مجرد ملاحظات لا غير

من يكن خارج الدائرة يستطيع رؤية الصورة بوضوح أكثر ممن هم بداخلها. لذلك عندما يصل القادم إلى أرض الوطن تقع عينه على أمور قد لا يلتفت إليها غيره من الناس. وبصراحة مما لفت نظري شخصياً الكآبة التي تخيم على صالة القدوم في مطار الخرطوم، بوابة السودان الأولى نحو العالم، فهنالك إهمال واضح للمرافق العامة والنظافة والإضاءة، وكل ذلك لا أجد له مبرراً واضحاً سوى سوء الإدارة! ولا أود بالطبع أن أتحدث عن أكوام القمامة التي تغطي مساحات واسعة من شوارع الخرطوم وبحري وأم درمان فهذا أمر بات معلوماً بالضرورة من واقع الحال الذي لا يسر مواطن غيور على عاصمة بلاده. وبحمد الله فقد وعد السيد الوالي الفريق ركن عبد الرحيم محمد حسين “بتنفيذ برنامج إعادة هيكلة مشروع النظافة” ولكن هذه العبارة يكتنفها شيء من الغموض المخل؛ لإن بعض الأمور ومنها النظافة لا تحتمل التأخير لأنها تنطوي على انعكاسات صحية وبيئية خطيرة للغاية! فيا ليت أن حكومة الولاية جعلت النظافة إحدى أولوياتها التي لا تحتمل التأخير أبداً. شيء آخر لفت انتباهي في شوارع العاصمة المثلثة إعلانات مثل ” وكالة المهندس أبو فلان للتقديم للوتري… قدم وجرب حظك قد تكون من المحظوظين” وهي في مجملها تدعو الشباب دون تمييز للتقديم للوتري الأمريكي وكأني بها تقول لعملائها نحن نقدم لكم الفرص الذهبية للخروج من جحيم السودان إلى جنة العم سام، فهل تلك الوكالات التي تمارس “المخاتلة” وتدغدغ مشاعر الشباب وتثير طموحاتهم للحصول على مستقبل أفضل، لم تسمع قول الشاعر واللحن الخالد:
أنا أفريقي أنا سوداني
بلد النور والعزة مكاني
أنا بلدي… بلد الخير والطيبة
أرضه خزاين… فيها جناين
ومع أن الهجرة حق يكفله الدستور لكل مواطن، إلا أن إغراء فئات الشباب بالهجرة، وخاصة إلى أمريكا فيه وجهة نظر؛ لأنه مدعاة لإثارة كثير من الشكوك والمخاوف، واضعين في الاعتبار ما يعانيه المهاجر إلى تلك البلاد من تغريب وانفصام ومعاناة في كثير من الأحوال. مقابل هذه الإعلانات المضللة هنالك أيضاً لافتات كبيرة تنتشر في بعض الشوارع الرئيسة وهي تحمل صورة الرئيس البشير وقد كتب عليها عبارة: ” حوارنا اكتمل…هيا إلى العمل”. هذه دعوة جميلة بيد أنها تتناقض مع الواقع تماماً؛ فشوارع الخرطوم، وغيرها من المدن، تعج بشباب (مواطنون وأجانب) يمارسون أعمالاً هامشية لا فائدة منها، مع العلم أننا الآن في وقت الحصاد، والموسم، في كل المواقع، يبشر بخير وفير يحتاج إيدي عملة، فلماذا لم تتخذ الدولة إجراءات أو تقدم حوافز حتى يخرج الشباب للعمل في الحقول مثلما حدث أيام حكومة عبود عندما تداعى كل الشعب السوداني، نساءً ورجالاً، لحصاد القطن في مشروع الجزيرة الذي يكاد يضيع من بين أيدينا الآن ويخرج من دائرة الإنتاج والمساهمة في الاقتصاد الوطني! وهذا إن دل على شيء إنما يدل على سوء الإدارة والتقدير؛ فالشعارات واللافتات مثل تلك التي نراها لا تعمر بلداً ولا تزيد الإنتاج، والمطلوب هو خطط مدروسة تحفز المنتجين وتدفع العاطلين إلى العمل وتوجد أسواقاً وأسعاراً مشجعة للمنتجات والمحاصيل التي يبشر بها هذا الموسم. حسب رأي المتواضع، خاصة في هذه المرحلة الحرجة اقتصادياً واجتماعياً، التي يمر بها السودان، نحن لسنا بحاجة لهذا الجيش الجرار من السياسيين والدستوريين الذين يشغلون الساحة الإعلامية بالوعود والشعارات الرنانة، بقدر ما نحن بحاجة لإدارات ومخططين ومراكز بحوث مختصة في الإنتاج والتوزيع والتسويق وما يرتبط بذلك من أنشطة كالتعبئة والتغليف والتجهيز والحفظ والتخزين والنقل والترويج لتلك المنتجات المتميزة والوفيرة إذا كنا بالفعل نريد الخروج من دائرة الفقر والعوذ والحاجة إلى المؤسسات المالية العالمية التي لم تعد تقدم شيئاً يذكر لدعم اقتصادنا المتهالك؛ ولا أرى في عيوب الناس شيئاً كنقص القادرين على التمام. نحن نمتلك موارد ومصادر مهولة من أرض واسعة وماء نمير ووفير ومناخات متعددة وأيدي عاملة تحتاج لقدر من التدريب والتطوير والتحفيز من قبل الجهات المعنية بهذه الملفات الحيوية! ذكر أحد المهتمين بهذا الشأن أن البنوك العالمة في مدينة الأبيض لوحدها لديها ودائع تفوق ثلاثة تريليون جنيه (لا أدري كيف يحسب هذا المبلغ) فلماذا لا تدخل هذه البنوك وغيرها من المؤسسات والشركات المالية في مشاريع إنتاجية مشتركة أو شراكات، كما يقال، ذكية مع المنتجين من الكبار والصغار وبشروط “معقولة” وميسرة وفقاً لفقه المعاملات حتى يستفاد من هذه الأموال “الراكدة” في تحريك عجلة الإنتاج؟ أعتقد أن الحكومة ما كانت لتحتاج لإجراءات اقتصادية قد ترهق كاهل المواطن وتضاعف عليه أعباء المعيشة لو أنها فقط فكرت في تغيير سلوك المواطن نفسه بقليل من الدعم والتحفيز والتشجيع حتى يكون قادراً على مزيد من الإنتاج واستفادت من علاقتها الدبلوماسية مع دول الجوار خاصة في منطقة الخليج لجذب رؤوس الأموال والاستثمار فيما يعود بالنفع والفائدة المشتركة لكل الأطراف ذات الصلة. المخرج هو الإنتاج ولا شيء غيره!