الدولــة العميقــــة

تحدثت في المقال السابق عن النومنكلاتورا واليوم أود أن أفصل أكثر فهناك نقطة هامة وهي أننا لا نستطيع قصل النومنكلاتورا عن الدولة العميقة فالاثنان ينتميان لقبيلة واحدة، وهدفها واحد وهو مصادرة السلطة والمال بغرض التمكين. أما وسيلتهما لتحقيق ذلك فهو الفساد ووضع الشعب تحت الرقابة الصارمة. والنومنكلاتورا تمثل فئة قليلة تعيش في برج عاجي بعيداً عن معاناة المواطنين. وحاجة الدولة العميقة عموماً تقتصر على بيروقراطية تشد من عضد الرأسمالية غير المنتجة أو كما تسمى الديمقراطية المفترسة التي تلتهم البلاد وتضع أساساً للتوظيف.
وحتى أشرح ما هي الرأسمالية المفترسة «غير المنتجة» تلاحظ أن رؤوس الأموال تتجه نحو العقارات والمطاعم والبوتيكات والملاهي وصالات الحفلات عن غيرها من الاستثمارات الصناعية والزراعية. والدولة العميقة تمثل دولة داخل الدولة، وهي حالة سياسية تتكاتف فيها قيادة الدولة العميقة مع البيروقراطية والقوات المسلحة و جماعات المثقفين والشرطة والمؤسسات الأمنية، وحالة التكاتف هذه ضرورية للدولة العميقة لتطويق القيادات الشعبية، ومن أجل ذلك يتم تقنين هذا التكاتف بقوانين الطوارئ، ومن ثم يتم التقنين دستورياً بقوانين ملزمة للدولة!!
في الدولة العميقة تنشأ مؤسسات الدولة والوزارات وكأنها مستقلة تماماً عن الدولة الظاهرة للعيان، فالوزارة أو الشركة لا تخضع للرقابة أو المراجعة والوزارة تشكل في حد ذاتها كيانًا منفصلاً عن الدولة الظاهرة للعيان أو قل الدولة الاسمية، فالقرارات التي تصدر عن الدولة الاسمية لا يؤبه لها، فكم من قرارات صدرت من أعلى المستويات تم رفضها وعدم العمل بها!!
ما الذي يجعل الدولة العميقة والنومنكلاتورا تتمتعان كما يقول أهلنا في السودان «بقوة العين»؟ هذا في تقديري ناتج عن ارتباط خفي يزداد قوة بين الدولة العميقة والدولة الخفية العالمية، والدولة العميقة عادة ما تحيد الدين أو في بعض الأحيان تتبناه حتى تصل إلى أهدافها، وباسمه تتمكن الدولة العميقة من الوصول إلى مآربها، وترمي بالدين جانباً بل تشن الحرب عليه كما نرى في هذه الأيام في عالمنا العربي والإسلامي!!
خطورة الدولة العميقة في الدول العربية الإسلامية أنها تُضعف الانتماء إلى الوطن وبصورة مخيفة، حيث تنمو على ضوء ذلك النعرات القبلية والعنصرية وتنمو دعوات الانفصال، وكلما تمكنت الدولة العميقة زادت الأحقاد والضغائن، ودائماً ما تسيل الدماء أنهاراً بعد كل انقلاب على السلطة أو حدوث ثورة يقودها الغوغاء!!
وكما ذكرت فإن الدولة العميقة تعتمد على الرأسمالية المفترسة والتي لا تستثمر إلا في العقارات وغيرها، دخل هذه الدولة في معظمه يأتي من الضرائب ورفع الدعم عن ضروريات المواطن، ورفع الضرائب والدعم يعود على الرأسمالية المفترسة بأرباح طائلة فالدولة لا تستطيع أن تحصر المواد التي ارتفعت أسعارها والتي عادة ما تكون مكدسة بواسطة الرأسمالية فتخرج إلى الأسواق بالأسعار الجديدة المرتفعة فتفترس الرأسمالية الأرباح الطائلة جراء رفع الأسعار والتي تذهب نسبة منها لتثبيت الدولة العميقة ودعمها مادياً!! عادة ما نجد الدولة العميقة غير متسقة مع بعضها البعض، بل مجموعات تعمل بالخفاء خلف المشهد كلٌّ يعمل بأجندته الخاصة.
ايدولوجية الدولة العميقة ضد العاملين أو متعصبين لعِرق وضد القومية وحتى الليبراليون الديمقراطيون يتحولون إلى محاربة الديمقراطية والليبرالية، وتضارب الآراء في الدولة العميقة يعكس خلافات حتى على ما اتفقت عليه من دستور وقوانين. وينعكس هذا على أجهزة الأمن التي يمكنها مخالفة القوانين الديمقراطية والدستورية واستبدالها بقوانين عرفية، كالاتهامات بتدبير الانقلابات العسكرية، والجريمة المنظمة، والمافيا، وعادة ما تنتشر إشاعات الدولة العميقة بادعاء محاولة دولة عميقة أخرى تريد السيطرة على الأمور!!
وقد عشنا مثل هذه الادّعاءات والتهم كثيراً، ونرى كذلك ما يدور حولنا في شمال الوادي وفي الأقطار المجاورة، فأدعياء الحرية والديمقراطية هم أشد أعدائها، وخطورة هذا على أوطاننا الهشة تتجلى في التحولات العنيفة لأنظمة الحكم، فكم عدد ضحايا انقلاب الدولة العميقة في مصر، وخطورة وجود الدولة العميقة تتجلى في الأحقاد والكراهية التي تصنعها بيديها، وما تخلفه من عشرات الآلاف من القتلى ومئات الآلاف من المعتقلين في السجون وعمليات التعذيب التي يلاقونها في المعتقلات والمحاكمات العسكرية للمدنيين وخلافه، هذه السياسة تفرق الأوطان وتقودها إلى الفشل والأمثلة كثيرة على هذا، ولننظر حال الصومال اليوم وأفغانستان والعراق واليمن وسوريا وليبيا وغيرها من دول العالم الفاشلة بسبب ما يُعرف بالدولة العميقة، والتي إن لم تنزل عليها رحمة من السماء ضاعت وزال ريحها!!

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. مشكور يا دكتور…اراك تحلل الدولة العميقة في مصر وتتجاهل الدولة الدكاكينية العندنا هنا..وبعدين اشمعني مصطلح الراسمالية الغير منتجة..ما معروف انها الراسمالية الطفيلية..تجار العيش قلاجة الاثرياء العرب وتجار الاسمنت والمواد التموينية من دبابين ودبايب هم الان يحكمون البلد وطبقوا ما ذكرته من تقسيم البلد وانعدام الروح الوطنية والبطش والتنكيل بالمعارضين…

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..