أيام في السودان: (2-2) عطر من ذاكرة المكان

سعدية مفرح
صباحات ملتقى النيلين كنا نقضيها في حضور الندوات النقدية والفكرية المقامة على هامش المهرجان، أما المساءات المنتعشة برائحة النيل فكانت مخصصة للأمسيات الشعرية التي كان تقام يوميا بطريقة التناوب بين الشعراء العرب والسودانيين، فكان يفتتح الأمسية شاعر عربي يتلوه شاعر سوداني ثم عربي فسوداني، وهكذا تمضي ليالي الخرطوم صادحة بالشعر والأغنيات في إطار ذكرى ذلك الشاعر السوداني المهيب التجاني يوسف بشير، الشاب الذي فقده ديوان الشعر العربي وهو في الخامسة والعشرين من عمره، لكنه ترك وراءه إرثا شعريا فذا خلده بين الشعراء العرب، وجعل منه إيقونة سودانية ساحرة.
كان شطر البيت الذي اتخذه المهرجان شعارا لتلك الدورة يستدرجنا للمزيد من أشعار ذلك الشاعر الصوفي، الحاضر أبدا في كل القصيد السوداني المعاصر، والسابح في عظمة النيل وجلال انسيابه الحنون:
أنت يا نيل يا سليل الفراديــس
نبيل موفق في انسيابك
ملءُ أوفاضك الجلال فمرحى
بالجلال المفيض من أنسابك
حضنتك الأملاك في جنة الخلد
ورّفت على وضيء سحابك
السر الإلهي
رغم كثرة الأمسيات واللقاءات الأخرى فإن المسؤولين السودانيين كانوا دائما حاضرين بكل تواضع، فلا نفرق بينهم وبين الجمهور العادي، اما الاهتمام كله فقد انصب علينا نحن الضيوف.
ولا أظن أننا كشعراء سنلقى من الاهتمام الرسمي والشعبي في أي عاصمة أخرى ما لقيناه من الخرطوم. فقد خصصت رئاسة الجمهورية، في عز انشغالها بأزمة مدينة هجليج، والحرب الدائرة في محيطها هناك، مواكب رئاسية فخمة يتنقل فيها الشعراء العرب من وإلى أمكنة الأمسيات التي توزعت على مسارح وقاعات الخرطوم بمدنها الثلاث.
لكن المواكب الرئاسية لم تكن هي مظهر الضيافة المميزة الوحيد، فقد كان كل شيء في الضيافة مميزا، ابتداء من اختيار الفندق الراقي القريب من المطار والمتوسط لحدائق غناء تبهج النفس، وتجعل من كل صورة فوتوغرافية ملتقطة في محيطة لوحة مدهشة لجمال الطبيعة، وانتهاء بالتكريم النبيل الذي حظي به الشعراء، بل ومرافقيهم أحيانا، مرورا بتلك الحفاوة التي تجلت في أشكال وألوان مختلفة من الجولات والرحلات الداخلية.. لعل أجملها الرحلة النيلية على متن يخت طوف بنا أرجاء النيل، وجعلنا نشهد ذلك السر الإلهي الذي تفرد به ملتقي النيلين الأزرق والأبيض من دون أن يختلطا. سحر فطري رافقنا طوال رحلة الماء في الماء من خلال القصائد التي توزعها الشعراء كتابة وإلقاء وتصويرا أيضا.
كالتماعات الشعر!
كان اليخت يمضي بنا على مدى النيل الطويل، وكانت المشاهد تتلاحق، والابتسامات المضيئة من البعيد، تلاحقنا ايضا من على الضفتين.
مررنا بمركب صغير يحتفل من فيها بعرس غير تقليدي كما يبدو، وكانت شمس الأصيل قد ذهبت خوص النخيل على جانبي النيل فعلا، فتماوجت ألوان الثوب السوداني التقليدي الذي ترتديه نساء الحفلة على ذلك المركب بالتماعات تشبه التماعات الشعر، وتناهت الى أسماعنا الموسيقى السودانية الطالعة من قلب النيل.
سحرتني تلك الموسيقى وبحثت عنها في وقفات سودانية أخرى.. تماما كما سحرني العطر السوداني في أسواق أم درمان القديمة.
أم درمان ذهول آخر في ذاكرة المكان.. دخلتها من خلال سوقها الضيق، الذي تصطف المحلات على جانبيه وتتعرج يمنة ويسرة. تنحني ثم تستقيم. والعطر السوداني المميز خليط من رائحة البخور التقليدي الممزوج بعطور زيتية نفاذة تضاهي في حدتها ذلك العطر المسمى بـ«الخمرة»، والذي يبدو انه خاص بالنساء المتزوجات كما أفهمتني صديقتي الراسخة في علوم نساء السودان وأسرارهن الجمالية. كنت سأضع نقطة منها لتجريبه على مرفقي، وأنا اقف أمام البائع عندما خطفت القارورة من يدي محذرة إياي بابتسامة ذكية وحادة.. كالعطر تماما. فهمت إشارتها واستجبت لتحذيرها.
نزق الشعراء
صديقتي هي الشاعرة السودانية الشابة منى حسن، دينامو المهرجان كله، التي تحملت من نزق الشعراء ما تحملت، وخاصة نزقي أنا بالذات، لكنها كانت تحتوي الجميع، أدبها الجم وابتسامتها الرائقة والقصيد الذي تحفظه لكل الشعراء العرب. هكذا اقتنعت وأنا اسمعها تلقي أبياتا لشاعر مختلف في كل مرة.
وفي كل مكان، حتى في جلسة التبلدي، تلك الثمرة ذات المذاق الغريب واللذيذ، والجبنة.. أو القهوة السودانية ذات المزاج الزنجبيلي اللاذع. منى لم تكن تمل أبدا من إلقاء الشعر اتكاء على ذاكرتها الخضراء فكانت محفوظاتها مما يخفف عنا كل ما يمكن أن نتضايق منه.
وليس في الخرطوم ما يمكن أن يتضايق منه المرء بالنسبة لي سوى تعاملهم مع الزمن. عندما كان يفيض بي كيل الغضب من ذلك التهاون الشديد الذي يتعامل به السودانيون مع الوقت، كانت تبريرات منى حاضرة دائما.
لا شيء يستحق الغضب أو «التعصيب» لدى السوداني. فكل الأمور ميسرة وسهلة، وكل موعد سيتحقق في موعده أو بعد موعده بساعتين، ثلاث، أربع ساعات.. لمَ الغضب؟ حتى لو كان موعدا للظهور على الهواء مباشرة في برنامج تلفزيوني، كما حدث معي.. تأخروا فتأخرت كالعادة.. لكن لم يغضب أحد لا المخرج ولا المذيعة ولا المصورون. وبالتأكيد لم يغضب المشاهدون كما يبدو.. أنا فقط غضبت.
أنفة نادرة
كان هذا قبل أن أتطبع، مؤقتا بالطبع السوداني فيما يخص الوقت، أما بعد ذلك فأصبحت الأمور بالنسبة لي عادية جدا، حتى كدت أن أتأخر عن موعد اقلاع الطائرة.. قلت لمن يذكرني بالموعد وأنا أبتسم على الطريقة السودانية: عادي.. أكيد سأصل الكويت في وقت ما.. يوما ما.
ولعل ذلك التعامل السوداني الخاص مع الزمن والمواعيد هو ما جعل البعض يروج عنهم فكرة الكسل. ما لاحظته أنهم شعب عامل ونشيط على عكس الإشاعات التي ساعدت على انتشارها النكت اللاذعة. لكنهم فقط لا يؤمنون بفكرة الساعة.
هل هو طبع موروث؟ لا أدري. لكن زيارتنا لمتاحف الخرطوم الثلاثة واطلاعنا على جوانب مهمة من تاريخ الإنسان السوداني تنفي أن يكون ذلك صحيحا.
فتاريخهم حافل بالاحداث التي لا يمكن أبدا وصفها بالهادئة أو المتمهلة. وملاحظاتي على ذلك التاريخ، والتي استخلصتها من زياراتي للمتاحف، تستحق مقالة مستقلة أخرى، ولا يمكن أدراجها في سياق مقالة استطلاعية كهذه، ولعل الأيام السودانية كلها تستحق مني أكثر من هذه المقالة التي وأن طالت تبقى موجزة في وصف بلاد مدهشة غارقة في تفاصيل الإبداع والتنوع والعبق التاريخي النبيل. بلاد لم أصادف فيها من يمد يده بالسؤال في كل الأماكن التي زرتها على بساطة بعضها ورقة أحوال أهلها.. بلاد جميلة وأنيقة وكريمة.. لكن ما لفت انتباهي جدا أولا أنها بلاد ذات أنفة نادرة.. وهذه ميزة مما لا يمكن لبلاد الا أن تفخر بها بشكل مضاعف.
القبس
لك منا كل الاحترام الشاعره سعديه
كلام جميل رغم الحالة العلينا دي
لقيتي تماسيح وفيلة وله لسه عشان تشيليها هدية لإبناء أخيك؟؟؟
ليس غريبا على السودان والسودانيين هذا كله فانه من طبيعه الانسان السودانى البسيط. ان يكون به كل مايوصفه المقال وكذلك السودان العزيز. وطنى ووطن اجداى واولادى واحفادى حفظه الله من كل الشرور ودام عزه,
نصفتينا الله يديك العافيه
لك التحية أيتها الفاضلة ولا يعرف الفضل إلا أهله
بس حكاية عدم تعاملنا مع الزمن بطريقة لائقة على ما اعتقد كان هذا فى الماضى ولكن معظم السودانيين وخاصة من عمل خارج السودان فان الزمن لديهم كالسيف ان لم تقطعه قطعك . اناس سودانيون كثر اعرفهم يحترمون الزمن لدرجة مبالغ فيها ولكن اختى لا تعممى .
اختنا الغاليه جزاك الله الف خير وماقصرتي تب
وخاصه زرتينا في وقت جدا صعب الناس طفرانه وزهجانه
والسخانه تلحم والجيوب فااااااضيه والمواصلات رااااقده
والدولار نااااازل واللحم رخيص والفوااااكه رااااقده والخضااار
كثييييير الباقي تمو ياحلوين دخل علينا المدير والا القائمه كانت تطول
ليت زيارتك هذه كانت قبل مجئ التتار والعصبة الحاكمة ،، أجزم بأنك كنت ستكتبين كتباً ودواويناً حتى تاريخ اليوم ،،، للاسف أتيتي في الزمن الخطأ رغم ما تبدين من إعجاب وإندهاش بما شاهدتيه .
على كل نشكرك كثيراً على هذا الإطراء الزائد وأعلمي أننا أفضل مما شاهدتي بكثير ..!!
…لكن ما لفت انتباهي جدا أولا أنها بلاد ذات أنفة نادرة.. وهذه ميزة مما لا يمكن لبلاد الا أن تفخر بها بشكل مضاعف.
ياسلام ولو زرتي بورسودان القضارف و كسلا كان قلتي شنو _ أكيد كان ركلستي عديل كدا ( من طيبة وأنفة) وووو ويؤثرون علي أنفسهم ولو بهم…
اقتباس – لكن ما لفت انتباهي جدا أولا أنها بلاد ذات أنفة نادرة (1)
اقتباس – وليس في الخرطوم ما يمكن أن يتضايق منه المرء بالنسبة لي سوى تعاملهم مع الزمن (2)
معظم السودانيين لديهم خلط بين النقطتين أعلاه ويعتبرون بأن التأخر في المواعيد نوعا من الأنفة (التقلة) والزول التقيل هو الزول المهم بالنسبة للفهم هنا ، فدائما ما نخلط بين مفهومي (الأنضباط والعجلة) وربما يرجع ذلك يا أخت/ سعدية- لحرارة الطقس لدينا بالسودان وما يسببه ذلك من فقدان السوائل والأملاح (الملاح) وبالتالي هبوط في الدورية الدموية، تجعل مننا نقوم بأقل الحراكات الممكنة لإنجاز المهمةفنبدو كسالا ، فالشخص الذي يأتي في المواعد المحددة يتعبر متعجلا وهو صاحب المصلحةالأولى …
ونشكرك عموما على زيارتناوعكس صورة جيدة عما تبقى من سوداننا.
لك التحية سعدية مفرح قامة بقامة وطن
من احسن ماقراته من الكتاب العرب عن السودان والسودانيين صدق وامانة وبدون مبالغة حتى فى النتقد لم تتجنى علينا كثيرا! نقطة تحسب لاتحاد الشعراء والقائمين على المهرجان وهو دعوتهم لزيارة متاحفنا ليرى هولاء ان السودان يرتكز على ارث حضارى ومعرفى وتراكم تاريخى!
(مخصصة للأمسيات الشعرية التي كان تقام يوميا بطريقة التناوب بين الشعراء العرب والسودانيين، فكان يفتتح الأمسية شاعر عربي يتلوه شاعر سوداني ثم عربي فسوداني)
بالتناوب بين شاعر عربي ويتلوه شاعر سوداني!!!!! يعني كان تقولي افريقي كان احسن وتكون قدر مقاسنا..
في الزمن الماضي كان السوداني كالساعة او ادق من الساعة في المواعيد وقمة في الانضباط ولكن تغيرت الاحوال والهموم والمصائب التي لا تحصي ففقد الانسان السوداني كل احاسيسه وفقد الكنترول على كل شيء فاصبح لا يهتم بالزمن ولا يتذوق حتى الملح او الشطة ولا يشم حتى رائحة الخمرة التي تحدثتي عنها.. فالهموم اكبر من ان يتذكر الواحد المواعيد.. فصار خلف الموعد من اكبر مسئول الى اقل شخص.. وبرضو عادي (بالزبادي كمان)- حتى في الخليج يا استاذة نادراً ما يأتي الخليجي او العربي في مواعيده ودائماً يتأخرون فاذا كنا نحن مهمومون بقضايا لا يشعر بها اي منكم فكيف لنا ان نلتزم بمواعيد لا تودي ولا تجيب… وانتم ليس لكم هموم مثلنا على الاقل ولا توفون بالمواعيد ..
نشكر لك انك نقلتي صورة حلوة كما فهمنا عن السودان وصححتي المعلومات المغلوطة المستقاة من الاعلام السالب ..
رغم ماحكيته عن السودان فقد كان اجمل من هذا الذي شاهدتيه لكن جار به الزمان وبعض بنيه
والله يا سعدية اديتينى احساس انو نحن شعب بتكشم شغلة بلا شغلة …. كل ما تمشى ليك خطوتين تقولى ابتسامتهم ابتسامتهم ،،، غايتو للضمان كده كتر خيرك … لكن شوفى لينا طريقة فيزا فى الكويت ان شاءالله بسمنجى خلينا نملا ليكم الصحراء ابتساماً ووعداً وتمنى ..
كنت أعمل في دولة عربية ونقيم في سكن جماعي للشركة وذات مرة كان الطباخ السوداني يجلس في صالة بها تلفزيون ويتفرج على قناة السودان, كنا هو وأنا ثم جاء مصري وجلس معنا وفجأة وجدنا المصري يضحك ضحكاً هستيريا ويردد: كسلا … كسلا التفتنا اليه مستغربين فوجدناه يشير للتلفزيون الذي كان ينقل خبراً عن كسلا ولما لم نفهم قال: كنت أظنها نكتة ان عندكم مدينة اسمها كسلا! ثم شاءت الأقدار أن يذهب هذا المصري الى سوق به عدد كبير من السودانيين ممن يتاجرون في الموبايلات وملحقاتها ويحملون عليها الأغاني السودانية الهابطة والنكات السخيفة فسمع صاحبنا المصري أغنية (انتو يا ناس كسلا) فتشبث بهذا المقطع وصار يردده أمامنا دائماً وخاصة لما يتأخر سوداني عن عمله أو يطلبونه فلا يجدونه فيبادر المصري بالقول: انتو يا ناس كسلا!
مع إعتذارنا الشديد لكسلا وأهلها مما أصابها من رشاش القول من السودانيين وغيرهم.
يا إخوانا حكاية عرب وافارقة دي عاملة هاجس لي بعض الناس، و سعدية لم تقصد ما عنيتم .. فكيف كان لها ان تعبر؟ هل تقول شاعر عربي وبعده شاعر عربي محلي؟!
نحن سودانيون أفارقة وعرب وكلو ووين المشكلة؟ بعدين هم وين العرب الانقيا pure, بالله دلونا عليهم لو في في شمال افريقيا كلها و حتي اسيا.
الرحالة العرب يبداون اكتشاف السودان في القرن الحادي والعشرين ليكتبوا عنه
بعد ما اكتشفه الاوروبيين في القرن السابع عشر
وبرضوا تقولوا نحن كسلانين يا عرب ؟
نحن سودانيين ونحن افارقة ولا يشرفنا كثيرا ان نكون عرباً وقالها الانجليز من قبل ان السودانيين ليسوا بافارقة وليسوا بعرب لاننا نتميز عن الاثنين معاً