“دونت ستوب بليفنق” أو “رجلُ الظلّ”

مهدي يوسف إبراهيم
دلفَ إلى خشبةِ المسرح المهيبِ بخطواتٍ متقاربةٍ وجسدٍ ممتلئ. كان يرتدي ملابسَ لا تلفتُ الانتباهَ ونظارةً متواضعةً تخفي وراءها عينين صغيرتين وكان يعتمرُ قبعةً صغيرةً. تأمّلَ الجمهورَ العريض بقلبٍ واجف وذاكرةٍ أوشك الكلامُ أن يتبخّرَ منها. ثمّ دار بينه وبين “سايمون كويل” – أحد أكثر أفراد لجنة التحكيم شراسةً – هذا الحوارُ:
– أهلا بك. سعداءُ بلقائك. ما اسمُك؟
– اسمي “ريتشارد قودال” وأنا من “انديانا”.
– وكم عمرُك؟
– 55 عاماً
– وما وظيفتُك؟
– أنا عاملُ نظافة في مدرسة متوسطة منذُ 23 عاماً، والطلّاب هناك ينادونني ” السيّد ريتشارد”…
– حسناً .. وما هو حُلمُك الكبير؟
– أنا أحبُّ الغناء، أعشقُه في الحقيقة … لذا ..
– حسناً … هل يعرفُ أحدٌ أنك هنا اليوم؟
– شبكةُ أصدقائي المقربين وخطيبتي “إنجي”…
– أهااا …هل هي معك هنا الآن؟
– للأسف لا !!
– إذن هي الشخصُ الذي ستتصلُ به بعد تجربة الأداء هذه!!
– بالطبع .. سأهاتفُها مباشرةً …
– قل لي … لم اخترتَ الأغنيةَ التي ستغنيها لنا الآن تحديداً؟
– أفضّلُ أن تتحدثَ الأغنيةُ عن نفسِها ..
– حسناً … لا مزيدَ من الأسئلة .. أعدُك بذلك .. تفضّل
بصعوبةٍ وعصبيةٍ نفث “ريتشارد” الهواءَ من رئتيه فمازحه “سايمون” قائلاً “تبدو متوتراً يا رجل”
– نعم … في الحقيقة لم أغنّي أمام جمعٍ غفيرٍ كهذا من قبل.
صفقَ الحضورُ تعاطفاً وتعالت ومن هنا وهناك بعضُ الأصوات مردّدةً “هيّا يا ريتشارد .. تشجّع يا رجل” ….
عمّ الصمتُ المكانَ لرُبع دقيقةٍ ربّما، اشتعلت العيونُ ترقباً وتساؤلاً، انسابت كأمواه النهر موسيقى أغنية “لا تكفّ عن الإيمان بقدراتك” … وسرعان ما خرجَ صوتُ “ريتشارد” ساطعاً كما الشموس:
هي مجرّدُ فتاةٍ من بلدةٍ صغيرة
تعيشُ في عالمٍ منعزل
كانت تستقلُ قطارَ منتصف الليل
متجهةً إلى حيث يقودها القطار
وهو مجرّدُ فتىً من المدينة
وُلد ونشأ في جنوب ديترويت
وكان يستقل قطار منتصف الليل أيضاً
دون أن يهتمّ بوجهته …
وُلد “ريتشارد قودال” في إحدى مدن ولاية “أوهايو”. ونشأ طفلاً منعزلاً عزاؤه في الوجودِ أغنياتُ فرقته المفضلة “جيرني”. لم يكمل “ريتشارد ” تعليمَه بسبب ظروفِ أسرته المالية فاحترفَ النظافةَ في مدرسةٍ متوسطة، وعاشَ في الظلّ في مدينته لكن صوتَه العذوب كان يصهلُ نديّاً بين قاعاتِ وردهاتِ ودوراتِ مياه المدرسة. لم تقلل وظيفتُه المتواضعة من احترامه لنفسه، إذ كان يؤمنُ أن الإنسانَ الحقيقيّ هو الذي يسعدُ الآخرين. ولم تمنعُه أدواتُ النظافة والزي المتواضع من التأثير في الطلاب فكان يحرصُ أن يغرسَ في نفوسهم معاني عباراتٍ مثل “لو سمحت” و “شكراً جزيلاً” و”وكيف أستطيعُ أن أساعدك؟”. والحقّ أن عشق الغناء ساعدَ الرجلَ على التعاطي بمحبةٍ هائلةٍ معِ تجربة العيش في عالمٍ صارَ مُفرطاً في التغوّل على البسطاء. كما أن الغناء ساعده على تجاوز الكثير من محن عمره مثل فقدانه لزوجته الشابة بسبب السرطان.
تعوّد الطلاب على سماع صوت “ريتشارد” أثناء ساعات الدراسة وفي مناسبات المدرسة الرسمية ولذا أطلقوا عليه لقب “عامل النظافة المغنّي”.. وذات مرة كان يتغنّى برائعة “لا تكفّ عن الايمان بقدراتك” فقامت معلمةٌ بتصويره بكاميرا فيديو ونشرتها في حسابها في “تيك توك”.. شاهد الفنّان الكبير “ستيف بيري” – صاحبُ الأغنية الأصلي وعضو فرقة “جيرني” الشهيرة – المقطع فعلّق بكلمتين “أداءٌ مذهل” ، ثم أعقبه “هاول مانديل” – عضوُ لجنة تحكيم برنامج “أميركاز قوت تالانت” – بتعليقٍ آخر قال فيه “أحببتُ هذا الأداء للغاية”.. وإثر هذين التعليقين انطلق الفيديو كما النار في الهشيم في كل أصقاع أمريكا .. وبعد أيام وصلت “ريتشارد” دعوةٌ رسمية للمشاركة في فعاليات البرنامج مع تذكرةٍ طائرة استقلها للمرة الأولى في حياته (لم تصحبه خطيبتُه معه بسبب ضيق ذات اليد) ..
لم يكن التغنّي لعبقري مثل “استيف بيري” أمراً سهلاً، لكن “ريتشارد” استدعى عشقه للحن الأغنية ولكلماتها التي تحثُّ على الاستمساك بالأحلام مهما ازدادت ضراوة الواقع … ضجّ المكانُ بالتصفيق حين أنهى “ريتشاد” أغنيته .. ووقف له الجميع محبةّ بما فيهم لجنة التحكيم … وحين بلغ نهائيات المسابقة كان قد خرجَ تماماً من الظلّ الذي أنفق فيه نصف قرن ، ليقف مفرود الصوت تحت الشموس الدافئة .
في ذاك العام – 2024م – فاز عامل النظافة المغنّي بجائرة البرنامج الكبرى وتبلغُ مليون دولار بالتمام والكمال ….. وتزوّج من حبيبته انجي …
وأغلب الظن أنه اعتزل وظيفته المتواضعة تلك!!
ومن المؤكد أن لفيفاً من الشعراء والموسيقيين سيمدون له يد العون … حينها سيكونُ العالم على موعدٍ مع صوتٍ يذكرنُا أن الحُلم لا يموت إن كان وراءه مٌطَالب!
مقال جميل …صحيح عن الفنون لكن يمكن اسقاطه على كل حلم
منتهى الروعة
هذا مانحتاج اليه
ان نبث الامل فى الناس ان غدا اجمل مهما كانت قسوة اليوم
شكرا لك على هذا الجمال
تسلم أخوي ….