
شعراء كنت قريبا منهم
(١) ابوذكري والرحيل الفاجع
– عبدالرحيم ابو ذكري شاعر عبقري لم ينل حظا وأفرا من الذيوع والانتشار رغم سلاسة لغته الشعريه وعميق معانيه واخيلته وصوره.ويتسم شعره بالتغني الحميم بالاعالي والفضا ء والمجرات والبحار والعواصف الهادره والسماوات البعيده و لا تكاد قصيدة تخلو من هذه الاعالي.
قرأت طرفا من شعر ابو ذكري وانا طالب ثانوي بحنتوب التي حببنا فيها الشعر استاذنا الراحل الهادي ادم…وايقنت منذ ذلك الزمان انني اقرا لشاعر عبقري فذ يقف في صف واحد مع مشاهير شعراء التفعيله في ذاك الزمان امثال الفيتوري والسياب والبياتي وصلاح احمد ابراهيم ومكي ابراهيم وعبدالحي.
دخلت جامعة الخرطوم وبي شوق غامر للتعرف بعبدالرحيم ابو ذكري الذي سبقني لها بعامين..عبدالحي وعمر عبدالماجد قد كانا معي في حنتوب ومحمد المكي والنور ابكر كانا قد غادرا لالمانيا.
قابلت ابوذكري غير انه استقبلني باقتضاب شديد وربما اسعفتني قراءتي له لبعض أشعاره التي احفظها. وقرأت له احدي قصائدي باللغه العاميه فاطرق لهنيهه ثم سألني.. وهذا من نظمك.. قلت نعم..قال..دا جميل. وتوثقت صلتي به وصار يزيد في حديثه معي واحيانا يقول لي اشياء عسيرة الفهم..وكنت احيانا احس انه يرنو لافق بعيد.. بعيد.
ولد ابو ذكري عام ١٩٤٣ ونشأ ودرس المراحل الاولي بكوستي ثم التحق بمدرسة خورطقت الثانويه التي الف لها نشيدها الرسمي الذي تناقلته الاجيال حتي قفل المدرسه في حقبة التسعينات. عمل ابو ذكري محررا لمجلة الثقافه السودانيه ثم حصل علي بعثه لموسكو لنيل الماجستير والدكتوراة في الأدب الروسي والترجمه وقد برع في الترجمه وبلغ فيها شاوا بعيدا حتي أوكلت له دار التقدم السوفيتيه ترجمة المصطلحات الادبيه الي العربيه.
في صباح يوم ١٦ من شهر أكتوبر عام ١٩٨٩ وكان شديد البروده سقط ابو ذكري من نافذة غرفته في الطابق الثالث عشر من مبني أكاديمية العلوم الثقافيه بموسكو
وارتطم جسده النحيل برصيف شارع اوسترافا
وفقد الحياة.
(مثل الخرافات القديمه
رحنا نسير مبعدين
نتتبع الخالي من الطرقات
والظل المعار
وهنا نموت علي الرصيف
بلا صديق
من غير دار من غير نار
غير المساء والبرد والعطش الغزير غير الحصار)
كان ابو ذكري قبل سقوطه قد حرق الكثير من كتاباته واشعاره
اختلف مجايلو وزملاء وأصدقاء ابو ذكري في واقعة سقوطه..هل انتحر ام دفعه احد.؟.الذين يقولون انه انتحر يبررون ذلك بتردد عبدالرحيم قبل وفاته علي طبيب نفساني لعلاجه من حالة اكتئاب لازمته جعلته يكثر من العزله والانطواء وعدم الاعتناء بمظهره وهندامه..والذين يرجحون ان شخصا دفعه او سقط دون إرادته يقولون ان حوادث دفع الطلاب الافارقه تعددت او ان درابزين البلكونات في ذاك المبني قصيره جدا ربما وقع دون ارادته .
وقد قرأت لاحد أصدقائه قوله ان ابو ذكري كان معجبا بالشاعر الروسي مايكوفسكي الذي انتحر وأنه عاب في احدي قصائده علي السياب الموت علي السرير…..
كما ذكر أحد مناصرو سقوط عبدالرحيم بفعل فاعل سقوطه بفردة حزاء واحده وانه قابله قبل يوم من رحيله وقال له انه في طريقه لطبيب العيون فالذي ينوي الانتحار في اليوم الثاني لا يهتم بسلامة نظره.
عموما رحل ابو ذكري وسر سقوطه رحل معه.
كنت اشبه عبدالرحيم ونحن في الجامعه بعصفور اضاع سربه …كان نحيلا كثيف شعر الرأس لا يهتم كثيرا بهندامه يمشي منفردا قليل الحديث قليل الحبور….
لم تدم عضوية ابو ذكري في الحزب الشيوعي كثيرا فقد استقال بعد اشهر قليله..وكان الاتجاه الإسلامي في ذاك الزمان قد اتهمه بالالحاد واستباح دمه لنشره قصيده اسماها امير المؤمنين يهاجمهم فيها/
الوزراء فوق رأسهم ذبيبة الصلاة
يحاربون كل معتد اثيم
بالدقون..
من زملائه في روسيا الدكتور عبدالقادر الرفاعي والأستاذ وجدي كامل والدكتور مبارك بشير اما صديقه المقرب اليه فالاستاذ كمال الجزولي الذي كتب عنه كتيبا مدهشا اسماه..نهاية العالم خلف النافذه.
ثلاثون عاما انقضت علي الرحيل الفاجع للصديق ابوذكري ومازال عارفوه ياسون ويحزنون علي فقده…
قرأت شعر ابوذكري بامتاع ودهش وهو عندي من أميز شعراء التفعيله..واذكر للتاريخ ان الشاعر الكبير الفيتوري وكنت قد سالته في مناسبة حفل غداء رتبه له صديقه الكابلي وكنت من المدعوين ان كل قد قرا لشباب الشعراء وكان ذلك في عقد السبعينيات.. فأجابني نعم قرات لعبدالحي ومحمد المكي والنور عثمان وابوذكري وابوذكري هذا يقف معنا في صف واحد…هكذا كانت اجابته
يا أيها الطير الذي كنا نشاهده يحلق في البعيد
هل تبصر الايراق والاشراق والافق المديد
جارين كنا ذات يوم وافترقنا
نبعين كنا في الفيافي وانحسرنا
الحال لايخفي عليك
حالي انا حال الطريد حال القعيد
حال المكبل بالقيود
تنمو الصحاري اينما يمشي وتنطبق القيود
الان ها انذا احاول ان اطير
وانت لي زقزقة وشقشقة وتشجيعا ولمسا بالجناح
والضعف في الريش الصغير
والروح جسر في العبير
ادفع بساقي خطوتين
حرك جناحي كرتين
هب لي قواك لليلة او ليلتين
لاحسني تحت السماء غمامة
واحسني بين النجوم كأنني القمر المنير
الافق حولي مستدير
اليوم ينقطع الزمان سحقا لايام الطفوله والكهوله
الأمس وهم والذي يأتي ضباب في ضباب
افرد جناحي للرحيل حتي الوصول او الممات او النعيم او الجحيم
ترك ابو ذكري من خلفه ديوان شعر واحد هو .(.الرحيل في الليل..)
غير انه..
رحل في الصباح رحيله الداوي المفجع نسال الله ان يرحمه ويغفر له.
كامل عبدالماجد
[email protected]
شكراً على المقال البديع يا أيها الشاعر الجميل كامل عبد الماجد .
متّعك المولى الكريم بالصحة والعمر المبارك ونسأل الله الكريم الرحمة والغفران للراحل المقيم ، الشاعر عبد الرحيم أبو ذكرى ، عَطَّرالله مرقده الطاهر .