في ذكرى الإنتفاضة

في ذكرى الإنتفاضة

عمر الدقير
[email][email protected][/email]

ما بيدي أن أرفعكْ ولا بها أن أضعكْ
أنت أليـمٌ وأنـا أحملُ آلامي معكْ
وجائعٌ ومُهجتي جوَّعها من جوَّعكْ
وأنت عارٍ وأنـا ها أنذا عارٍ معـكْ
يا شعبيَ التائـه ما أضيعني وأضيعكْ

“الفيتوري”

تمضي الأيّام والسنون، وها هي الذكرى السابعة والعشرون لانتفاضة أبريل المجيدة تهلُّ علينا بينما نمضي نحن إلى حزننا وفجيعتنا. حزننا على حلمٍ تلاشى وفجيعتنا فى وطنٍ رائعٍ أشبعه الحكام ودهاقنة القرار، منذ فجر الإستقلال، وعوداً وخذلاناً وحوَّلوا أحلام شعبه في الحياة الكريمة التي يستحقها إلى أضغاث عبر متوالية خرقاء من العجز والفشل والتعامل الخامل مع كلِّ القضايا حتى المصيري منها. استمدَّ العجز والفشل شرعيتهما من التكرار والأُلفة، وكل من زودناهم وأسلمناهم الأمر أعادونا حفاةً بعد أن أضاعوا منا حتى الخُفَّين. ما يزيد على خمسة عقود من عمر الوطن المنكوب ساد فيها خليطٌ من غشاوة الرؤية وانعطاب البوصلة والجمود والركون للمصادفة والإرتهان للمصالح الفورية الصغيرة في محورٍ بئيس يأتلف تلقائياً كلما شرعت الحياة في إنتاج شروط الوجود الكريم .. يأتلف ليغتال هذه الشروط، لكنه سرعان ما يتنافر عند توزيع الكسب والغنيمة، تماماً كما حدث بعد الإستقلال وأكتوبر وأبريل، ثم يظل متمترساً خلف المأساة/الملهاة التي صنعها يوظف الصراع العبثي وأدواته لخدمة مصالحه الضيقة، لتدور الحلقة الشريرة بين ديمقراطية شكلية عرجاء وسُلطوية شُمولية بغيضة.

مَنْ مِنَّا لا يغمر الحزن قلبه وروحه وهو يعيش هذه اللحظة الهزائمية، ويستذكر تلك الأيّام الوضيئة من مارس/أبريل 1985. لم يكن حدثاً عفوياً عابراً ما وقع في تلك الأيّام، وإنما كان ثمرة تراكم نوعي وكمي للمقاومة الباسلة ضد نظام مايو. كان المشهد أُسطورياً لشعبٍ يصنع مجداً ويكتب تاريخاً و”يشرئب إلى السماء لينتقي صدر النجوم”، بعد أن امتلكت مجموعة من مؤسساته المدنية زمام المبادرة عبر تخطيطٍ وإعدادٍ مُحكمَين لتحويل الغضب الشعبي المكظوم إلى فعل سياسي مباشر في مواجهة الشرعية الزائفة والفساد والإستبداد والإحتقان السياسي والإقتصادي والحقوقي والتنمية المُعاقة والدستور القاصر والقوانين القمعية والحاكم الفرد والحزب الواحد، لتتوالى الأحداث عاصفة بشكل دراماتيكي متواتر ومنطقي في الوقت نفسه، فهي إرادة الشعب وكفى .. جموعٌ من الرجال والنساء – شيباً وشباباً – تخرج إلى الشوارع في أعدادٍ تسدُّ عين الشمس، تواجه آلة القمع بالصدور المكشوفة وقبضات الأيدي العارية وملءُ الأفواه هتافٌ نبيل يُعبِّر عن توقٍ إلى الحرية وإلى وطنٍ تسود فيه المساواة والعدالة والسلام والرخاء واحترام حقوق الإنسان وكل شروط الوجود الكريم. تتصدى الأجهزة الأمنية للثوار العزّل بالرصاص الحي والهرّاوت والعصيِّ الكهربائية والغاز المسيل للدموع. يسقط شهداء وجرحى وتضيق السجون بالمعتقلين، فيزداد الثوار عدداً وصموداً وتصميماً وتوحداً حول هدفهم، بينما أجهزة الإعلام الحكومية تختزل الحراك الجماهيري غير المسبوق في مجرد “غوغاء ومتسكعين وفلول أحزاب عقائدية يُحدثون بعض الشغب والتخريب”. وسط هذه الأجواء وفي ظلِّ المراقبة والملاحقة الأمنية، ينجح قادة التجمع النقابي في عقد إجتماعات يومية متنقلة من موقعٍ لآخر يواصلون فيها الرصد والتحليل والتنسيق ويعرضون مسودة الميثاق على ممثلي الأحزاب السياسية للإتفاق النهائي عليه ويصدرون بيانات التعبئة استعداداً لإعلان الإضراب العام والعصيان المدني، سلاح الشعب الحاسم والمجرب، وهو ما تمّ مع فوران التنور في شارع القصر صباح الثالث من أبريل لينكسر القيد وينجلي الليل وتظهر نجمة الحرية، تلك النجمة اليتيمة في مجرة الدم والدموع.

فضلاً عن إعجازيتها وعظمتها ونُبلها وبرغم الحزن الذي يغمر القلوب والأرواح على إجهاضها، تظلُّ ذكرى الإنتفاضة بلسماً ضد كلِّ أشكال العجز واليأس والتردد وبؤس الثرثرة والتنظير وتظلُّ نبراساً وزاداً لكلِّ الذين يؤمنون أن جذوة الحق والحرية لا تنطفيء وإن تراكم عليها الرماد.

دعونا، في عزِّ الهزيمة، نحتفل بانتصارنا على اليأس وشلل الروح، فما يهجع زمناً تحت الرماد لا بد أن يومض في لحظةٍ ما.

تعليق واحد

  1. (مَنْ مِنَّا لا يغمر الحزن قلبه وروحه وهو يعيش هذه اللحظة الهزائمية، ويستذكر تلك الأيّام الوضيئة من مارس/أبريل 1985. لم يكن حدثاً عفوياً عابراً ما وقع في تلك الأيّام، وإنما كان ثمرة تراكم نوعي وكمي للمقاومة الباسلة ضد نظام مايو. كان المشهد أُسطورياً لشعبٍ يصنع مجداً ويكتب تاريخاً و”يشرئب إلى السماء لينتقي صدر النجوم)
    قلبت علينا المواجع …….شكرالك للذكرى

  2. ما اروعك اخي عمر الدقير وانت احد صانعي هذا الحدث العظيم الذي ظل يجري في وجدان الامة السودانية
    ليشكل بوتقتة للحرية ونورا للعدل وبلسما للفساد الذي استشري في غياب تلك الفترة المستنيره بالحرية واحترام الانسان ليعيش كريما علي وجه البسيطة .
    لك التحية عمر الدقير والايام حبلي كما الليالي لتفعل المستحيل وينبلج النهار بصبح اغر حتي يعم العدل وتنطفي نار الظلم .

  3. لا زلت اذكر هذا اليوم حيث كنت اركب حافلة ذاهبة الي امدرمان وكان صوت راديو الحافلة يردد بين كل لحظة سوف نذيع عليكم بيانا فترقبوه . ثم تمت اذاعت البيان الذي اعلن بموجبة استيلاء الجيش بقيادة سوار الذهب علي سلطة جعفر نميري تعالت اصوات الفرح وعلت زغاريد النسوة وما كان من الكمساري الا ان اعلن ان السواق لن ياخذ اي قروش من اي شخص وان اخر محطة للهذه الحافلة هي منزل الزعيم الازهري .ولكن ما هي النتيجة ؟

  4. الاخ المناضل الجسور و رئيس اتحاد انتفاضة ابريل 85 التي سرقت بليل بهيم أتذكر أخي عمر حينما اتفقت احزاب الطائفيه مع غواصات الاخوان و اصروا علي تكوين انتقالية هزيلة سلمت كل الانتفاضة لمن كانوا مختبئين من نميري و من دلك الزمن سرقت الانتفاضة و غيبت القوي الحديثة التي كونت التجمع التغابي واد كرك عندما كنا نستجدى دالجزولي لكي يحضر الندوات و الاجتماعات الحاسمة قبل الانتفاضة و في النهاية كانت المهزلة الكبري حينما رفضت قوي الرجعية التي اعتادت علي تسليم كل الثورات و الانتفاضات لقوي الشمولية المتدثرة بثوب الاسلام و الاسلام منها بري و لدلك نحن جيل الانتفاضة اصابنا الاحباط واليأس من أحزاب الطائفية الدين لا يعرفون عظم التضحية و لو لا هولا لما جسم هدا النظام الاستبدادي فوق صدورنا حني الان

  5. التحية والاحترام لك يازعيم اتحاد الانتفاضة التي سرقت من الشعب السوداني الذي يعيش منذ ذلك الوقت وحتى الان حالة من الاحباط الشديد والذي نتمنى ان يخرج منها ليعيد الكرة مع الاستفادة من الأخطاء السابقة,التحية مرة أخرى لك ولمؤتمر الطلاب المستقلين ولشهداء الحركة الطلابية عبد الحميد عثمان ورفاقه….

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..