رؤى حول استراتيجية دفاعية في حالة ولادة دولة بالجنوب

رؤى حول استراتيجية دفاعية في حالة ولادة دولة بالجنوب

بقلم : عمر خليل علي موسي …/كاتب في الشئون العسكرية والأمنية‏‎ ‎‏? الدوحة / ‏[email protected]

‏1. تقديم . وفقا لكثير من المعطيات المحلية والدولية التي تحيط بالاستفتاء المقرر حول ‏مصير جنوب السودان في يناير المقبل ، ترجح معظم‏‎ ‎‏ الدوائر وتشير كافة الدلائل والمؤشرات ‏إلي ان احتمال انفصال جنوب السودان عن شماله هو الأرجح مما يؤدي إلي ولادة وتكوين دولة ‏جديدة مستقلة تماما عن الشمال ، تربطها بجمهورية السودان حدود مشتركة يبلغ طولها نحو ‏‏1950 كلم . لم تكن فترة ارتباط جنوب السودان بشماله منذ الاستقلال في 1956 مستقرة ‏يسودها السلام والاستقرار والوئام‏‎ ‎‏ المستمر لأسباب شتي منها السياسي والاجتماعي ‏والاقتصادي والديني والعرقي مما أدي إلي نشؤ نزاعات مسلحة أثرت سلبا علي امن واستقرار ‏السودان خلال 6 عقود مضت ، خلال تلك الفترة كان التعامل الأمني مع مشكلة الجنوب يتم في ‏إطار‎ ‎عمليات الأمن الداخلي (وان كان للقوات المسلحة الدور الأكبر في العمليات بالجنوب ? في ‏شكل حرب نظامية – خاصة خلال فترات الحكومات التي سبقت الحكومة الحالية) ، إلا ان ‏إستراتيجية الدولة عموما خلال هذه العقود تعاملت مع ما يجري في الجنوب علي أساس انه ‏تمردا وعصيانا داخليا يدخل عملياتيا في إطار الأمن الداخلي ، شارك في مواجهة هذا التمرد ‏بجانب القوات المسلحة – في العقدين الماضيين فقط – قطاعات أخري من غير القوات المسلحة ‏من القوات الشبه نظامية كالدفاع الشعبي (طلبة وموظفين ومتطوعين) وكذلك مجندي الخدمة ‏الإلزامية الخ .. عموما ان عمليات الأمن الداخلي وفق ما هو معروف عسكريا تقوم بها قوات ‏الشرطة والقوات الأمنية الاخري ، ولا تتدخل القوات المسلحة إلا عند الطلب في حالة ‏استعصاء الأمر علي القوات النظامية الاخري المنوط بها حفظ الأمن الداخلي أو لضعف هذه ‏القوات أو لاستفحال الأمر وخروجه عن سيطرة هذه القوات .‏

‏2 . الموقف الراهن . العالم الآن في انتظار ولادة دولة جديدة علي حدود ما يعرف حاليا ‏بالسودان الشمالي ، لم تحسم نيفاشا والطريقة التي نفذت بها الاتفاقية الأمور وفق ما كان ‏منتظرا لعدة أسباب (لا مجال لتفصيلها هنا) ، لذا ظلت عدة أمور عالقة أدت ولا تزال تؤدي إلي ‏توترات حالية ومستقبلية خاصة تلك المسائل المتعلقة بالحدود المشتركة ومنطقة ابيي والحقول ‏النفطية في المناطق المتنازع عليها وتقرير المصير والمواطنة إلي آخر القائمة المقلقة والتي ‏ستظل شوكة حوت في حلق العلاقات المستقبلية بين الدولتين (في حالة الانفصال) هذه ‏التوترات بعد إعلان دولة الجنوب قد تتطور لنزاع مسلح بين الجانبين ان لم تُحسم مثل هذه ‏الأمور وسيخرج النزاع المستقبلي بين الدولتين من نطاق عمليات الأمن الداخلي إلي حرب بين ‏دولتين (نزاع مسلح إقليمي) وقد يتجاوز الدولتين‎ )‎الشمال والجنوب) إلي محاور وواجهات ‏نزاع اكبر حيث ان للدولة الوليدة أصدقاء وحلفاء وهناك في العالم من يتكسب ويربح ذهبا من ‏مثل هذه النزاعات الإقليمية ويصفق لها ويزيد من أوارها.‏

‏3. أهمية الإستراتيجية الدفاعية العسكرية .وفق العقيدة العسكرية للسودان (‏Military ‎doctrine‏) ، يفترض ان تكون هذه العقيدة دفاعية تبني وتؤسس وفق نظم إستراتيجية دفاعية ‏تعمل علي تحقيق مبدأ الدفاع عن ارض وحدود الدولة البرية والبحرية والجوية لضمان سلامة ‏وأمن واستقرار الوطن ومواطنيه حيث يقع علي عاتق قواتنا المسلحة وحدها بهيئاتها وإداراتها ‏وأفرعها المختلفة وضع هذه الإستراتيجية وتنفيذها ، هذه الإستراتيجية تفرضها مستجدات ‏وتطورات تحدث في الجنوب (أهمها ميلاد دولة جديدة مجاورة وبالتالي بروز خط حدود فاصل ‏جديد يعتبر بالمقاييس العسكرية اتجاه جديد للتهديد) فمهما كانت هذه المستجدات سلمية أو ‏عدائية ، فان ولادة دولة جديدة تستوجب تبني مثل هذه الإستراتيجية والعمل علي تنفيذها ، ‏حيث ان الحكومات في الدولتين تتعاقب والسياسات تتبدل ، والعلاقات الممتازة اليوم بين دولتين ‏قد تسؤ غدا لأي سبب من الأسباب ، إلا ان الاستراتيجيات و الأسس الدفاعية العسكرية تبقي ‏طالما ان هناك قوات مسلحة وطنية وقومية باقية .‏

‏4 . أهم ملامح هذه الإستراتيجية الدفاعية الجديدة .‏

‏ أ . استخدام كلمة جديدة لا يعني أنها شي مستحدث وجديد وإنما هي إستراتيجية يفرضها ‏وضع جديد بدء يلوح في حدود الشمال الجنوبية وبروز اتجاه جديد للتهديد ، يفترض ان ‏تُحِل هذه الإستراتيجية محل عمليات الأمن الداخلي التي كانت تنفذ في الجنوب في العقدين ‏الأخيرين من عمر الصراع .‏

‏ ب. من المهم لهذه الإستراتيجية العسكرية الدفاعية ان تكون من تصميم وتنفيذ الخبراء ‏العسكريين بالقوات المسلحة فقط ونحمد لله ان قواتنا بها من الخبرات والقادة العسكريين ‏المؤهلين الذين هم أهل لذلك ، مع أهمية الابتعاد عن شاكلة من يبررون من غير ‏المتخصصين ويصرحون بمثل : (ان عدم التصدي لقوات غازية تقدمت نحو العاصمة آلاف ‏الكيلومترات كان بهدف استدراج هذه القوات لأرض القتل في المناطق المبنية والسكنية….! ‏أو من يشيرون بحفر الخنادق حول المدن ، في وقت أصبحت فيه الحروب تدار بالأقمار ‏الاصطناعية والأهداف تدمر بدون إرسال قوات عن طريق الطائرات القاذفة بدون طيار ‏وباستخدام الصواريخ الذكية الجوالة التي خط طيرانها وفق تضاريس الأرض تحتها – ‏حادث تدمير مصنع الشفاء وحادث ضرب قافلة مركبات بشرق السودان خير مثال – …! ) .‏

‏ ج . بداية يجب أن نحدد بوضوح أن عبء تنفيذ العمليات البرية المتعلقة بتهديد خارجي ‏مسئولية القوات المسلحة وحدها وهي وحدها المؤهلة للقيام بذلك بدون الزج بالجماعات ‏الشبه عسكريه في إدارة مثل هذه الصراعات حيث ان المعارك الدفاعية البرية والجوية ‏وعمليات الدفاع الجوي والبحري/النهري (وبالطبع الهجومية) لها تكتيكاتها وخططها ‏وتقديراتها وأسلحتها ورجالاتها (كما للسياسة والطب والتدريس والزراعة رجالاتها ‏ووسائلها)…..وان مثل هذه العمليات ليست مجرد مشاريع (ضرب نار وطوابير بيادة ‏وجمعون أو مركبات لاندكروزر مزودة بمدفع دوشكا) تديرها المنسقيات وينفذها طلاب ‏المدارس والجامعات والموظفين ..! فعبء الدفاع عن الدولة (كأحد أوجه الحرب الأربعة ، ‏هجوم/دفاع/تقدم /انسحاب) علم وتقنية حديثة ومعلومات وتخطيط وفنون قتال و قيادة وكل ‏ذلك من اوجب واجبات القوات المسلحة ويختلف اختلافا كبيرا وبينا عن عمليات الأمن ‏الداخلي .‏‎ ‎

د . في حالة انفصال الجنوب ستكون حدود السودان الجديدة كما واضح من الخارطة وهي ‏بطول نحو 1950 كلم من نقطة إلتقاء الحدود السودانية بالحدود الإثيوبية شرقا إلي نقطة ‏الالتقاء بحدود دولة أفريقيا الوسطي غربا وسيجاور السودان 7 من الدول من حوله بدلا ‏عن تسع إلا ان هذه الحدود الجديدة مع الجوار الجنوبي ستشكل عبئا اكبر من حالة الجوار ‏الماضية من الناحية الأمنية لعدة أسباب أهمها أنها تحولت من حدود أقاليم داخلية إلي حدود ‏دولية تفصل بين قبائل حدودية متداخلة تربطها علاقات مستمرة ومتباينة أهمها التجارة ‏والرعي والزراعة والقربى والتنازع حول مواقع وأراضي بعينها مما يجعل من هذه الحدود ‏خاصة في جنوب كردفان ودارفور والنيل الأزرق بؤر للإحتكاك لن تكون بين الدينكا ‏والمسيرية وغيرهما من القبائل فقط ، بل سيتحول إلي صراع بين دولتين متجاورتين ، ‏يجب ان ياخذ من يخطط لأي إستراتيجية جديدة كل ذلك في الاعتبار لحماية هذا الاتجاه من ‏التهديدات بأنواعها (وهي كثيرة) إلا ان أهمها :استمرار التنازع علي الثروات ومناطق ‏الرعي ، الاعتداءات بين القبائل الحدودية ، التسلل ، الإرهاب ، النزاع علي مياه الأنهار ‏والمشاريع المقامة عليها ، أطماع دولاً جديدة في المنطقة تهمها مصالحها الجديدة والتي ‏تعبت عقودا لتحقيقها كإسرائيل وأمريكا . إذن هناك اتجاه جديد للتهديد وتهديدات ماثلة من ‏الضروري ان تقابله إستراتيجية دفاعية سليمة .‏

هـ . يلاحظ ان بروز ولاية أعالي النيل الحالية إلي مسافة نحو 100 ميل وبعرض 70 ميلا ‏داخل ولاية النيل الأبيض شمالا يُعطي مديات إضافية بقدر طول هذا البروز لدولة الجنوب ، ‏الشئ الذي سيشكل عبئا دفاعيا إضافيا علي كثير من المدن والمواقع الاقتصادية ‏الإستراتيجية الحيوية بالسودان ، فمثلا عند إقرار الحدود الجديدة ( وهي الحدود الحالية ‏التي تفصل بين الشمال والجنوب) تصبح كوستي علي بعد 64 ميلا من حدود الدولة الجديدة ‏عند اقرب نقطة حدود في بروز ولاية أعالي النيل الحالية وعلي مسافة 83 ميل من حدود ‏ولاية الوحدة الحالية ، أما الدمازين وخزان الروصيرص يبعدان نحو 82 ميلا من حدود ‏بروز أعالي النيل ، وسنار وخزانها عل مسافة 69 ميلا فقط من نفس البروز بأعالي النيل ، ‏والابيض علي مسافة 150 ميلا من أعالي النيل و195 ميلا من حدود ولاية الوحدة ، أما ‏الفاشر فتبعد نحو 216 ميلا من حدود شمال بحر الغزال وجبل مره علي مسافة نحو 193 ‏ميلا من بحر الغزال ، أما المشاريع الصناعية والاقتصادية جنوب النيل الأبيض فهي علي ‏مرمي حجر من حدود الدولة الوليدة . عليه هذه المسافات (وهي مسافات دقيقة) تعتبر ‏قريبة جدا وخطيرة في عرف مديات الصواريخ أرض/أرض متوسطة المدى والمدفعيات ‏بعيدة المدى والطائرات القاذفة ، وكذلك في عمليات التسلل والاختراق وتقدم القوات ‏المعادية ، الشي الذي يجب ان يوضع في الاعتبار عند التخطيط للإستراتيجية العسكرية ‏الدفاعية لهذا الاتجاه .‏

و . هناك ضرورة ملحة لأن تشمل هذه الإستراتيجية قاعدة جوية كقاعدة الوادي ، توضع ‏ضمن (المدى المناسب) لحماية المواقع الهامة التي ذكرت وتكون خارج نطاق مديات ‏الصواريخ المعادية (المتوقعة) متوسطة المدى، مع وضع بروز أعالي النيل (كمدي ‏إضافي لصالح الدولة الجديدة) يجب أن يُتَحسب له تجاه أي تهديد من الجو (صواريخ ‏‏/مدفعية /طيران) أو حتى من النيل ، أو من أي عمليات تسلل الخ …. يجب ان تكون هذه ‏القاعدة قائمة بذاتها (أي ليست انطلاقا من المطارات الحالية في المدن) مثل الأبيض ‏والفاشر أو الدمازين مع وجود القوات اللازمة لحمايتها وتأمينها ، وأهمية تكوين فرق من ‏القوات الخاصة ‏SFs ‎‏ وقوات التدخل السريع ‏RDFs‏ المنقولة والمدعومة جوا للدفع بها ‏إلي مناطق التهديد والعمليات وفق تطورات الموقف .‏

ز . تطوير قوات القطاع النهري التي ستتغير وتنكمش مناطق مسئوليتها بتغير الحدود وذلك ‏بدعمها بالزوارق السريعة المسلحة بالأسلحة المناسبة لمراقبة المناطق الاقتصادية الهامة ‏من النهر علي طول ولاية النيل الأبيض وعند الحدود النهرية ومنع عمليات التسلل النهري. ‏

ح . إن طول الحدود المشتركة بين الدولتين يتطلب لإحكامها والدفاع عنها ومراقبتها عملا ‏إستخباريا مكثفا تقوم به الاستخبارات العسكرية ، يتمثل هذا الجهد العسكري في جمع ‏المعلومات الخاصة بتحركات القوات علي الجانب الآخر وتحديد ومراقبة ومتابعة مناطق ‏الحشد ، ومكافحة التجسس ، ولتحقيق ذلك لابد من قوات استطلاع بري وجوي مدربة ‏ومؤهلة عاليا ، بجانب ذلك لابد من مراقبة الاتصالات العسكرية وما تشمله من معلومات ‏تعتبر مفتاح المعارك لتامين الأرواح . يقع علي الاستخبارات أيضا عبء تحديد واكتشاف ‏المعدات والعتاد والمشتريات العسكرية للجانب الآخر خاصة الأسلحة والمعلومات الفنية ‏والتعبوية الخاصة بها وقدرات الجانب الآخر في استخدامها والمستوي التدريبي والعملياتي ‏الذي وصل إليه ، الاستخبارات العسكرية هي صمام الأمان للدول من الاعتداءات ‏والاختراقات الخارجية وهي عين القوات والقادة ومصدر قراراتهم وتحركاتهم السليمة .‏
‏5. ختاما لنجاح القوات في بسط الأمن وتحقيق الأهداف الإستراتيجية للدولة والمحافظة علي ‏ما تبقي من حدود البلاد لابد من استقرار الأوضاع السياسية والاقتصادية بالبلاد ، وإلا سنكون ‏كمن يؤذن في الفاتيكان .‏

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..