من أوراق الزمن الجميل..علي المك : ليس في سيرتي ما يخجل

أمدرمان تسائل
كل بيوت الطين
وكل سقوف السعف المائل
والنخلات ورمل الدرب
سوق الناقة والدافوري
والبوابة والعصارة
صوت كرومة
……
الخرطوم يقين حديثك
حين يجلجل صوت الشك
الآداب .. الإبن البار ..
وفلذة كبدك .. دار النشر
القاعات تردد صوتك
……..
” شعر : حسن عثمان الحسن ”

بعد أن أنتقل البروفيسور علي المك الي منازل أساتذة جامعة الخرطوم في بري , يتحرك في كل يوم الصباح الباكر إلي أمدرمان ليشرب القهوة هناك , ثم يعود الي العمل في جامعة الخرطوم ، الي هذا الحد كان لا يقوي علي الابتعاد عنها .. ، يقول : ” ولدت في مدينة امدرمان عام 1937م .. ، عشقي لهذه المدينة .. لأن كل زقاق فيها يرتمي في أحضان الآخر .. والظلال فيها تذوب في الظلال …. ، جل بسطاءها يعرفون منهاج الحياة فيها .. وإيقاعها ويتحابون ويتخاصمون .. وكالعادة لا يعلنون الحب .
.. أكثر ما يميزه قميصه الابيض الخفيف ذو الياقة القصيرة .. وصوته ” الباص ” .. تلقاه في مدخل الجامعة عند دار النشر .. أو في حديقتها وهو مؤسسها ..يجلس علي كرسي القماش وحوله ثلة من الصحاب , وهو كدأب أهل أمدرمان يعشقون الونسه .. ، لا تلقاه وحده .. ، أو هو في سيارته وبجانبه الفنان الراحل عبد العزيز محمد داؤد .. في بحري .. أو في المنطقة الصناعية بالخرطوم .. وقد التف حولهما العمال .. بملابسهم المعطونة بالزيوت وعرق الكفاح .. ، وقد وجدا مسرحهما في إسعاد الناس .. ، وهو رئيس قسم الترجمة بجامعة الخرطوم .. ، الاستاذ غير التقليدي .. والمهتم بالمبرزين والمبدعين .. ، وحينما كان رئيسا لمؤسسة الدولة للسينما سعد جيلنا بمشاهدة الافلام العالمية الراقية .. في ذات التوقيت الذي تعرض في هوليود.. وكان .. وروما .. والقاهرة ، فشاهدنا ونحن في مطالع الشباب .. ما يمكن ان يطلق عليه اليوم ” أمهات الافلام ” .. زد ..وزوربا اليوناني وغيرهما الكثير .. ، ومضي أكثر في مجال السينما ليشارك صديقه الفنان التشكيلي والسينمائي حسين شريف في وضع سيناريو فيلم ” إنتزاع الكهرمان ” ليشرك صديقه أبوداؤد .. وهو فيلم تسجيلي عن سواكن .. قبل ان يكتسحها الاهمال والنسيان .. ّ!
كل هذا وأكثر علي المك فهو الحجة في أغنية الحقيبة .. ، وهو محقق ديوان خليل فرح الصادر عن دار النشر، وكتب كتيب : ” عبد العزيز داؤد ” .. وهو الشاعر والقاص الذي كتب : ” الصعود الي أسفل المدينة ” وهو مجموعة قصصية الصادر عن الدار القومية العربية للثقافة والنشر بالقاهرة ، وكتاب آخر هو قصيدة نثرية مطولة بعنوان : ” مدينة من تراب ” عن حبيبته امدرمان ..، وهو في المساء إما ان يكون احد نجوم جلسات الخرطوم وامدرمان وبحري العامرة بالسهر .. ، أو هو مع حمدي بدرالدين في التلفزيون والسهرة ذات الشعبية الاكبر : ” فرسان في الميدان ” .. أو في الاذاعة .. انه المثقف الحقيقي الموصول بالناس .. ، ومن عجب ان كتب البعض نقلا عن سرادق عزاءه .. ، ان بسطاء الناس من العتالة والباعة في اسواق امدرمان جاءاوا يحملون ” كشف المواجبه ” ففوجئوا في العزاء بقيادات الدولة ونجوم المجتمع .. ، فقالوا لم نكن نعرف انه استاذ في الجامعة وشخصية كبيرة .. ّ!
وفي مجال الصحافة الثقافية شارك الاديب الكبير يوسف عايدابي في أصدار الملحق الثقافي لجريدة الصحافة ، في الوقت الذي كانت الدكتاتورية الثانية تطبق علي البلاد ولم يحفلوا به كثيرا .. أوقفوه بعد ان أعد قصيدة ” نحن والردي ” لصديقه وصفيه صلاح احمد ابراهيم الذي كان معارضا ويقيم بفرنسا .. يقول بلغته الساخره : ” أدوني حسابي ” .
ويصفه أحد أساتذة الموسيقي بإنه من قلة أهتمت بالموسيقي الكلاسيكية العالمية منذ الستينات .. ، وكان يشرك قراء الصحف بمقالاته فيما يستمع من موسيقي العالم : متنقلا بين بيتهوفن .. ، وموزارت .. ، وباخ .. وشوبان .. ، فضلا عن خبرته في موسيقي الجاز والاسباب التاريخية التي جعلتها تنتقل من الجنوب الامريكي حيث نيواورلياند الي الشمال في نيويورك أو شبكاغو ..
ثم عاد ليصدر الملحق الثقافي للأيام مع صديقي الصحفي الراحل خلف الله حسن فضل إبان الديمقراطية الثالثة وتوقف الملحق مع منع الصحف من الصدور بعد انقلاب الجبهة الاسلامية 1989م .
بعد كل هذا العطاء الذي يفوق طاقة الانسان المحدوده ، خرج علينا علي المك بعد الانتفاضة عام 1985م وهو يسجل أول نادرة في تاريخ المثقفين حينما قدم نقدا ذاتيا .. ، وهو يتساءل : ” أين كنت أنا حينما كان الناس في السجون وزنازين أمن الدولة ؟ .. ، يا الهي .. ، كم هو محب لهذا البلد .. ،
كما هو معلوم كان إهتمامه بالهنود الحمر جزءا من رساته العلمية والادبية في حياته .. ، فقد عرف الطريق الي مواقعهم في بعض مناطق الولايات المتحدة خاصة في الجنوب الاميريكي .. ، وكانت آخر رحلته حيث وافته المنية في نيو ميكسيكو .. ، حيث ذهب ليستكمل ترجمته لأدب الهنود الحمر ، فلا أقل لتلاميذه وزملاءه في وحدة الترجمة في جامعة الخرطوم .,. من وفاء لهذا الرمز أن يستكملوا مشروعه الذي بدأه .. ، وبالأمكان ان يتولي أحد الاساتذة ” خاصة من المقيمين في الولايات المتحدة ” ويقوم بالأشراف علي فريق للترجمة .. ، وهذا أقل ما يفعلة محبوه ..
في رسائله التي بعث بها لأصدقاءه من نيوميكسو : نقتطف جانبا من رسالة لصديقه الدكتور أمين مكي مدني والتي نشرها الصديق الزميل معاوية جمال الدين بجريدة الخرطوم يقول فيها : ” كنت محتاجا لنفس الصيف الابوركيكي لأكتب .. ، ألهمني الجو الكستنائي والمشيات الخفيفات مقالات بعثت بها لصحيفة الحياة * .. ، لعلهم بدأوا في نشرها .. ، جئت لأن بي حاجة لهذا ، رغما عن انني أسكن فيما يشبه الميزات في مدني أو بيوت العزابه في الخرطوم ثلاثة حيث أقيم الآن ..لا أعلم إن كنت أريد “Abstraction ” العيش هنا أم غير ذلك .. ، ولم أقطع برأي .. ، إلا إذا أختفت من حياتي صورة المدينة ” يعني أمدرمان ” .. في الذهن هي .. شيء من التجريد
كلها تصب في عهود الصبا ومنها . .. ، كلما نأيت .. قربت .. كلما نزحت .. جاءت .. وأنا حين أكون فيها أكون مشهورا جدا .. بلا فائدة .. أو مغنم .. ّ!
وأحيا علي كفاف يكاد بؤسا .. ، وحبي للموسيقي والكتب يكلفني شططا .. ” ..
* .. يتضح جليا ان الروفيسور علي المك كان يفكر في الهجرة .. كما ورد في هذا الجزء من الرسالة .. ، ولكن حبه لأمدرمان جعله يتمزق .. ، وفي أسباب تفكيره للهجره .. أكثر من سبب .. ، فقد ظل أمن نظام الجبهة يلاحقة قبيل سفره .. ، حيث يتم إستدعاءه ويتم التحقيق معه بأسليبهم المعهوده في ان يظل المواطنين في أقفبيتهم لساعات طوال قبل ان يخضعوا للتحقيق .. أو هي الاهانات .. والبذاءات التي يواجهونهم بها .. ، وفي أحد الايام بعد ان طال إنتظاره طلب منهم ان يسمحوا له بأن يتصل بالمنزل ليحضروا له أدويته الخاصة .. ، فقال له المحقق : ” نحن عاوزين الزيكم ديل يموتو ” .. ّ!
وكان هذا وقعه عليه قاسيا .. وهو يحكي لأصدقاءه وزملاءه .. إذ لم يكن يتوقع ان يجابه بمثل هذا القول وهذه المعاملة وهو الذي أحب الناس وأعطاهم جل حياته .. ، خلافا للكثيرين من المثقفين الذين يسكنون في ابراج عاجية ويتعالون حتي علي أجهزة الاعلام .. ، وتلك كانت أيام سوداء في تاريخ البلاد ” العشرة الاوائل من زعامة الترابي للنظام ” حيث تعرض أساتذة الجامعة للإعتقال والتعذيب والفصل ، أعتقل الدكتور علي عبد الله عباس نقيب الاساتذه وتعرض للتعذيب وكذلك د. فاروق محمد ابراهيم ود. كامل ابراهيم ود. زين العابدين .. وفصل كل من د . عبد الله بولا ود . الواثق كمير و د. زينب بشير البكري ود. مروان حامد .. وغيرهم العشرات من أساتذة الجامعة ..، كانت أجواء خانقة .. وحشود من الامن تملأ أرجاءها .. وتفتش في حقائب الطالبات والطلاب .. في مناظر جد مؤلمة ان تتحول الجامعة المنارة لثكنة من ثكنات الامن .. وهي التي فرخت هذا التنظيم الدموي ..
في واحدة من أروع قصائده لصفيه وصديقة بعد رحيلة ” 11 أكتوبر 1992″ يقول الشاعروالكاتب الكبيرالراحل* صلاح أحمد ابراهيم في آخر قصائده التي وعده فيها باللحاق به ، وقد كان .. يقول فيها :
” .. ألا وكل أمريء أجل
ثابت وكتاب
فإما حياة مهذبة تستحق
سمت وأمتلت كالسحاب
وأما طماعية ومدافعة
حلقة كلهاث الدواب
فما أسهل الاختيار
وما أصعب الاختيار
فنم هانئا يا أخا ثقتي
فزت في الاختيار
والسلام عليك أخا رحلتي
السلام عليك وراء الحجاب
وشهيتي في المنية
سيفي يهفو إلي ضجعة
في القراب
السلام عليك فما لي غير عصا
وعليها جراب
السلام عليك علي
السلام علي صديق الجميع
السلام علي حبيب الجميع
السلام علي أثير الجميع
السلام عليك علي .
————————————————
* هذه المقالات : شيكاغو وأخواتها , الطريق علي سنتيافي ،
علي مشارف البوركيكي ،وغيرها نشرت في صحيفة الحياة
. اللندنية في أغسطس 1992
——————————————————-
. ” من أوراق الومن الجميل ” سلسلة مقالات تصدر في
. كتاب تحت الطبع .
[email][email protected][/email] ——————————————

تعليق واحد

  1. علي المك صفحة ناصعة في سفر الأدب و الثقافة في بلادي…لا عجب إن تطاولت عليك الأقزام فقد أرهفتهم في سمتك عن المقارعة و المجاراة…تبا لوطن لا يكرم أمثالك..أما من أدموا فؤادك و جعلوا القرح يمسك فقد أدموا افئدتنا بعدك بلا هوادة…رحمك الله أيها الهرم و الخزي و العار لجلادي الشرفاء.

  2. كلام كسلاسل الذهب

    لا فض فوك أخي إبراهيم … وأنت تكتب أيضا ….

    “تعرض أساتذة الجامعة للإعتقال والتعذيب والفصل ، أعتقل الدكتور علي عبد الله عباس نقيب الاساتذه وتعرض للتعذيب وكذلك د. فاروق محمد ابراهيم ود. كامل ابراهيم ود. زين العابدين .. وفصل كل من د . عبد الله بولا ود . الواثق كمير و د. زينب بشير البكري ود. مروان حامد .. وغيرهم العشرات من أساتذة الجامعة ..، كانت أجواء خانقة .. وحشود من الامن تملأ أرجاءها .. وتفتش في حقائب الطالبات والطلاب .. في مناظر جد مؤلمة ان تتحول الجامعة المنارة لثكنة من ثكنات الامن .. وهي التي فرخت هذا التنظيم الدموي .. ”

    ولكن ربما أختلف معك في أمر صغير وهو أن عبارة :”” نحن عاوزين الزيكم ديل يموتو ” التي

    قالها المحقق

    السفيه لعلي المك يمكن أن تكون بالغة التأثير إلى هذا الحد في نفسية أستاذنا علي المك ….

    فأحداث التعذيب والإساءات في بيوت الأشباح التي أسسها ضار علي ضار كانت على قفا من يشيل …

    وعلي المك بصلابته وتاريخه الطويل مع زبانية القهر لايمكن أن تهزه عبارة قالها أحد كلاب ضارع.

    ضار …

    وربما كان الراحل يستدل بها للتدليل على طبيعة هؤلاء الطغاة الجدد … أكثر من أن يحكي بها عن

    مأساته معهم … وهذي هي طريقته في السرد … يقول شيئا .. ويعني شيئا آخر ..

    يتبقى أمر مهم : الكتاب المرتقب ” من أوراق الزمن الجميل ” حيطلع من ياتو دار نشر .. ومتى؟؟!!

    حاشية :

    ننتظر باقي مقالاتك هنا بشغف … فأنت بي جاي .. ود. لمياء شمت بهناك أديتونا وجبة أدبية /

    فكرية كاملة الدسم والاكتناز والوسامة … وتركتم بعض مقالات الراكوبة تسبح في مياه ضحالتها..

    وضيق أفقها .. ولغتها المتعثرة … سلمت …

  3. بمناسبة الحديث عن أستاذناالكبير علي المك :

    اتحاد الكتاب عمل شنو في موضوع الفيتوري ؟؟؟!!!!!!!!

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..