مقالات وآراء

دراسة نقدية: بعض سيرة ذاتية وبعض سيرة غيرية

دراسة نقدية : بعض سيرة ذاتية وبعض سيرة غيرية .
القاص / عمر الحويج
الناقد / إدريس محمد سيدأحمد

شكراً مارك/الفيسبوك ، فقد أعاد اليوم إلى صفحتي هذه الدراسة النقدية ، أشرككم معي للمرور عليها ، وهي على هدى بعض سيرة ذاتية وبعض سيرة غيرية .. عن ذاته الناقد .. وعن الآخر القاص ، عابرة إلى دراسة نقدية لمجموعتي القصصية [ إليكم أعود وفي كفي القمر ] .

***
بقلم الأستاذ / ادريس محمد سيداحمد

أعادتتي المجموعة القصصية ( إليكم أعود وفي كفي القمر) التي أصدرها صديقي عمر الحويج وأهداني نسخة منها ، أعادتني إلى سنوات الصبا الباكر في مدينة عطبرة ، حيث كنا عمر الحويج والحسن على تكروني وأنا لا نفترق .

يالها من أيام ويا لها من مدينة ، في تلك السنوات الخضراء الزاهية ، في منتصف الخمسينات ، حين كانت البلاد تتنسم نسمات الإستقلال الندية . كنا حينها طلاباً صغاراً في بداية المرحلة المتوسطة ، وقد اعتدنا أن نقضي أيام العطلة المدرسية في مكتبة البلدية الغنية بالكتب في ذلك الزمان .

في تلك السن المبكرة قرأنا كل روايات نجيب محفوظ وعبد الحميد السحار ويوسف السباعي واحسان عبد القدوس وعبد الرحمن الشرقاوي ومسرحيات توفيق الحكيم وقصص يوسف ادريس القصيرة وبعض كتب طه حسين والعقاد والتي كنا نستطيع فهمها وشهرزاد وخاصة الأيام حيث كانت مقررة علينا في المرحلة المتوسطة . عندما انتقلنا إلى المرحلة الثانوية تطورت قراءاتنا فشملت روايات شارلز ديكنز وتليستوي ودوستفيسكي وجان بول سارتر وكافكا وكلون ولسون ومسرحيات شكسبير . وهكذا تفتحت أمامنا عوالم الأدب الأوربي ، ثم الأدب الأمريكي ، ممثلاً في روايات وليم فوكنر وارنيست همنجواي وجون اشتاينيبك ومسرحيات ارثر ملر .

وفي المرحلة الثانوية ايضاُ اتجهنا لأول مرة نحو الأدب السوداني وخاصة الشعر ، فقرأنا بشغف واعجاب شعر التجاني وادريس جماع وصلاح أحمد ابراهيم ومحي الدين فارس وجيلي عبد الرحمن والفيتوري وتاج السر الحسن ، وذلك بجانب أشعار بعض الشعراء العرب من أمثال أمل دنقل وصلاح عبد الصبور والبياتي وبدر شاكر السياب ونزار قباني ، وبجانب ذلك كنا ندوام على قراءة المجلات الأدبية الشهرية الواردة من بيروت والقاهرة ، أمثال الأداب والكاتب والطليعة ، إلى جانب المجلات الاسبوعية المصرية وخاصة روز اليوسف وصباح الخيرالتي كنا نجدها في مكتبة دبورة الشهيرة في سوق عطبرة الكبير ، وفي هذه المكتبة أيضاً كنا نجد الصحف السودانية اليومية ، امثال الأيام والرأي العام والصراحة والميدان والطليعة ، ومن هذه الصحف كنا نطلع على مجريات السياسة السودانية .
ولكن ثقافتنا السياسية الحقيقية ، كنا نتشربها يومياً مما يحدث أمام أعيننا في مدينة عطبرة ، فقد كانت هذه المدينة معقلاً رئيسياً للحركة النقابية ممثلة في نقابة عمال السكك الحديدية ، وكانت عاصمة لها ويطلق عليها أيضاً مدينة الحديد والنار ، ويتركز فيها أكثر من ثلاثين ألف عامل .

وكنا طلاب في المتوسطة والثانوية كثيراً ما نشهد الليالي السياسية التي تقيمها هذه النقابة ، ونشاهد بأعيننا القيادات العمالية الشهيرة من أمثال الشفيع أحمد الشيخ وقاسم أمين والحاج عبدالرحمن وكنا نشاهد هؤلاء الرموز يخطبون ليلاً ، ويقودون المظاهرات الحاشدة نهاراً . وكانت عطبرة مركزاً هاماً لنشاط الحزب الشيوعي السوداني ، وكان كل من هذا الحزب ونقابة عمال السكة حديد ، يسيطران على الحياة السياسية في مدينة عطبرة ، وكان تأثيرهما قوياً حتى في العاصمة الخرطوم ، فقد كان إضراباً واحداً لنقابة السكة حديد ، أو منشوراً واحداً من الحزب الشيوعي تهتز له كراسي الحكومة في الخرطوم خاصة بعد أن وقعت البلاد في قبضة إنقلاب ١٧ نوفمبر ١٩٥٨م.

في هذه الأجواء السياسيةالعاصفة كنا نواصل دراستنا الثانوية وكانت عطبرة حينها تموج بالإضرابات العمالية وتقود المقاومة العنيفة لحكومة عبود ، وكنا نحظى في بعض الأحيان بحضور كبار السياسيين من العاصمة لإقامة الليالي السياسية من أمثال عبدالخالق محجوب وحسن الطاهر زروق والوسيلة ومبارك زروق واسماعيل الازهري .

وهكذا تشبعنا بالإضافة لثقافتنا الأدبية بثقافة سياسية ، وتحت هذه الأجواء العمالية والسياسية بدأنا أنا وعمر الحويج أولى محاولاتنا في الكتابة الأدبية .كانت محاولات عمر في مجال القصة القصيرة ومحاولاتي في مجال الشعر والمقالة الصحفية . كانت الصحافة من هواياتي المبكرة فقد كنت أصدر مع أحد زملائي في الصف ، في المرحلة المتوسطة صحيفة حائطية منتظمة بأسم المنار ، ومنذ ذلك الوقت كنت أحلم بأن إمتهن الصحافة في المستقبل لكن الأقدار حملتني إلى مهنة التدريس كما حملتنا أنا وصديقي عمر إلى دنيا الاغتراب فيما بعد .
كان عمر يطلعني على ما يكتبه من قصصه القصيرة منذ وجودنا في عطبرة ، وعندما استقر بنا المقام في العاصمة أثناء الدراسة الجامعية بدأ عمر ينشر بعض القصص في الصحف ، خاصة بعد إنضمامه إلى جماعة (أبادماك) ، أما أنا فلم أحاول نشر محاولاتي الشعرية ، ولكن كنت أنشر من حين لآخر مقالات أدبية وسياسية في الصحف .

ينبغي عليّ هنا عن سرد هذه الذكريات القديمة ، وأعود للهدف الأساسي من هذه المقالة وهو تسجيل بعض الانطباعات عن مجموعة (إليكم أعود وفي كفي القمر ) وبالطبع ليس هدفي كتابة دراسة نقدية ، فلست بناقد ولكن مجرد متذوق للأدب أعجبته قصص هذه المجموعة ، وهو اعجاب لم يبدأ اليوم بل بدأ منذ ولادة هذه القصص ، وقد كنت شاهداً على ذلك .

أبدأ بقصة (الإبن والدم والأحلام) بطلها هو هذا العامل البسيط الذي يحلم أن تمنحه زوجته إبناً بعد أن أنجبت له خمس بنات وكان يتمنى أن يصبح الإبن رئيساً للعمال ، هذه هي أكبر طموحات العامل الذي كانت أحلامه لاتستوعب شيئاً أكبر من هذه الوظيفة ، فهي تذكره بصلف الخواجات الذي عانى منه ، ولكن عقله الباطني من خلال أحلامه ، يرسم لإبنه مستفبلاً آخر ، زعيم عمالي ثوري ، يعقد الإجتماعات في منزله ويقود المظاهرات ويصاب بالرصاص وتسيل دمائه ، هذا الحلم هو في الحقيقة الواقع الذي كان يعيشه عمال السكك الحديدية في عطبرة وقد قام عمر كمبدع بصياغة هذا الحلم أو الواقع الحلم وتقديمه إلى القارئ .

وفي نفس السياق تأتي قصة (وردية الليل) فالبطل هو عامل من أصول ريفية يعيش ظروف الفقر والعوز ، التي تعيشها الطبقة العاملة في عطبرة ، وهو نفس العامل المثقل بالأطفال والذي يعيش مع زوجة صبورة مطيعة ، وكذلك الإبن الثائر الذي يخفي المنشورات في المنزل والأب لسان حاله يقول (أنا ما عارف الأولاد ديل عايزين شنو ؟ ما قالوا عايزين حكم ولاد البلد زمان عملو للانجليز كدة ، أبراهيم العطشقي دا من زمن الإنجليز وهو يرمو فيه في السجن دحين اليومين دي ما قاعد أشوفو ، أكيد دخلوه السجن ، والله الانجليز كانوا أخير من ولاد البلد كانوا بيصرفو لينا البونص ، وديل غير يدخلو الاولاد السجن ما عندهم شغلة) كلمات تجسد ما كنا نراه امام أعيننا من حكومات وطنية تطارد الثوريين وتزج بهم في السجون وتهمل واجبها في تحسين أحوال العمال .
وفي قصته (وحتى الصغار) يرسم عمر الحويج لوحة رائعة لأحداث ثورة اكتوبر من خلال طفلين أحدهما شمالي والآخر جنوبي ، يحملا صندوقا ورنيش عليهما صورة الشهيد أحمد القرشي وفي القصة رمزية واضحة لخلفية ثورة أكتوبر وارتباطها بمشكلة الجنوب وهكذا عبر بنا عمر من كفاح الطبقة العاملة في عطبرة إلى كفاح المثقفين والطلبة في العاصمة ، وأحداث ثورة اكتوبر ومجزرة شارع القصر ، وكلها أحداث عشناها معاً ساعة بساعة وقد قرأتها مجسدة في هذه القصة .

ويعود بنا عمر في قصة (حين إنفتحت البوابة) إلى ذكريات عطبرة ، وكفاح الطبقة العاملة وذلك من خلال عرضه لحياة عامل بسيط تحول من عامل بالورشة إلى خفير يحرس إحدى البوبات التي تفصل بين المارة وخط السكة حديد ، كانت مهمة هذا الخفير أن يحرك ذراعاً حديدياً ويضعه في وضع أفقي ، يجعله يمنع المارة من عبور البوابة أثناء مرور القطار ، مثل هذه البوابة وعبرها يمر بها الناس في مدينة عطبرة كل ساعة ولكن قلم عمر شديد الحساسيةألتقط هذا الخفير وصورها لنا في هذه القصة بكل تفاصيلها الدقيقة مثل معاناته مع اجتماع الصافرتين ، صافرة خروج العمال من الورش وتوجههم إلى منازلهم عبر هذه البوابة وغيرها وصافرة القطار وهو قربه من البوابة ، وهنا يحاول بعض العمال التسلل من تحت الذراع الحديدية وذلك قبل أن يصل بها الخفير إلى وضعها الأفقي ، وهنا يسمع كلمات السباب التي يطلقها نحوه الناس الذين لم يتمكنوا من المرور بلا ذنب جناه ، ثم ينتقل عمر إلى تصوير معاناة أخرى لهذا الخفير وهذه المرة تتعلق بوضعه الأسري ، موت إبنته وإضطرار زوجته لبيع (اللقيمات) وحاجيات الأطفال وترك أحد أبنائه للدراسة وكان يعول كثيراً على دراسته وأخيراً هذا الانتهازي الذي جاء يساومه على عدم الإشتراك في الإضراب مقابل إعفائه من ديونه ولكن الرجل الإنتهازي لم يعفيه من ديونه بل زاد على ذلك بأن وشى بابنه لدي الحكومة مما جعلها تطارده بالإعتقال والسجن . ولكن هذا الخفير البسيط أحس بالفرح يغمره مع إنفجار ثورة اكتوبر التي إقتصت له من ذلك الإنتهازي بادخاله السجن وهكذا يقول لنا عمر لقد أصبح الصبح وتحرك قطار الثورة وأنفتحت بوابة الأمل .

بجانب التصاق عمر الحويج في قصصه في الستينات بالعمال البسطاء والثوريين ، فقد لاحظت جانب آخر يتجذر بعمق في هذه القصص وهو ذكريات القرية والجبل والنهر ويشكل بأقاصيصه الشيقة القاسم المشترك بين هذه الأشياء الثلاثة ويظهر ذلك في قصة(عام الصوت) و(وحلمك الكبير يا بت شيخنا) و (الكربة) . ففي هذه القصص يستفيد عمر من الأحاجي والموروثات الشعبية وممارسات أهل القرية في الأفراح مثل الدلوكة والعرضة ويرسم لنا صورة شخصيات القرية مثل حامد الحفيان وبت شيخنا وحمدان الجنيدابي . بالإضافة إلى ذلك إستفاد عمر من الاساطير الشعبية ، مثل حكاية تلك الحشرة الزاحفة التي يقال أنها تنظف الأرض من الأوساخ إستعداداً لعرس القمر وأيضاً تلك الحكاية عن الصراع بين الجد والتمساح .

وهكذا استمتعت بقصص عمر في الستينيات ووجدت فيها نفسي وأعادتني لتلك السنوات الجميلة .
أما قصصه في التسعينيات فقد طور فيها تكنيك الحكي وبث فيها لغته الشاعرية الأنيقة والتكرار اللغوي المحبب أو إعادة تدوير العبارة مما سماها الاستاذ أحمد الطيب عبد المكرم وكقارئ وجدت فيها المتعة مع التجارب الإنسانية .
أخيراً لصديقي عمر الشكر على هذه الساعات التي قضيتها مع مجموعته الرائعة وأدعوا النقاد للإقبال على هذ٨ه المائدة الدسمة .
***

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..