الكتيابي ومصطفى.. ترويض النص على حنجرة الثاني “2-2” ثنائيات مبدعة

الخرطوم – عبد الله برير
يدس صوت مصطفى نفسه في تناغم لطيف مع مكونات الجمل الموسيقية في “ألوح لي مدن عينيك تلوح لي”، بحيث تمتد الياء صوتياً وكأنها سحابة عابرة لاقت (اللزمة الموسيقية) واتحدتا بكيمياء متجانسة لتمطران صوتاً وموسيقا بذات التطابق، مصطفى نفسه يأبى إلا وأن يمد يد العون للجملة الموسيقية ويردد بعد (تلوح لييي): لا لا لا لالا لالا للااا، التي تنساق مع الموسيقى في تناغم مبك ومفرح، شبيهة بذات الموسيقى التي تخرج من فمه في أغنية (المسافة).
على كلٍّ، تتواصل الملحمة الموسيقية وينتقل الشاعر والمؤدي والملحن إلى تعقيدات النص التي تضج بالمخاوف “أخاف الضفة ترجع بيك قبل ألحق”، يبعث الكاتب أشجانه ومخاوفه، ويخشى أن تضيع (لمحة المعشوقة) في الضفة التي لربما تظفر بها قبل أن يلحق هو بمعشوقته، وهنا استخدم الشاعر كلمة (قبُل)، وهي أشد حنيناً، لتتكرر كلمة الخوف “أخاف غيم المنى الشايل تسوقو الريح ويتفرق”، وهو امتداد للهواجس، حيث يتوجس الشاعر من أن تتدخل الريح ? مرة أخرى- لتفسد عليه، استخدم هنا عبارات مفعمة بالحنين ومترفة بالخوف، حيث سمى حلمه بـ (غيم المنى الشايل) الذي ينتظره بفارغ الصبر أن يتنزل عليه غيثاً لطيفاً، غير أن الريح ربما تبعثر هذه اللوحة إذا هبت و( فرقت) ذلك الحلم المحمل في الغيم، لينطق مصطفى كلمة (يتفرق) ببعثرة الأحرف مرة أخرى، في الوقت الذي يلخص فيه الشاعر توجساته بتكرار (أخاف وأخاف أخاف وأخاف) مع تطابق موسيقي مع الجملة.
أصوات وألحان
يتتابع تلاحم الأداء الصوتي مع اللحن، لتستأنف الملحمة وتعود الجمل إلى بداية اللحن وصولاً إلى مرحلة تصدير إحساس مبعثر، مليء بالهواجس والظنون، لتبدأ الموسيقى تدريجياً في تهدئة اللواعج وبعث قليل من الاطمئنان وكثير من الخوف بعد أن وصل النص إلى ذروة سنامه، ويلعب الباص جيتار دور ناقوس الخطر، الذي يدق في مأتم الأوركسترا إسفين اللحظات الحاسمة، ليجيء صوت مصطفى “واشد ساعد علي المجداف” يجيء واهنا حزينا “واجيك بي قدرتي الباقية”، حيث يبعث الصوت والموسيقى شعوراً بالاستجداء، “حطام إنسان موسم بي شقاء الدنيا”، هذا الحطام المثقل بالشقاء، وأي شقاء ? شقاء الدنيا ? كله اختزل فيه “ومقسم قلبو في الأحزان”، الحزن الذي لا تكاد تخلو أغنية من أغاني مصطفى وأحاسيسه منه، تقسيم الأحزان على قلب هذا الإنسان، (أجيك فنان) وها هنا يصعب نطق كلمة (فنان) في المنطقة اللحنية الدنيا غير أن مصطفى يخرجها من غيابة الحزن والأسى في أكثر صورها إيلاماً، يتحول الشاعر هنا ليضع مفرداته تحت تصرف لوحة قادمة، ويأتي للمعشوقة بأدوات رسم مكتملة الشجن لتسطير هذه اللوحة التراجيدية المزعزعة بين مآلات الأمل والخوف والهواجس والتحدي.
هواجس وخوف
بين ثنايا الأداء الصوتي ينساق الأداء اللحني في انسجام ملحوظ مع معنى النص في التو، (أشد أوتاري واحكيلك)، مع ملاحظة أن كل ما يحدث من خيالات وتصاوير في نفس الشاعر من لحظة اللمحة، والهواجس والخوف من الريح والغيم، متزامناً مع تلويح مدن العينين، وتنازع الكاتب بين هدهدات الموج وتوعد الضفة، تشتعل دواخل الشاعر ويبدأ في تنميق النص ليحكي لمعشوقته قصته “حكاية إنسان وهب لي سكتك نفسو”، هذا الحطام الموضوع في مفترق طرق، وهو ? على ضعف حيلته ? قرر أن يهب لسكة المحبوبة وطريقها الذي اختاره ? نفسه – وكلمة (وهب) تمنح إحساساً أقوى بأنه بكامل قواه الشاعرية نذر نفسه لطريق معشوقته في تينك اللحظة التأريخية.
تصوير إبداعي
من تجليات النص التي أبدع فيها الشاعر الكتيابي (رسم صورتك على حسو)، وهو تصوير رائع حد الدهشة، ويصعب أن نتخيل ماهية رسم الصورة على الصوت، بعدها يستخدم مصطفى كاريزما صوته الرخيم في إيصال المعنى (وربط) ساعد على المجداف، ومن ثم تظهر المقدرات اللحنية العالية لدى الراحل بدر الدين عجاج، حيث يبدأ تصاعد الموسيقى ليصل إلى الأماكن العالية من الأداء، ليقوم المغني باستنفار الآلات الموسيقية والملحنين بإشارتين من يديه يميناً ويساراً ويحرضهم على تصاعد النسق الموسيقي، ويصدح مصطفى (وقاااااااااال يا إنت يا أغرررق)، وما تلبث الأشجان والخاوف إلا وأن تباغت الجميع (أخاف وأخاف أخاف وأخاف) بتفصيل يشرح حجم المأساة “أخاف غيم المنى الشايل تسوقو الريح ويتفرق” “وألاقيك يا أماني سراب مواهبي عليهو تتدفق” و(أخاف وأخاف أخاف وأخاف).. لتجيئ الخاتمة اللحنية والصوتية بامتداد حس مصطفى في (أخاااااااااااااف) الأخيرة وكأنه قادم من دهاليز الخرافة والهواجس وغيابة الظنون
اليوم التالي
صور حسية رائعة احتشدت في (لمحة) فما بالك لو كانت بعد (لقاء) .. شكرا كتيابي .. ورحم الله مصطفى .. ولك التحية عبدالله ود برير على التطواف الرائع!