الشريعة و السينما

الشريعة والسينما

خالد بابكر ابوعاقلة
[email][email protected][/email]

يستطيع الإنسان أن يعيش بلا ( دين ) أي على الفطرة .. ولكنه لا يستطيع أن يعيش بلا ( فن ) لأنه مفطور على الترقي والتطور .. ومجبول على الحركة والتفكير .. وفي أعماق روحه رغبة عميقة للسعادة والتذوق .. وتتسع تلك الرغبة الطبيعية لتشمل إلى جانب التذوق الحسي التذوق المعنوي .. وعلى هذا التذوق المتطور بالتعليم وتراكم التجارب قامت كل المبتكرات الحسية والبصرية والسمعية في العصر الحديث .. وكما للعصر الحديث أنصار وجماهير تحبه وتقتنع بصدق مبادئه .. فله كذلك أعداء وكارهون يبغضونه ويتمنون زواله وخرابه .. ومن عتاة هؤلاء المشوهين والمحتالين الذين يجمعون المال باسم الدين أولئك الذين يحرمون كل جديد تحت شعار ( كل بدعة ضلالة ) ويقفون في وجه الانفتاح العالمي والمد البشري التقني بأدوات ( التقية ) والتربص والاستهانة .. ولكنهم وفي كل مرة يجدون أنفسهم عراة كأن على رؤوسهم الطير و في مفترق طرقاتهم البائسة وقطارات المستقبل تمر بهم دون أن يجرؤوا على القفز إليها .
من أكبر ما وقفت وعجزت أمامه الجماعات ( الإسلاموية) فكريا وأيقنت من سلطانه الواسع في أوساط الجماهير المسلمة هو ( فن) السينما ولكنهم حينما ينقلبون على السلطة في أي بلد كا فعلوا في السودان فإن أول ما يفعلونه دائما وبضغينة مشهودة وتشف فاضح هو تدمير وتخريب وإغلاق دور السينما وتفكيك وتشريد المؤسسات الراعية والمتابعة لهذا المرفق الثقافي الهام الذي يعد الأول في ربط البلد والمواطنين ببقية دول العالم ومتابعة ما يستجد من حركة وتفكير الأمم المتقدمة بوصف السينما هي وعاء أحاسيسها النفسية وبدوات تفكيرها وأحلامها الواقعية والمستقبلية وقضاياها التي تسعى لحلها .. ويشن شيوخ السلفية الآن حملة عمياء خائبة يستعملون فيها كل أسلحة القذف والتشهير والتجريح بالممثلين والممثلات في مصر ويحاولون هدم هذا المرفق من أجل تغيير الوعي بوعي القرون الأولى وضرب العزلة على العقول والظلام بعد أن ( تنورت ) حتى يساعدهم ذلك في النهب والتنكيل مع أنه مرفق تديره الدولة (مؤسسة الدولة للسينما ) ويمكن لها حسب منظورها أن توجهه بالأفلام التي تنتقيها وتسمح بعرضها ولكنها رغبة الدمار والخراب في نفوسهم المريضة العاجزة عن التقدم والاختيار .
عندما يحرمون ( السينما ) لا يريدون أن يفهموا أن التصوير السينمائي لا علاقة له بفن التصوير القديم بوصفه تصوير لأشياء ساكنة فضلا عن أنها أشياء دينية تجسيدية لا يمت بصلة قربى للسينما المتحركة المليئة بالدراما و ( الاكشن ) والمفاهيم في عالم اليوم ثم أنهم يختارون من كل فن السينما الذي ارتبط بالقرن العشرين صور النساء من كل ما قام به من إنجازات وطفرات منذ اختراعه وتطويره ليكون الأداة الأولى في عالم الثقافة التي تستوعب كل الحوارات والروايات والخيالات البشرية قديمها وحديثها فيقولون ” إن التصوير لذوات ( الأرواح ) أي الكائنات الحية محرم ” ويوردون في ذلك أدلتهم الأبدية أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما دخل الكعبة حطم ما فيها من
( صور ) أي أنه لم يحطم ( أفلاما ) صنعت في هوليود أو بوليود أو في استديوهات القاهرة .. ولم يقولوا لنا هل كان بين تلك ( الصور ) صور ل ( نادية الجندي ) أو ( محمود ياسين ) .. كانت تلك الصور هي أيقونات المسيحية وأوثان القبائل العربية وأصنام التجار الوافدين في طريق مكة التي وضعت في ( الكعبة ) لجذب الأمم إليها كما وضعت في غيرها من منازل و ( كعبات ) الآلهة كبيت (ذي الخلصة ) التي أرادت بعض القبائل العربية التجارية أن تجعله قبلة ومثابة للناس وأمنا لتجار اليمن والشام .. لم تكن الصور بذلك ( فنا ) وإنما ( دينا ) ولم تكن ( ثقافة ) وإنما (عقيدة ) وكان النحاتون والمصورون في درجة القساوسة والرهبان يحتذون في ذلك عقائد الرومان والإغريق في صنع وتقديس الأوثان والأصنام .. وكانت العرب تحمل أصنامها معها على ظهور الإبل في الرحلات الطويلة ويضعونها في بيوتهم من اجل الحماية والحفظ .. أو يقولون إنه _ صلى الله عليه وسلم _ أبى دخول عائشة من أجل ( نمرقة ) فيها بعض التصاوير أو امتنع عن دخول بيت علي بن أبي طالب لما فيه من ( مصورات ) وكل أولئك من عرب القرن السابع كما يعرف ( شيوخ الظلام) خرجوا من العتمة الى النور ومن عبادة الآلهة ( المصورة ) المجسدة إلى عبادة الواحد الاحد المنزه عن الشبيه والمثيل برغم ( استوائه على العرش ) وبرغم صفاته البشرية في ( كل شئ هالك الا وجهه ) .. فإذا إقتنعنا بهذه التصاوير الجامدة المعلقة المقدسة التي ظلوا لها عاكفين دون أن نعبدها مثلهم لأننا وجدنا أباءنا يسخرون منها فما علاقة ذلك بتصاوير متحركة لها أصوات وزئير وبكاء وغناء كأنها جن من أمثال فيلم ( من أجل أبنائي ) الذي يصور بعض المكافحين في قرى الهند الفقيرة .. او فيلم (الجذور ) لألكس هيلي الذي يصور قنص العبيد ونقلهم من شواطئ غرب إفريقيا إلى مزارع القطن في أمريكا أو فيلم ( ذهب مع الريح ) الذي أيقظ الأذهان لمآسي العبودية فأشعل الحرب الأمريكية بين الشمال والجنوب أو فيلم ( الهروب من الجحيم ) الذي حكى قصة شاب أودع السجن ظلما في جزيرة بعيدة وتعرض للتعذيب والمهانة وظل يحلم بالحرية ويحاول الهروب باستمرار ولكنه يعتقل في كل مرة وظل إلى أن بلغ الثمانين من العمر يحلم بأن يذهب إلى مدينته وأصدقائه وكان بين أمرين أن يترك حلمه ومحاولاته من أجل الحرية لأن العمر لم يبق فيه شيء أو يحاول مرة أخرى ولكنه فضل الحرية وصنع طوفا خلسة من الحراس وفي ليلة قفز فوق الطوف ورقد فوقه ينظر إلى السماء وسط تصفيق الجمهور الحار المذهول بجسارته وتمسكه بقيمة أبدية لا علاقة لها بالعمر أو الزمن أو متع الحياة .
من جلباب عبد الحميد كشك رحمه الله خرج كل التطرف والعنف ونقد الحضارة الحديثة ومطاردة الفنون من مسرح وسينما وموسيقى فهو الذي كان يصيح في المساجد ” يا نور الشريف لا نور ولا شرف ” أو كان يصيح قائلا عن أم كلثوم ” عكوز في الستين بتؤول اروح ل مين .. ح تروحي على فين يعني ؟ على جهنم ” ذلك الرجل الذي حاز على جماهيرية واسعة وصارت محاضراته وندواته مسرحا آخر للعبث يرتاده الباحثون عن ( فن ) السخرية والضحك والغمز واللمز صار بارعا ليس في شرح الدين أو الفتوى التي تصدى لها ( الله ) نفسه في قوله ( ويستفتونك قل الله يفتيكم ) بل انحرف إلى نقد الممثلين السينمائيين والمسرحيين وهم لا شأن لهم بما هو ديني أو مقدس إلا نصا في فيلم لا يتجاوزون فكرته وإخراجه وحواره ولا يدعمون جماعة تدعوا بفكرة ما أو منهجا بعينه لأن الممثل ليس مفكرا والفيلم ليس بمنشور دعائي أو( منفستو ) .. وهم يشنون هذه الحملات المريضة المغرضة لأنهم قد حققوا أكبر معدلات الفشل منذ منظرهم الأول ( حسن البنا ) في إقامة ما يسمونه ( سينما إسلامية ) بعد أن تقرب ذاك المنظر بخبث مدبر وصادق ممثلين مصريين برزوا كعمالقة لهذا الفن في القرن العشرين و كان يحضر بروفاتهم المسرحية من أمثال عمر الشريف ومحمود المليجي وزكي طليمات وأمينة رزق وفاطمة رشدي … الخ الذين سلكوا طريقا مغايرا لما أراده وهو طريق الفن كحرية وإبداع وإنسانية وجماهيرية وليس طوائف دينية وتنظيميةصغيرة ذات فكر محدود يحقق مصالح لها وفكر مغلق لا يمكن أن يقتنع به الجميع .. ولقد حاول ظلاميون اخرون في السودان أيام الجبهة الإسلامية في طرق مجالات بعض الفنون على إستحياء بإسم الفن الملتزم فاسسوا جماعات نمارق وغيرها للموسيقى ولكنها إنهارت سريعا وتبدد الحواة الغافلون عن دنيا ( زرياب ومعبد ) لأن الجماعات المكونة لها لا تحس بوجد الفنون كتبشير بالحياة النظيفة السامية وكباعث على التسامي والتسامح والإخوة فما هي إلا هنيهة حتى انخرطوا بنشاط مع جماعات النهب (المصلح ) من المضطربين ذهنيا وعاطفيا ومصاصي الدماء والقتلة باسم ( المشروع الحضاري ) وهو مشروع بلا ثقافة ولا كتب ولا مسرح ولا سينما ولا إيقاع ولا رواية إلا ما يسقط عفوا وسهوا أثناء هرولتهم المضطربة من سقط وهزيل المتاع .. وآخر ما وصلوا إليه في محاربة السينما والفنون البصرية التي تخيفهم هو توجيه غثاء حرابهم إلى النساء من ( الفنانات ) .. فاتهم الشيخ السلفي عبد الله بدر الممثلة الهام شاهين بالزنا وقال لها ” كم واحد ( اعتلاكي ) في أفلامك ” وقال إنها لن تدخل الجنة بل لن تجد (حتى ) ريحها .. ولم يكتفوا بذلك بل شككوا في المشاهدات و المتفرجات وأنهن أصل الداء ومنبع البلاء في فن السينما لأنهن شديدات التأثر والانفعال وأنهن ناقصات ( عقل ) و ( دين ) و (مروءة) فينجرفن وراء المشاهد والمناظر التي تصور غرام ( قيس ) و ( ليلي ) فيقلدن ذلك الهيام و ( الفسق ) لضعفهن البنيوي والعاطفي وقوة شهوتهن وتوترهن الجنسي خاصة وأن مصممي الأفلام يضعون تلك المناظر في أجواء شديدة الرومانسية ويختارون لها من الرجال من هو كثير الفحولة والجاذبية لعقول النساء والفتيات .. وكما تطارد ( الشريعة ) المرأة في حريتها وحقوقها ودورها الطبيعي في الحياة و المجتمع وتعتبرها وصمة بعد أن أخلت سبيلها من الوأد بالامس يطارد شيوخ السلفية المرأة في مشاعرها وانفعالاتها ويتسللون الى مخدعها واختياراتها ويتعقبونها في دور السينما والمسرح ويفتشون في قلبها وأحاسيسها ? إنها الرقيق الآبق منهم _
إن أزمتهم العميقة مع ( السينما ) تنبع أصلا من أنها تصور ( الخير ) و ( الشر ) أو أنها تصور امرأة تلبس (الحجاب) وأخرى (سافرة) أو امرأة ( تحب ) وأخرى ( تكره ) أو تصور رجلا ( يقتل ) وآخر ( يحي ) وهم كدعاة يريدون أن يقولوا دون زيادة أو نقصان هذا جيد وهذا رديء ولكن السينما بمؤثراتها وطريقتها في العرض والسرد تقول هذا جيد وهذا جيد وتترك لك كامل الحرية في معرفة الصواب من الخطأ متجاوزة منطق اولئك الدعاة الصغار الى منطق حرية الفكر والضمير تبعا للمتغيرات والاختيارات ومنطق ( وهديناه النجدين ) فإن قدمت السينما الحلول فبها وإن لم تقدم فليس ذلك من عملها وإنما عليها أن تحث المتفرجين على الإحساس وعلى إيجاد الحلول وأن تضعهم ليس أمام المشكلة وإنما في ( لبها ) وقلبها فكم رأينا من يبكون في ( الافلام ) ومن يهللون ويكبرون ومن يقولون ” إن المخرج بليد ” .. وأكبر أزمتهم مع فن السينما ومع كل فني بصري هي أنها تجسيدية وهم يخشون من تجسيد ( الصحابة ) ويخشون أكثر من تجسيد الرسول صلى الله عليه وسلم كأنه إله و ليس ببشر وكأنه لا يأكل أو يمشي في الأسواق وكأنه لا يموت كما يموت الناس أو يقتل أو يتزوج أو يلد .. وعاش هؤلاء الفقهاء المساكين سنين عددا وهم يحرمون يحذرون صناع السينما من ( التجسيد ) حينما رأوا الاوربيين يجسدون السيد ( المسيح ) في أفلام أقل ما يقال عنها إنها عظيمة وبلغت بالمسيح شأوا خياليا وواقعيا ربما لم تبلغه القصص المدونة في الإنجيل نفسه وجعلت من دور السينما كنائس جديدة ودورا للهداية والوعظ وجعلت المتفرجين البائسين روحيا يمدون أيديهم ليسوع الناصري كي يشفيهم هم أيضا من أمراضهم وهم يصيحون ” أبانا الذي في السموات .. ليتقدس أسمك .. ليأت ملكوتك .. لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض . ”
أما تجسيد الرسول صلى الله عليه وسلم فقد افتتحته إيران في فيلم من ثلاثة اجزاء أنتج حديثا يصوره كبشر ويجسده أمام الانظار وليس كصوت كما رأيناه في فيلم (الرسالة) أما تصوير الصحابة وآل البيت فقد افتتحه فيلم ( عبده موتة ) الذي تعقبه شيوخ الأزهر وحذفوا منه بعض الاجزاء .
هذه المواقف السلفية المغلقة من السينما ومن فنون العصر الحديث التي ازدهرت من فوائض إنتاج الآلات والمكينات وتوفر المعلومات وإزدياد سيطرة الإنسان على الطبيعة والأشياء وتوسع التخصص في الفنون كضرورة إقتصادية تبرهن بما لا يدع مجالا للشك أنهم لا يريدون أن يكونوا جزءا من المجتمع بل يريدون أن يكونوا كل المجتمع وليس جزءا من سلطة الجماعة المتعاونة وإنما كل الجماعة بشكل أو آخر .. هذه المواقف كلها تبدو منطلقة من طبيعة تكوينهم الإستبدادي وليس من موقف ( فكري ) أو ( ديني ) لأنهم لابد قد سمعوا أو قرؤوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأبي موسى الأشعري عندما أعجبه جمال صوته ” لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داؤود ” ولكن الفقهاء وأرباب الشرائع سلكوا دربا آخر غير الدرب الطبيعي الذي بدأ في سوق عكاظ الذي كان سوقا للموسيقى قبل أن يكون سوقا للشعر والمعلقات وأعتبرت الحجاز منبع الموسيقى قبل أن يأتي فقهاء الشريعة بدرب جديد حرموا فيه الغناء قبل أن يهل عصر السينما والموسيقى التصويرية فقال الامام مالك ” اذا اشترى الرجل جارية فوجدها مغنية كان له أن يردها بالعيب ” هذا في ( الجارية ) فما بالك في الحرة) حيث إعتبر موهبة الغناء عيبا كالكسل والمرض والسرقة والقبح كما أن الإمام أبا حنيفة نهى عنه نهيا مشددا لأنه كان يكره الغناء ويعاف الموسيقى ويتقزز من الطرب ولذلك لم يجعله مكروها بل جعله من ( الذنوب ) وتجرأ صاحبه الإمام ابو يوسف قليلا متجها إلى العنف الذي نعاني منه اليوم فقال ” الدار التي يسمع منها صوت المعازف و ( الملاهي ) يجوز دخولها بغير إذن . لأن النهي عن المنكر فرض ” ولذلك تجرأ أيضا ناس النظام العام فاقتحموا البيوت وقتلوا النساء .. ولكن العصور ذهبت على غير ما يشتهي ( الفقه ) فشهدت الموسيقى والاغاني تطورا بين المسلمين فكتب الفارابي كتاب ( الموسيقى الكبير ) وكتب الأصبهاني كتاب ( الأغاني ) وكتب الكندي ( رسالة في اللحون ) وتحولت الموسيقى التي كانت ( ذنبا ) و ( منكرا ) الى علم .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..