
عندما تندلع الثورات تكون تعبير عن إرادة شعبية موحدة تهدف لأسقاط الأنظمة الدكتاتورية التي لم تأتِ برضا الشعب او لم تعد ترضي طموحاته وتطلعاته، هذا الاسقاط ليس المقصود منه رموز النظام الحاكم وحاشيتهم فحسب بل اسقاط الدساتير التي صاغتها تلك الانظمة باعتبارها لا تعبر عن المصلحة الوطنية ولكنها مصممة بشكل او آخر لمصلحتهم واسقاط كل القوانين التي تعترض ارادة الشعب هذه الدساتير وما ترافقها من قوانين يجب ان تسقط بشكل تلقائي ودون اي اجراء آخر.
اذا الشرعية الثورية تكون ذات طابع هجومي وهو اسقاط للشرعية الدستورية القديمة واستبدالها بشرعية دستورية جديدة خلال الفترة الانتقالية وبعد سقوط النظام يصبح طابع الثورة دفاعياً في المرحلة الانتقالية، إذ تتحول معركة الثورة في تلك المرحلة من هدف إسقاط النظام إلى هدف منع بقايا النظام من الالتفاف على الثورة وإعادة انتاج النظام القديم.
لذلك من الطبيعي جدا ان تكون الشرعية الثورية مخالفة لكل قوانين النظام البائد اي ان الثورة هي حالة فوق دستورية وفوق قانونية ولا تخضع لأحكام القضاء ومتمسكة بالقوانين والقيم الدولية ذات الطابع الانساني والاصلاحي وقيم الحق والعدل ولأن النظام الذي قامت ضده الثورة يقوم دائماََ بتجريمها وتجريم الفعل الثوري عموما باعتباره مخالف للدستور والقانون فان الشرعية الدستورية تستمد شرعيتها من نفسها رغم انها في الغالب يتم تأييدها دولياََ من الدول الديموقراطية والمنظمات التحررية والانسانية وكل المجتمع المتحضر.
ولأن الشرعية الدستورية تستمد قوتها من حالة الاجماع او شبه الاجماع الجماهيري على الهدف وتنتفي هذه الصفة في حالة عدم الاجماع لذلك نجد الحديث دائما حول وحدة الصف وعدم شقه مما يعني استمرار الحالة الثورية وبالتالي قوة الثورة
في الحالة السودانية قامت قوى الثورة المضادة بمحاولات كبيرة لفرملة الثورة وافراغها من مضمونها فعند سقوط النظام سارعت قوى الهبوط الناعم بالتحدث عن الدستور الذي يفترض به ان يسقط مع النظام والانصياع للقانون الذي يعيق الثورة واصبح ذلك من المسلمات في عقلية الشارع ولم تتحدث ابدا عن تغيير القانون والدستور بشكل جاد بل هناك من يدافعون عن قوانين النظام البائد من قضاة وقانونيين تم وضعهم عمدا في قمة السلطة القضائية وحاربوا التغيير بالقانون الذي خرج ضده الشعب ومات من اجله الشهداء مما هدم اهم ركن من اركان الثورة وهو اسقاط الدستور والقوانين المعيقة للثورة وقوانين النقابات واصبحت المعركة في اروقة القضاء ذات الطرق المعقدة والبطيئة التي يمكن ان تستمر لفترة تفوق الفترة الانتقالية نفسها اذا اردنا تغييرها بطريق غير ثوري.
وفي نفس الوقت نجد من يتحدث عن انتخابات مبكرة وذلك بهدف تقصير فترة الحالة الثورية التي يفترض ان تستمر وتحمي الثورة من المتلاعبين وقوي الثورة المضادة ولا تنتهي الا ببداية الانتخابات وبعد القضاء على الثورة المضادة تماماََ ويهدف هؤلاء للابقاء على معظم قوانين النظام البائد دون تغيير جوهري مما يعني ضمان عدم محاسبة رموزه الذين تربطهم بهم مصالح او استرداد الاموال التي نهبت وربما ولغوا فيها بطريقة ما وعدم القصاص العادل للجرائم واستحداث مصالحات مخزية لا تشبه الثورة وهذا بالضبط ما حدث في انتفاضة ابريل مما يعني في المجمل هدم ركن اخر من الثورة وبالتالي فشلها واعطاء فرصة للنظام البائد لتشكيل نفسه والعودة مرة اخرى متنكرا وبثوب جديد.
وهناك ايضا من يحاول شق صف الجماهير بهدف القضاء علي المصدر الذي تستمد منه الشرعية الثورية قوتها مثمثلاََ في وحدة الهدف والايمان بضرورة واهدافها وتصحيح مسارها اذا لزم الامر وقد استخدمت طرق كثيرة من ابرزها الاشاعات التي تضرب في مصداقية التغيير والتخوين لشرفاء الثورة ورموزها بشكل واسع واشعال فلول النظام البائد وعساكره الفتن القبلية والعرقية مما خلق هوة بين المواطنين انفسهم وكلنا نري ما يحدث من اقتتال في الشرق والغرب والتلاعب بالاقتصاد الذي لايزال منتسبي النظام البائد ممسكون به مما جعل المواطنين في حالة من التشرذم واختلاف الرأي والتشكك في الثورة نفسها.
ومن هنا يمكن القول ان الثورة السودانية لا تزال ناقصة ولم تكتمل بعد والسبب ببساطة غياب مفهوم الشرعية الثورية عن مشهد المرحلة الإنتقالية وذلك بسبب ضبابية المفهوم عند معظم الناس وهذا بطبيعة الحال نتيجة طبيعية لانحدار الثورة من قمة قوتها الى الحالة التفاوضية فبدلا عن التسليم والتسلم وفرض شروط الشارع المتمثلة في اعلان الحرية والتغيير الذي التف حوله الثوار اصبحت شراكة مع اللجنة الامنية لنفس النظام الذي اقتلعته هذه الثورة العظيمة وهذه اكبر الاأخطاء والسبب الرئيسي لما يحدث الآن.
الحل يكمن فقط في استعادة الشارع لبريقة واعادة اشعال الحالة الثورية ولا يتم هذا الا باستعادة الصف مرة اخرى بعيدا عن الحزبية التي لم ياتي وقتها بعد وفي نفس الوقت الاصلاح الداخلي للاحزاب وتغليب مفهوم المصلحة الوطنية داخل الاحزاب علي المصلحة الحزبية استعدادا للمرحلة القادمة.
عوض العوض