شكوك وهواجس كبيرة، دعك من القضايا العالقة، أو القنابل الموقوتة حسبما بات يجري توصيفها عن حق محلياً ودولياً، التي لا يزال التوصل إلى تفاهمات أساسية بشأنها، دعك من أن تسويتها بصورة نهائية، أمراً لا يزال في رحم الغيب في وقت لا يزال يعاود الشريكان الحنين إلى التشاكس على الرغم من أن الحبر الذي سطر به تعهدهما في اجتماع مؤسسة الرئاسة الأخير لم يجف بعد. بل انكفأ الوضع إلى ما هو أسوأ نحو ما حملته مانشيتات الصحف من مواجهات عسكرية بين الطرفين في ولاية سنار. لتزيد المناوشات المسلحة على التصعيد الإعلامي المتبادل، الذي هدأ لحين، الأجواء المتوترة أصلاً ضغثاً على إبالة.
ولندع جانباً التعثر الذي لا يزال يلازم البحث عن حلول لقضايا أبيي، والحدود وترتيبات ما بعد الانفصال، والتي أدى استمرار الخلافات بشأنها إلى تأجيل محادثات أديس أبابا الثانية الرفيعة المستوى إلى أجل غير مسمى، ومن غير المنظور التوصل إلى حلول حاسمة حولها في ظل تباعد المواقف الحالية، بل مرشحة للكثير من التعقيدات في ظل الوقت الآخذ في النفاد مع اقتراب موعد الاستفتاء الذي يعلن الجميع الالتزام بإجرائه في التوقيت المضروب مع علم كل الأطراف، الدولية والمحلية، أن الشروط الموضوعية لقيامه بما يوفي بالحد الأدنى من المعايير التي تؤكد نزاهته وموثوقيته ليست متوفرة بأي حال من الأحوال مما يضع المزيد من العراقيل والضغوط أمام التفاوض بنية حسنة وبالجدية اللازمة لتجاوز القضايا العالقة.
وما من شك أن الاستفتاء الذي كان مأمولاً حسب الاتفاقية أن يكون سبيلاً، بغض النظر عن النتيجة التي يؤدي إليها، لوضع النقطة الأخيرة بعد السطر الأخير في فصول الأزمة السودانية تحول بامتياز ليصبح أزمة في حد ذاته وسبباً في دفع الجميع إلى حافة الهاوية مجدداً بعدما استبقت الأطراف الدولية والمحلية كلمته بالتقرير نيابة عن مواطني الجنوب بحتمية الانفصال، في وقت لم يرافق ذلك التوافق على التفاهمات الضرورية لترتيبات ما بعد الانفصال على نحو مرض للطرفين المعنيين.
ومع مرور الوقت أصبحت تتضح أكثر فأكثر، وللغرابة حتى بالنسبة للحركة الشعبية، حجم التحديات والصعوبات العملية التي تواجه إجراء الاستفتاء في موعده المعلن، حتى بعد التغاضي عن توفير أدنى معايير النزاهة والحرية والموثوقية، والملاحظ أن الأيام الاخيرة شهدت تصريحات متواترة من الأطراف المختلفة تؤكد ما كان معلوماً أصلاً من أن إجراء الاستفتاء في موعده أمر من المعجزات في ظل التأخير الذي لازم كل الجداول الزمنية لترتيباته بداية بتشكيل المفوضية، والجدل المتطاول حول تعيين أمينها العام الذي تولت كبره الحركة الشعبية قبل أن تتراجع عنه بعد أن تبين لها أنها إنما تفسد على نفسها باعتراضات عقيمة، فضلاً عن توفير التمويل الكافي للاستعدادات الفنية.
ولعل اللافت في هذا الخصوص جملة من المواقف بشأن الاستفتاء ومنها ما وصفته وكالات الأنباء ببروز أزمة جديدة في طريق استفتاء جنوب السودان، على خلفية إعلان النائب الأول للرئيس ورئيس حكومة الجنوب سلفا كير ميارديت عن فشل مؤسسة الرئاسة في التصديق على موازنة مفوضية استفتاء تقرير المصير، حيث وجه اتهاماً ، في مؤتمر حكام الولايات الجنوبية بجوبا، للحكومة المركزية بالتردد في تمويل نشاطات المفوضية، وقال: إن جوبا ستتدخل لسد الفجوة. مقترحاً على أهل الجنوب التخلي عن مرتب شهر لمساعدة حكومة الجنوب للوفاء بتعهدها الإسهام بمبلغ مائة مليون جنيه سوداني في تمويل ميزانية مفوضية الاستفتاء.
وللمصادفة ففي اليوم نفسه الذي أدلى فيه السيد سلفا بتصريحه، أعلن رئيس قسم الانتخابات ببعثة الأمم المتحدة دينيس كاديما عن وفاء المانحين بـ50% من تعهداتهم لدعم الاستفتاء، البالغة نحو 63 مليون دولار، مشيراً إلى صعوبات محتملة تواجه عملية الاستفتاء مثل ضعف البنيات التحتية وعدم وجود طرق معبدة في بعض المناطق، مما يمثل إحدى التحديات التي تؤثر سلبا على توزيع المواد والمعينات الفنية المستخدمة في الاستفتاء والتي حدد لها فترة 3 أسابيع كحد أقصى لإيصالها، مشيراً إلى استخدام الطائرات العمودية لصعوبة الوصول لبعض المناطق ولضيق الوقت، وعاد ليقول (نحن متفائلون بإجراء الاستفتاء في موعده نسبة لجدية والتزام طرفي اتفاقية السلام الشامل).
وأهمية تصريح المسؤول الأممي تكمن في تأكيد أن شح تمويل عملية الاستفتاء ليس قاصراً على المكون المحلي البالغ 48% من جملة موازنة المفوضية والمفترض أن يدفع من قبل الحكومة الاتحادية وحكومة الجنوب، بل أن المكون الأجنبي المفترض أن يتكفل به المانحون الدوليون والبالغ 52% من جملة موازنة المفوضية، لم يتم الوفاء إلا بنصفه حتى الآن حسب ما أكد كاديما فيما لم يتبق على موعد الاستفتاء سوى أسابيع قليلة، هذا في وقت لم تحسم فيه بعد حجم موازنة المفوضية الحقيقية، مع العلم أن مشروع الموازنة المقدم من طرفها يقدر التمويل الدولي بـ 193 مليون دولار، فيما يشير رئيس قسم الانتخابات ببعثة الأمم المتحدة إلى مبلغ 63 مليون دولار فقط.
ولكن ما الذي يعنيه ذلك؟، ببساطة يعكس هذا الجدل بشأن التمويل جانباً من الفوضى الضاربة بأطنابها في مفوضية الاستفتاء، ولئن بدا مفهوماً الحديث عن مصاعب لوجستية أشار إليها بتفصيل المسؤول الأممي، ولئن كان متوقعاً أن يشير الجنرال سلفا بأصابع الاتهام إلى شركائه في الحكومة الاتحادية بعرقلة توفير نصيبها من موازنة المفوضية لحاجة في نفس المؤتمر الوطني، إلا أنه يصعب فهم تباطوء المجتمع الدولي في الوفاء بتعهداته في تمويل عملية الاستفتاء على الرغم من إصراره على التمسك بالتاسع من يناير موعداً لإجراء الاستفتاء، صحيح أن التباطوء في الوفاء بالتعهدات لدعم عملية السلام ظل هو ديدن المانحين الدوليين منذ أوسلو الأولى، والثانية، وكذلك بعد لقاء باريس، ثم واشنطن العام الماضي، ولكن يصعب أن يستقيم تعاطي المجتمع الدولي على هذا النحو المتباطئ مع أمر لا يحتاج إلى المزيد من التعطيل.
ويبدو أن هذا الواقع شديد التعقيد ما ظل يدفع رئيس المفوضية البروفسور محمد إبراهيم خليل للتكرار تصريحاً وتلميحاً باستحالة إجراء الاستفتاء في الموعد المضروب في ظل المعطيات الراهنة، ووصل إلى حد وصف حدوث ذلك بانه أقرب للمعجزة، ولم يشارك خليل المسؤولين الدوليين بما فيهم المبعوث الأمريكي سكوت قريشن تفاؤلهم بإمكانية إجراء الاستفتاء في موعده في الوقت الذين كانوا يحتفلون فيه بتسلم المعينات الفنية للعملية، والواقع أن كواليس ما يجري في أروقة مفوضية الاستفتاء لا يقتصر فقط على مسائل التمويل والترتيبات الفنية، بل يبدو كذلك أن بيت المفوضية الداخلي في حاجة للترتيب في ضوء ما رشح من تسريبات عن وجود خلافات بين أعضائها وكذلك وسط فريق العاملين أدت إلى استقالات وعدم استقرار يسهم بدوره في خلخلة الاعتقاد بقدرة المفوضية على القيام بمسؤوليتها على الوجه المطلوب.
هذا المشهد الكئيب المحيط بظروف وملابسات عملية الاستفتاء على تقرير المصير التي تجري وسط إصرار، دولي ومحلي، على إجرائها على أية حال وبغض النظر عن عدم توفر الشروط الموضوعية التي تكسبها المصداقية والموثوقية اللازمة، يشير إلى أننا موعودون بإجراء الاستفتاء في موعده، إلا أنه بكل المقاييس لن يكون ممارسة جدية تقطع قول كل خطيب على ضوء العيوب والثقوب التي تكتنف أعمال المفوضية سواء كان ذلك من صنع يديها، أو بفعل عدم وفاء الأطراف الأخرى بالتزاماتها. وحتى لو تم تأجيله لبضعة أشهر أخرى نحو ما تدعو له بعض الأطراف فليس منتظراً أن يحدث ذلك تغييراً جذرياً في طبيعة المشهد الراهن ومعطياته، ولن يعني سوى تأجيل وصول المأزق الراهن إلى قمة تجلياته، وهو ما سيجعل الباب مشرعاً على سيناريوهات مفتوحة خاصة في حالة استمرار حالة اللا حسم للملفات العالقة في مسائل أبيي، والحدود وترتيبات ما بعد الانفصال.
ولعل السيناريو العراقي سيكون الأقرب للتكرار في السودان، مع الفارق، فالعراق الغارق حتى أذنيه في لجة التدخلات الخارجية من الأطراف الدولية والإقليمية، منذ الغزو الأمريكي الذي أطاح بنظام صدام حسين، شهد إجراء انتخابات عامة في مارس الماضي كان الغرض منها أن تفرز نظاماً سياسياً على أسس ديمقراطية يخرج البلاد من حالة الفوضى ويؤسس للاستقرار، وقد أفرزت الانتخابات نتائج غير حاسمة بين الكتل المتنافسة، ولم تفلح التحالفات القائمة أصلاً، أو محاولة تشكيل تحالفات جديدة في الخروج من المأزق الانتخابي، وكانت النتيجة استمرار الوضع المأزوم السابق للانتخابات على مدى ثمانية أشهر، ولا يزال مستمراً، مع استمرار الجدل حول أحقية من يترأس الوزارة الجديدة، وزاد الطين بلة كثافة التدخلات الخارجية، إقليمياً ودولياً، التي اسهمت في خلق المزيد من التعقيدات على وضع معقد أصلاً، والشاهد أن الحالة العراقية خلقت سابقة فريدة في الممارسة السياسية، فقد اثبتت إمكانية إدخال أية أزمة إلى ثلاجة التجميد السياسي على الرغم ما يبدو من حراك كثيف يشير إلى عكس ذلك، وهو ما يعني إبقاء الامور المختلف عليها ملتبسة إلى درجة التجميد في حين تبدو في ظاهرها في حالة غليان، أي حالة اللاحسم واللاقرار، وكل شئ يبدو متحركاً وهو ليس كذلك، في انتظار توصل الفرقاء إلى تسويات.
ومن المفترض حسب اتفاقية نيفاشا أن يكتب الاستفتاء على تقرير المصير السطر الأخير في عملية السلام، ولكن في ظل التعقيدات الراهنة فإن الوضع مرشح لإعادة إنتاج الحالة العراقية، ربما مع اختلاف في بعض التفاصيل لا أكثر، فالاستفتاء على أية حال سيتم في وقته، وربما بتأجيل لأجل محدود، ولكن مشروعيته القانونية، وقيمته السياسية، والنتائج العملية المترتبة عليه ستكون محل شكوك وجدل كبير. شأنه في ذلك شأن الانتخابات العامة التي جرت في أبريل الماضي التي أبقت على الوضع الراهن.
وهي في الحقيقة شأن الممارسة السياسية في السودان على مر العقود الماضية، وكما لاحظ الباحث المختص في الشؤون السودانية أليكس دي وال ان كل اللحظات المفتاحية في التريخ القومي السوداني كلها أمور ملتبسة، والأهم من ذلك إن أي ترتيب سياسي في السودان يظل هو ترتيب وموقف مؤقت بما في ذلك اتفاقية السلام الشامل التي كان ينظر إليها على أنها تمثل شيئاً مختلفاً في سيرة السياسة السودانية، وأن ترتيباتها ستكون نهائية، ولكن واقع الحال ينسجم مع الثقافة السياسية السودانية العريقة في استنادها على المقايضة، وإعادة التفاوض حتى حول المتفق عليه، وينسجم أيضاً مع ثقافة التأجيل على إجراءات أي اتفاق نهائي قد يقود إلى صراع لا يمكن إبطال مفعوله.
ووفقاً لهذه النظرية فسيقوم الاستفتاء ولكنه لن يفضي بالضرورة إلى نتيجة حاسمة، ولكن سيفتح باب التفاوض مجدداً على مساومات جديدة ومقايضات جديدة حول الأمور التي لم يتم التوصل إلى اتفاق بشأنها وهي أمور بالغة الحساسية، ولكنها قد تفضي إلى تجديد الصراع المسلح وإلى عودة حرب لا يرغب فيها أي من الأطراف المحلية أو الدولية. ولا أحد منها مستعد للإكتواء بنيرانها وتحمل تبعاتها.
على أية حال مهما يكن من أمر فإنه يجب الأخذ في الاعتبار الطبيعة الديناميكية للتفاعل بين الشمال والجنوب، وتفاعل المصالح الدولية والإقليمية المتقاطعة في السودان مما قد يقود إلى سيناريو بديل خارج التوقعات الرائجة في الوقت الراهن، وكما يقول إيدي توماس الخبير في الشؤون السودانية فإن كل شيء محتمل في السودان وأن أكثر شيء محتمل الحدوث هو الشيء غير المتوقع.
فالحركة الشعبية الطرف الأكثر حرصاً على إجراء الاستفتاء في موعده قد لا تكون بالضرورة هي المستفيد الأكبر إذا جرى في أجواء ملتبسة، كما أن المؤتمر الوطني الذي يبدو الأكثر انزعاجاً من موعد الاستفتاء قد أزف على حين غرة ودون أن يكون مستعداً لاستحقاقاته كما يجب، قد لا يكون متضرراً بالضرورة، بل قد يكون إجراء الاستفتاء بترتيبات غير كافية ومتعجلة سبباً في توفير مبررات للمساومة حول الاعتراف به وهي أهم ورقة لا تزال في يد الخرطوم لتمرير الاعتراف الدولي بإنشاء دولة جديدة في الجنوب.
وهو ما قد يخلق وضعاً ربما يقود إلى استلاف السيناريو العراقي، أي حالة التجميد السياسي للأوضاع إلى حين، أو قد يفتح الطريق إلى سيناريو لخلق ارتباط من نوع جديد بين الشمال والجنوب يتجاوز ثنائية الوحدة والانفصال، وهنا يجدر التذكير باستراتيجية أوباما التي تدعو لفترة انتقال مطولة ما بعد 2011، أي إن قرر الاستفتاء الانفصال فلن يتم إنشاء دولة مستقلة مكتملة الأركان في اليوم التالي. وهو ما يعطي مساحة لإعادة التفاوض حول شكل جديد للارتباط بين الطرفين.
ولا يجب أن ننسى أن صيغة نظامين في دولة واحدة الذي شكل محور تسوية نيفاشا الأساسي كانت اختراعاً أمريكياً بإمتياز، ويبدو أن السودان سيظل مسرحاً لاختراعات دولية لمخاطبة وضعه المعقد، فاللورد كرومر كان هو صاحب اختراع الحكم الثنائي غير المسبوق الذي صنع الشراكة الاستعمارية بين مصر وبريطانيا قبل أكثر من قرن.

الصحافة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..