مقالات وآراء سياسية

التمرد: سنوات من التهميش

صادف  يوم الثامن عشر  من شهر اغسطس ذكري اندلاع  تمرد حامية مدينة توريت في جنوب السودان سنة 1955م  كاول  تمرد منظم في السودان الحديث بتكوينه الحالي عقب تشكيله بواسطة الحكم الثنائي الانجليزي المصري بعد هزيمة جيوش المهدية في ساحة معركة كرري 1898م

  سارعت القوي الاستعمارية في نهاية القرن التاسع عشر الي الاستيلاء علي اجزاء واسعة من قارة افريقيا وكان لبريطانيا نصيب الاسد خاصة مناطق خوض النيل حيث لم تسمح  لاي دولة اوربية اخري من الوصول الي ذلك النهر الخالد وسوف يذكر التاريخ سنة 1898م كيف زمجر الاسد الانجليزي غضب عندما حاولت قوات المرشال الفرنسي ايجاد موطي قدم لها في منطقة فشودة في اعالي النيل في جنوب السودان فقد كادات ان تندلع حرب كونية بين التاج البريطاني والجمهورية الفرنسية

لم تجد الجيوش الاوربية الزاحفة صوب افريقيا مقاومة تذكر ليس بسبب تفوق السلاح الناري  فحسب بل لانعدام الرغبة في القتال لدي الافارقة  في ظل حكام محليين فسدة جعلو الانسان الافريقي سلعة رخيصة تباع ولقمة سايغة لتجار الرقيق حيث كان هناك تواطو مابين الحكام المحليين وتجار الرقيق في تلك التجارة القذرة فيكفي ان يمنح تجار الرقيق للزعيم المحلي بضع صناديق من التبغ والساعات الفاخرة واعواد الثقاب ليجعل الاخير يسيل اللعاب مانح تاجر الرقيق رهط من المساكين ضحايا  تلك البيعة الغير منصفة  ليكون مصير العديد منهم عبيد في منازل اسياد جدد في اقاصي اطراف العالم وقليل منهم  من يبتسم له الحظ ليكون جندي ضمن جيش ملك او خديوي او حتي بازنقر عند تاجر رقيق اخر

ربما كانت سمعة اوربا في تلك الفترة وعقب الثورة الفرنسية التي كانت تحمل نواة سياسة تحرير الانسان  والديمقراطية قد تسربت الي مسامع الرقيق عبر اخواتهم من كانو جنود في طلائع طوابير الجيوش الاوربية الزاحفة نحو القارة السمراة فقد كانت الجيوش الاوربية تضم فيالق من الجنود السود الذين كان يعتمد عليهم في حسم المعارك مع بني جلدتهم فقد كان يكفي مجرد ظهورهم في مسرح القتال في بث الاحباط لدي المدافعين بان حربهم لا طائل منها ولايمكن لهم محاربت ابناء العم اخواتهم وقد استخدم الانجليز ذلك الاسلوب الماكر في حربهم مع جيوش المهدية فقد كانت الفرق السودانية المنضوية تحت لواء اللورد كتشنر سردار الجيش المصري تقاتل بشراسة منقطعة النظير ودافع شديد من الانتقام فقد حسمت تلك الاورط العسكرية  العديد من المعارك لصالح الجيش الانجليزي

  الفرق العسكرية المكونة من فلول العبيد الفارين من داخل السودان حيث تم تجميعهم في اسوان وتجنيدهم في الجيش الانجليزي
تريد تلك المجموعة السودانية بالجيش الانجليزي ان ترجع بالزمان الي سنوات مضت بداء من اصطيادهم من مناطقهم الاصلية في ادغال الجنوب او من اعالي الجبال  واطراف غابات النيل الازرق  وفي رحلة طويلة حتي يباع نفر منهم في الاسواق وربما تم تفريق ابن من والدته او اخ من اخته في عملية البيع

كان اصرار تلك الفرق السودانية المنضوية ضمن الجيش الانجليزي يحمل اصرار خفي لاجل الوصول الي اهليهم الارقاء في الداخل السوداني الذين انتهي بهم الحال عبيد وارقاء عند علية القوم
توقفت عند نص صغير في كتاب حرب النهر من تاليف اللورد تشرشل عندما كان مراسل حربي مع حملة اللواء كتشنر علي السودان كيف ان جندي  ضمن الاورطة السودانية التابعة للجيش الانجليزي  قصد  منزل معين  عقب هزيمة جيش المهدية ودخول كتشنر ام درمان حيث اقتحم الجندي تلك الدار وقام بتحرير اخته التي كانت تحت الرق وخرجا وهم يضحكون حينها هرول خلفهم رجل  وهو يحمل عصا ويصيح اقيف يا عب  لم يتردد الجندي فصوب سلاحة نحوه وصرع الرجل  هذا مثال لاصرار تلك العناصر السودانية المنضوية تحت لواء الجيش الانجليزي بالفتك بجيوش المهدية

قامت الادارة الانجليزية  بوضع لبنة الدولة السودانية ولكن فات عليها ان جنودهم ليسوا في امان من التاثر بموجة الفكر الذي غز المنطقة عقب انهيار الدولة العثمانية في اعقاب الحرب العالمية الاولي في العام 1918م وتحديد  ظهور حركة سعد زغلول التي كانت تنادي باستقلال مصر مع تبعية السودان للتاج المصري وتاثر الجنود السودانيين بالجيش المصري بالثقافه والفكر الوفدي من خلال الصحف التي كانت تصدر من القاهرة وقد ساعدت علي تكوين الوعي لدي المثقفين السودانيين وتطورات الاحداث وكانت قمة الازمة عند قيام عناصر مجهولة باغتيال السير لي استياك سردار الجيش المصري وحاكم عام السودان في شوارع القاهرة في سنة 1924م واعقب ذلك قرار بابعاد الجيش المصري من السودان ذلك الامر قاد  الي تمرد الاورطة السودانية المنضوية تحت لواء الجيش المصري في رفض لذلك القرار فكانت احداث شهر نوفمبر 1924م التي ادت الي اعتقال البطل علي عبد اللطيف والبطل عبيد حاج النور واستشهد  البطل عبد الفضيل الماظ علي مدفعة لم تجد تلك الحركة التي عرفت باللواء الابيض الا الاستنكار من الصحف المحلية السودانية التي كانت تصدر في ذلك الزمان حيث وصف كاتب صحفي تلك الحركة بمقال بعنوان ماذا يريد العبيد؟؟؟؟ في اشارة الي عناصر تلك الثورة
حينها لم يعلن بعد عن انتهاء حقبة الرق في السودان الا في العام 1928م حيث صدر قانون بتصفية الرق وتحويل الحوش الذي كان يباع فيه الرقيق الي دار للرياضة يمارس فيه نشاط كرة القدم

استمر الوضع في تحسن و راح في الافق ملامح منح السودان الاستقلال عقب الحرب العالمية الثانية وعقب توقيع اتفاقية العام 1953م التي مهدت للحكم الذاتي في السودان ولكن لعدم قراءة السياسيين الشماليين للوضع في جنوب السودان  وانعدام الثقة ادي الي تفجر اول تمرد والسودان يستقبل الاستقلال في اشارة صادمة لمستقبل هذه البلاد

  استمرت تلك الحرب سنوات ولم تنجح محاولة موتمر المائدة المستديرة عقب الاطاحة بنظام الجنرال ابراهيم عبود في سنة 1964م الذي كان يؤمن بالحل العسكري لحل قضية الجنوب فشل موتمر المائدة المستديرة بسبب عدم جدية الاحزاب واستهوان الامر والظن ان تلك العناصر المتمردة لا قضية لهم استمر الوضع الي ان استولي الجنرال جعفر محمد نميري علي السلطة في العام 1969م وقد بادر الي حل مشكلة التمرد وذلك باتفاقية اديس بابا في مارس 1973 التي منحت الجنوب حكم اقليمي اقرب للحكم للذاتي
ولكن لم يستمر شهر العسل طويلا وعقب صعود نجم الاسلاميين الي سدة الحكم  بجوار النميري وتطبيق الشريعة الإسلامية في سنه 1983م تجدد التمرد بشكل اكثر شراسة استمر سنوات حتي لاح في الافق بوادر سلام يحفظ وحدة البلاد عبر مبادرة مولانا محمد عثمان الميرغني مع الراحل الدكتور جون قرنق في العام 1988م والتي كادت ان تنجح في العام 1989م
ولكن انقلاب الاسلاميين بقيادة الجنرال عمر حسن البشير  ادي  الي فشل توقيع ذلك الاتفاق و شرع نظام البشير في تحويل الحرب من اهلية الي دينية حيث زج بالاف الشباب في حروب  جنوب السودان ادت في النهاية الي تعاطف المجتمع الدولي مع المتمردين والضغط علي البشير الذي اتهم في العام 2008م بالضلوع في جرائم ضد الانسانية في اقليم دارفور غرب البلاد الذي دشن هو الاخر تمرد جديد في العام 2003م
ومع استمرار الضغط علي الاسلاميين مع عدم رغبتهم في الاحتفاظ بالجنوب خاصة بعد الانتفاع بالنفط الذي تفجر في هناك  وقد وفر للحركة الاسلامية  مليارات الدولارات التي ساعدتهم في التمكن وشراء زمم بعض السياسين اصحاب الضمائر الميتة  ساعدت تلك الاموال في مد فترة بقاء النظام سنوات عديد والذي كان يفترض ان يسقط في العام 2013م عقب هبة سبتمبر المجيدة التي قابلها النظام بقمع بشع
ولكن مع فساد نظام البشر و قيام عناصر حزبه بتبديد وسرقة اموال الدولة حدثت ازمة اقتصادية شلت البلاد وجد البشير نفسه مجبرا علي شن حرب علي رفاق الامس من الاسلاميين من الذين سرقوا المال العام فخصص لهم  نيابة لمكافحة الفساد واطلق عليهم لقب القطط السمان
ولكن البشير لم يكن علي خلق امير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب الذي كان لا يقبل علي افراد اسرته الانتفاع من الدولة خوف عليهم من الفتنه  وتجاهل البشير فساد اخوانه بينما شرع في مصادرة اموال الغير من رفاق الامس وهذا الامر قد ادخل الغضب في نفوسهم واضمر القوم الشر بالجنرال العجوز الذي استعان برجل الحرب السابق في دارفور حميدتي لاجل حماية نظامه المنهار
استخدم خصوم البشير من الاسلامين نفس الخطة الس اسقطت حكومة السيد الصادق المهدي ومن قبلها اسقاط نظام النميري وهي خطة التجفيف الاقتصادي وافراغ البلاد من المواد الغذائية الأساسية والوقود ونجحت الخطة وكانت ثورة الجياع  في ديسمبر 2018م من مدينة عطبرة التي خرج تلاميذها في مواكب ضد انعدام الخبز والوقود وارتفاع الاسعار ومنها امتدت شرارة  الثورة الي كل انحاء السودان
وبالطبع هذا الوضع جعل المعارضة التي كانت بالامس تنتظر هذه الفرصة تسرع الي تنظيم صفوفها ودخلت الحراك من خلال استغلال  تقنية الانترنيت  واصدار المنشورات الإلكترونية لحث الشعب علي الخروج  للشوارع حتي توج ذلك بالاعتصام الشهير امام القيادة العامة يوم السادس من ابريل حينها وجد رجل الامن القوي الجنرال المهندس صلاح الشهير بقوش الفرصة الذهبية لاجل الانتقام لنفسه من رفاق الامس الذين دبرو عملية ادخله للسجن عقب اتهامه بقيادة انقلاب في العام 2012م بالطبع لن يجد قوش انسب من هذه الفرصة لاجل الايقاع بالبشير الذي كان مرهف السمع وهو يستمع لخصومه  داخل الحركة الاسلاميه بانه يشكل خطر عليه

ان استعانة البشير بصلاح قوش مرة أخرى لحماية النظام بعد ابعاده وسجنه تدل  بانه  قصير النظرة الامنية والسياسية وان الرجل خدمته الظروف ليكون حاكم  طوال الثلاثين عام علي السودان لم يتردد الجنرال قوش في استغلال فرصة انشغال عناصر البشير في فض الاعتصام في اقناع الجنرال عوض بن عوف وزير الدفاع ونائب البشير ورجل الاستخبارات القوي والذي احيل الي التقاعد قبل ان يستعين به البشير مرة أخرى لشغر وظيفة وزير الدفاع التي اهتزت كثير ابان تولي الجنرال الاضحوكة عبد الرحيم محمد حسين الذي تمدد التمرد في زمنه حتي صار يلقب باللمبي في اشارة الي الممثل المصري المضحك محمد سعد وسعي الجنرال قوش الي استمالة الرجل القوي قائد الدعم السريع الجنرال حميدتي وقرر الجميع الاطاحة بالبشير في اكبر مفاجاة حتي للبشير نفسه قبل ان تنقلب الولايات  المتحدة الأمريكية وتظهر العين  لقوش وتحظرو من دخول ارضيها

سعي المجلس العسكري مع اعلان الحرية والتغيير في حث الحركات المسلحة في قبول السلام  والذي اظن ان هذا الملف يحتاج الي موتمر قومي شامل يبحث جزور المشكلة بكل ابعادها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية واستصحاب تجربة حرب وسلام وانفصال الجنوب وان الامر لايعني مجرد توقيع اتفاق سياسي
من قبل شهد السودان توقيع العديد من اتفاقيات السلام الهشة  التي انهارت بسرعة لعدم البحث في جزور الازمة المتدة في اعماق  المجتمع السوداني منذ قيام دولة الفونج والي عصرنا الحالي فكان الفشل مصير اتفاقية  اديس بابا في العام  1973م مع الجنرال جوزيف لاقو مع نظام النميري

  واتفاقية الخرطوم للسلام بين نظام البشير ورياك مشار في سنة 1997م

واتفاقية فشودة مع لام كول في نفس العام

واتفاقية ابوجا مع مني اركو مناوي في سنة 2006م

كل تلك الاتفاقية انهارت بسبب عدم الجدية في تنفيذ بنودها
وكذلك نظرة بعض ابناء الشعب الي بعض السكان من الاعراق المختلفة بالنظرة الدونية والاستحقار
واستغلال الدين في الصراع بايهام البسطاء بان العناية الالهية تنص ان الحاكمية لهم فقط  وهي الموجة التي ركبها كل من اراد قيادة هذا الشعب منذ عهد الفونج ومرور بكل السلطنات واصحاب البيوت الدنية كل منهم يدعي الانتساب الي الدوحة النبوية الشريفة  وهم في شقاق ولا شي يجمع بينهم الا المصالح

علي النظام الجديد القادم في السودان الاهتمام برتق النسيج الاجتماعي وسن القوانين التي تراعي حقوق الانسان وعدم السماح بتهميش الغير وردع كل من  يسعي لبث الفتن القبلية والطعن في الاعراق والحط من قدر الغير وتشجيع منظمات المجتمع المدني لحماية حقوق الضعفاء وجعل الصحافة حرة تفضح كل عنصري يريد تمزيق  الوطن وتمكين القضاء للعمل  بشكل مستقل
اذا اتبعت الحكومة القادمة ذلك المسلك سوف نشهد انتهاء الصرعات المسلحة فنحن الدولة الوحيدة في افريقيا التي لاتزال تحمل في جوفها بزور التمرد  بسبب سياسة التهميش الاجتماعي.

علاء الدين محمد ابكر
[email protected]

‫2 تعليقات

  1. هذه محاضرة قيمة
    سرد متماسك ورؤية واضحة لحل مشكلة مزمنة و
    وموجعة عبر اجيال من الحياة السودانية

  2. رغم ان المقال ليست به معلومات جديدة لكن الطريقة المرتبة التي كتب بها تدعو للاعجاب واذا ما تم اضافة المزيد من التفاصيل مثل تاريخ الاتفاقيات مثلا يمكن ان يصبح مقالة جاهزة لمن يريد قراءة سريعة ومختصرة لسرد الازمة
    اما بخصوص الرسالة فبالتاكيد موضوع مهم للغاية ونتفق مع الكاتب فيما دعا اليه في الفقرة التالية

    علي النظام الجديد القادم في السودان الاهتمام برتق النسيج الاجتماعي وسن القوانين التي تراعي حقوق الانسان وعدم السماح بتهميش الغير وردع كل من يسعي لبث الفتن القبلية والطعن في الاعراق والحط من قدر الغير وتشجيع منظمات المجتمع المدني لحماية حقوق الضعفاء وجعل الصحافة حرة تفضح كل عنصري يريد تمزيق الوطن وتمكين القضاء للعمل بشكل مستقل

    رغم اننا راينا الكثير من البشريات في هذه الثورة وخصوصا من الاجيال الجديدة ( الجيل الحالي وجد فرصة اكبر للاختلاط في المدارس والجامعات في مختلف انحاء السودان) التي التحمت مع بعضها البعض دون النظر للفروقات الاثنية ولمع فيها نجوم من مختلف انحاء السودان الا انه يجب عدم التوقف والاستكانة ويا ليت يتم استثمار الزخم الموجود حاليا في الدفع بالقضية للواجهة مثل تسيير موكب ضد العنصرية مثلا
    كذلك مع استقرار الامن ووقف الحروب سيحدث استقرار وتنمية في مختلف بقاع السودان تقلل من الفروقات الاجتماعية والمادية بشكل كبير(والتي كانت من العوامل المساعدة لبقاء الازمة) مما يساهم في جعل مسالة العرق والقبلية امور غير ذات اهمية في المستقبل
    نسال الله التوفيق والسداد لبناء مستقبل ووطن للابناء يسوده الامن والعدالة وشكرا لكاتب للمقال

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..