أوراقٌ من بلادٍ تحلّق فوق تضاريس السِحر (2)

مهدي يوسف إبراهيم
….
الحكاية الثانية
حين تحتكرُ الهندُ الشجر !!
…………….
أخبرنا ” محمد عاطف ” عن صعوبةِ العثور على سكنٍ في ذلك اليوم، وعليه فلا مندوحةَ من قضائه في فندقٍ ما …. و بالفعل قادنا إلى واحدٍ حديثِ البناء تخاصرُه إشارةُ مرور صغيرة وشارعٌ أكثرُ ضيقاً من صدرِ السفيه …. رحبت بنا موظفةُ الاستقبال بصوتٍ لا أعلمُ لمَ ذكرني بالمطر.. و سجّلت أسماءنا ببطء ثم أعادت لنا جوازات سفرنا … كانت الغرفةُ صغيرةً لكنها مرتبة (استغلالُ الهنود للمساحات الضيقة أمرُ يعجزُ خيالَ قوانين الهندسة المعمارية) …و كان الإرهاقُ قد توغّل في أجسادنا بوحشيةٍ فسقطنا في قاع سباتٍ عميق …بعد ساعاتٍ أيقظني الجوعُ ….فخرجتُ متسللاً حتى لا أيقظ زوجتي و ابنتي …سألتُ الموظفة الماطرة الصوت عن مطعمٍ قريبٍ فأخبرتني أن “محمد ” أحضر لنا غداءً و انصرف .. لفت انتباهي تمثالٌ صغيرٌ يقفُ عن يسارها و يتدفقُ الماءُ من نافورةٍ صغيرةٍ أعلى رأسه ..تمثالٌ تمتزجُ فيه علاماتُ الذكورة – ملامحُ وجهٍ صارمة و شاربٌ خفيف – و علاماتُ الأنوثة – نهدان بارزان – و عند قدميه تشمخرُّ مِبخَرة ينبعثُ منها دخانٌ ذو عبقٍ كذاك الذي ينبعثُ من غرف عِرْسانُ بلادي في لياليهم الأولى …سألتُها في أدب و حذرٍ عن التمثال فقالت لي ” هو معبودي ” ….أردفتُ بسؤالٍ آخر عن الماء و البخور فقالت ” هما تكريمٌ له ” ….
عند الساعة الواحدة والنصف ظهراً غادرنا الفندق برفقة ” محمد ” وذهبنا إلى “حي كاستوربا” …. وجدنا شقةً بعد ساعتين تقريباً …قرّرت زوجتي و ابنتي أن تستأنفا نومهما بينما خرجتُ مستسلماً لحمّى فضولي السرمدي …رأيتُ عمارتين ترتفعان عن يميني و يساري … و أمامي مباشرة – من جهة الشرق – تمتدُ حديقةٌ مثقلةٌ بالخضرة… لفتت انتباهي فيها الوجودُ السودانيُ حتى حسبتني في أحد أحياء امدرمان العتيقة… سودانيون يرتدي بعضُهم العراريق و بعضُهم الجلابيب …يضعُ بعضُهم الطواقي على حافة رأسه و تمتدُ شفاهُ بعضِهم أمام الفم لربع مترٍ بسبب تغوّلِ السعوط ..جلستُ على مصطبةٍ حجريةٍ صغيرة …دقيقتان و جلست قربي صبيةٌ هنديةٌ جائعة النظرات (أخبرني “محمد” فيما بعد أنها بائعةُ هوى تحترفُ اصطيادَ الغرباء ) ….لم آبهُ بها كثيراً…..و اختلطتُ بالموجودين فعلمتُ أنهم جاءوا لأسبابٍ طبيةٍ مختلفة …منهم من جاء لأن زوجته لم تنجبُ …و منهم من أُصيبت ابنتُه بالسرطان …و منهم من سقط ابنُه من الطابق الثالث فتهشّم جزءٌ من عمودِه الفقري …الخ …. جاء بعضُهم من السودان وبعضُهم من دول الخليج بل جاءَ بعضُهم من أوربا.. أنفق بعضُهم عاماً كاملاً في كاستوربا بينما جاءَ بعضُهم منذ يومين …. سمعتُ شكاوى تترددُّ هناك وهناك عن وجود لصٍ أفغاني هاجمَ أكثر من سيدةٍ سودانيةٍ ليلاً (بعضُ السيدات يقطنّ في شقق لوحدهن بسبب عودة أزواجهن إلى السودانِ لأسباب العمل) …سألتُ أحدَهم عن دور السفارة فاكتفى بضحكةٍ ساخرة قبل أن يخبرني أن السفارة السودانية القديمة باعَها أربابُ المشروع الحضاري البئيس إلى الكويت واشتروا عوضاً عنها أخرى صغيرة … جاء شابٌ فارعُ الطول ، قصيرُ الشارب …قيل لي إن اسمه “عامر” …عرفتُ فيما بعد أنه يشرفُ على توفير كلَّ ما تحتاجُه ذينك النسوةُ الوحيدات من مأكلٍ و مشربٍ و أدوية…. يفعلُ ذلك بتجردٍ هائل و يساندُه في الأمر شابٌ آخر يصغرُه سناً اسمه “مهند”….و ثالث أبنوسي البشرة يدعى ” الزبير ” ….
أصيل اليوم الثاني خرجتُ من البوابة الجنوبية لكاستوربا… عبرتُ الطريق فوجدتني أمام حديقةٍ هائلة …دلفتُ إليها ففوجئتُ بخضرة المكان وبكثرة من يمارسون الرياضة …بشرٌ متباينو الأعمار و السحنات …قواعدُ من نساءٍ ما عدن يرجون نكاحاً … بناتُ لا يزلن يقفن عند العَتَبَةِ الأولى من العمر …. رجالٌ تجاوزوا الثمانين لكنهم يصرون على التشبث بالحياة …و أطفالٌ صغار يتقافزون هنا و هناك …. لفت انتباهي رجلٌ يجلسُ القرفصاء أمام شتلةٍ ضخمة وعيناه مغمضتان بينما اشتبكت يداه في خشوع هائل …سألتُ عنه شاباً قربي فقال لي إن الرجل من عبدة الشجر….
بعد أيامٍ قليلةٍ بدأتُ التجوال في شوارع نيودلهي ….هذه بلادٌ تحتكرُ الشجر في الكون ….الخضرة هنا أمرٌ مقدّس .. يولدُ الطفلُ على فطرة محبة الشجر … و مهما كان البيتُ الهندي صغيراً أو قذراً فلابد أن تزاحمَ الشتولُ و الأشجارُ ساكنيه فيه أو في محيطه القريب … و الحكومةُ تشرفُ كذلك على تشجير التراب محاربةً للتلوث الذي قد ينجمُ عن أعداد العربات و الرقشات و الدراجات البخارية الهائلة …. أخبرني “عامر” عن حديقةٍ أخرى مجاورة ….فذهبتُ إليها ….هي أشبه بغابةٍ صغيرة… الممراتُ نظيفةٌ و لامعة …لا أحدَ يطأ العشب … تتوزّعُ الخضرةُ بين أشجار ضخمة السيقان و أعشاب تلتصقُ بالأرض في تواضعٍ المتصوفة … ثمة معابدٌ داخل الحديقة لغير المسلمين …و مسجدٌ واحد ….و ثمة ألعابٌ للأطفال ….و أجهزةٌ لمن يحبون ممارسة التمارين الرياضة …. و بين الفينة و الفينة تجدُ أسرة تجلسُ مجتمعة لاستنشاق الهواء …..و عشّاق هربوا من فضول المدينة ….. شعرتُ بالحسرة على وطنٍ نهبه الأنذال …لو كانت هذه الحديقة هناك لسطا عليها لصوص المشروع الحضاري دون أن ينسوا يعلقوا على بوابتها الآيات و الأحاديث …
بعد يومين جئتُ إلى ذات الحديقة صباحاً …لفت انتباهي جمعٌ لرجال طاعنين في السر يجلسون في حلقةٍ دائرية …حسبتهم يمارسون اليوغا فجلستُ أتأملُهم في صمت …فجأة وقفوا و صاروا يقفزون في رشاقة لا تتناسبُ و أجسادُهم الهزيلة …بعد دقائق انخرطوا في نوبة ضحكٍ استمرت لدقيقتين و نصف تقريبا …ثم جلسوا ثانية …سألتُ صبيةً قربي عن بواعث ضحكهم فقالت لي إن بعض الطوائف الدينية في الهند تؤمن أن الاستبشار جزءٌ من العقيدة وأن الفرح حالةٌ شعوريةٌ يمكنُ خلقُها بالإيهام …و لذلك يبدأ أولئك الرجال يومهم بنوبةٍ ضحك طويلة ليضعوا أنفسهم في مزاج روحي منشرح منذ بدء اليوم …سألتُها عن اليوغا التي يمارسونها فقالت بابتسامة ” هذا ليست يوغا …هم يعبدون النسيم و يجلسون في صمت ليتسلل إلى دواخلهم كي تبتلَ بندى العذوبة ”
هذه بلادٌ ينغرسُ نصفُ أشجار الكوكب داخل خواصر تربتِها !!
و أنت تتجولُ في شوارع “نيودلهي” ..تجدُ نفسك محاطاً بالأشجار من كل حدبٍ و صوب …حتى أنك لتتساءل في دهشة متى و كيف تمت زراعة كل هذه الأشجار .. (رأيتُ أشجاراً صغيرةً زُرعت في الطابق الخامس في أحد فنادق المدينة )
وأنا أستقلُ القطار من “نيودلهي” إلى مدينة “اقرا” حيثُ يقبعُ “تاج محل” العظيم …. امتدت الخضرةُ عن يميني و يساري كسجادةٍ مشرورةٍ تغطي الأفق …ساعتان و نصف لم أرى خلالهما نصف مترٍ رملي و رب العرش … وقتها رحل خاطري مكفناً بالوجع إلى القحط الذي ضرب بلادي سنوات الإنقاذ …و تذكرتُ الرمال التي صارت تمتدُ عن يميني و يساري و أنا استقل البص من ” الخرطوم ” متجهاً إلى “مدني” ….فبصقتُ ثانيةً على سنوات المخلوع الرمادية!!
و لاحتفاء الهنود بتاريخهم قصة أخرى …تُروى !!
يتبع
[email protected]
……….
25/7/2023
مهدي يوسف …
انت قلم جبار ….
مؤلم ما نراه من حولنا من تقدم و استقرار …بينما بلادنا يعيث فيها الخونة