عن الفُرقة الرهيبة لشجرة الحياة. … بروين حبيب

لا أدري أين قرأت هذه العبارة العالقة برأسي: «أجمل ما في الشيخوخة أنها تنتهي بالموت» ذلك أنها عمر مرعب، كون الإنسان يفقد وظائفه الحيوية شيئا فشيئا، وإن كان البعض ينسب الخوف منها للنساء، فإن الحقيقة تقول إن الرجال يخافون منها أكثر من النساء أضعاف الأضعاف. ذلك أن شيخوخة النساء مرتبطة بالسطوح البارزة، في ما تقضم الشيخوخة عمق الرجال ببطء وتترك آثارها في الذات.
مجرّد نظرية قد لا تكون حقيقية فقد عرف التاريخ رجالا ونساء تحدوا شيخوختهم حدّ الشعور بالخلود، أمثال سلفادور دالي، الذي صعب علاجه من غروره الذاتي وقناعته بأنه كائن خالد، حتى تحقق له وهو يحلق في ملكوت الله بروحه. لعلّ العتب على إعلام عصره، ونقاد الفن التشكيلي والمناصرين لخطه السريالي العجيب، وكما تردد كثيرا فإن أغلب من صفقوا له أصيبوا بالصدمات من فنه أكثر مما أعجبوا به. أيضا هذه نظرية أخرى، لا تنقص من شأن دالي، ولا من شأن الفن أيًّا كان نوعه، لكنّها تضعنا أمام حقيقة خطيرة، وهي أن قيمة الفرد متعلّقة بما يُكتب عنه. ثمة أمر آخر متعلّق بدالي لكنّه أيضا متعلّق بمجانين الشهرة، إنه حبهم للمال، والمال هو القيمة الخالدة الوحيدة على وجه البسيطة، فبشكل ما ربط دالي اسمه بقيمة مادية تزداد حجما كلما تقدم في العمر، وهذا ما جعله يخلد رغم حياته المتقلّبة، المليئة بالفضائح، واللاعقلانية.
من يشيخ إذن حسب هذا المعطى الغريب؟
أشيخ أنا، وأنتم، وكل من يضع قدميه على كفة الميزان الإنساني، بدون العمل على قلب الكفة التي يقف عليها الآخرون. نذهب نحو الذبول السريع، والفرقة الطبيعية التي تعيشها الكائنات الحية، ونراها بوضوح أكبر خلال مواسم الخريف، حين يصبح الأمر صعبا على أوراق الشجر للتمسك بجذع يرغب في التجدد.
نخضع لهذا القانون المفروض علينا عنوة، بدون أن نعرف حقيقة إرغامنا على المجيء والمغادرة. وحكما نحن أكثر ذكاء من أن نبحث في أمر مستحيل كهذا، لكنّنا قد نتصرف بجنون هروبا من الشيخوخة، والموت، ما فعله على سبيل المثال لا الحصر بابلو بيكاسو، الذي عاش حياة نسائية باذخة، من بينها علاقته بجنيفياف لابورت التي كان يكبرها بخمسة وأربعين عاما. وقد عاشر كل نسائه بدون أن يلتفت إليهن تماما مادام خلال علاقاته يعيش قمة التركيز على أناه. لمن يشاهد فيلم «سيرفايفينغ بيكاسو» بطولة أنطوني هوبكينز، سيصاب بالتوتر، وربما الغضب من سلوكه النزق الذي يشبه سلوك المراهقين، وهو سلوك يرتب النزوات على سلم زمني مختلف، لا درجات للعمر فيه، بقدر ما فيه سلم للمتعة تنبثق من عمر متوقف في محطة واحدة.
غير ذلك تأخذ الشيخوخة بعدا رثائيا لعمر الشباب في الشعر، سواء العربي أو الأجنبي، وإن كان شعرنا العربي توقف كثيرا عند الأطلال والنساء من باب الحسرة والشوق والولع على نسق «ألا ليت الشباب يعود يوما، لأخبره بما فعل المشيب» وهو بيت نحفظه على نطاق واسع، وإن كنا نسينا تماما أن قائله هو أبو العتاهية، لا علينا، فهو لم يختلف عن لامارتين في هذا البكاء، وربما تجاوزه لامارتين وهو يدخل في حوار عميق ميتافيزيقي مع الله بحثا عن جواب مقنع لهذا البلاء الذي أنزله بمخلوقاته. ومن هذا الباب سنفهم أن الرجال نوعان، نوع يحلل الحياة بفكره وعقله، ونوع يعيشها بدون عقل، يتعاطاها كما هي، ولديه قدرة مثل السحر لإيقاف ساعة عمره حيث يشاء. في قصيدته الشهيرة «الأربعون» يوقظنا الشاعر اللبناني شوقي بزيع على الحقائق كلها دفعة واحدة: «أن تعود إلى النبع كي ترتوي،
ثم لا تبلغ الماء،
أو تبلغ الماء بعد فوات الأوان،
وتدرك أن قد خسرت الرهان،
وأنك تخلي المكان لمن هم أقل ذبولا?»
تلك هي الأربعون يقول، قبل أن يتممها بقصيدة الخمسين، متقفيا آثار:
«الرجل الذي يطل مثل شرفة قديمة
على سفوح نفسه»
فروق بسيطة يأتي ذكرها في قصيدة الخمسين عن الشهوة وملمس النساء ومخادعهن، رجوع إلى زمن الصبا، إلى كل تفصيلات ما مضى، ويختم «لعلها الخمسون» متفاديا يقين الأربعين، وخفتها، ومخاوفها، يقولها بين بين، ذاكرا ما فقده، ولا أدري هل في جعبته قصيدة عن الستين؟ وأخرى عن مشارف السبعين؟
يكشف الشعر دوما ما يعجز المرء عن التعبير عنه، ويخرج من الأعماق الهاربة من الحقيقة مكنوناتها، ولطالما كان الشعراء أكثر صدقا من غيرهم في التعبير عن تغيرات العمر، بالطبع ليسوا أطباء ولا رجال علم ولكنهم أكثر تفهما ورحمة لسطوة الأيام على خزائن أيامنا. لا عزاء لنا ونحن نفقد يوميا مدخرات بريقنا وقوّتنا وكبريائنا سوى هذا المنقذ اللغوي المشترك بيننا، الذي يدعى «شعرا» وإلا فإن حبوب الكوليسترول والضغط والسكري والتهاب المفاصل، وكل قائمة الأمراض التي ذكرها حسن داوود في روايته «أيام زائدة» مجرّد تحصيل حاصل، فنحن نشيخ ونذبل وننتهي ونسقط مثل أوراق الخريف لنعود إلى التراب، ولا شيء يبقى منا غير الحكاية.
لا أحد اهتم بالشيخوخة غير الشعراء، حتى الطب، وعلم الاجتماع، وشركات التأمين الصحي، بدأت تفعل ذلك في مطلع القرن العشرين، باهتمام متفاوت، حسب المداخيل التي يحققها «مرضى الشيخوخة» وحده الشعر والأدب والفن تعاطى مع هذا الذبول البشري بحساسية فائقة، بدون أي حسابات مرتبطة بأرباح اقتصادية أو ما شابه? وهو ما ذهبت إليه سيمون دي بوفوار في كتابها «الشيخوخة» الذي نشرت فيه مقالا طويلا عن مختلف المشاكل المتعلقة بالشيخوخة والموت (الاجتماعية، الفلسفية، النفسية والسياسية) في مجتمعات وأوقات مختلفة، وقد أنجزته بعد أن صار عمرها ستين عاما وخبرت أعراض الشيخوخة وما لها من تأثيرات، سواء من باب النضج الفكري أو من باب المتاعب الجسدية العديدة.
نفسها الأفكار ذهب إليها هرمان هسه في كتابه: «في مديح الشيخوخة» وهو يشيد بألبوم صور الصبا والشباب الذي تحتفظ به الذاكرة، وكل تلك الحكايات التي زخر بها عمر النشاط والعطاءات والإبداع، والتي لا يمكن الاستمتاع بها إلا عندما ينخفض نشاطنا، فنجلس بهدوء لمراجعة محطات حياة طويلة عشناها، نظرة إلى الخلف وقد أدينا ذلك الواجب الحياتي الصعب، وهي النظرة الأهم في حياتنا ربما، لأننا نقتنع بعدها أنه من حقنا أن نقترب من الموت بهدوء!
هل تأسف الأوراق عند مغادرة أغصانها؟
ذلك ما لا ندركه، حتى إن بدا لنا الخريف بحلته الجميلة يعيش احتفالا خاصا منقطع النظير، سرعان ما ينتهي مثل كل الاحتفالات، بعناق وفراق، ودموع، وحزن مؤقت إلى حين? فقد علّمتنا الطبيعة أن الربيع لا يأتي إلى بعد اكتمال طقوس حِدادها?
ولحدادنا أيضا الطقوس نفسها.
٭ شاعرة وإعلامية من البحرين
القدس العربي



