مقالات وآراء

بحري سر الهوى

نهى محمد الأمين أحمد

ما أقسى الخروج من الديار، ابتلانا الله سبحانه وتعالى بامتحان قاس، وبدون شك أن ما حدث لنا جراء هذه الحرب هو لحكمة إلهية بليغة، قد لا تستوعبها عقولنا المحدودة، وربما جاء هذا الابتلاء لنستشعر كم النعم التي ظل المولى عز وجل يغمرنا بها بدون أن ننتبه وقد أخذناها كمسلمات،  وقد خلق الإنسان ضعيفا، ويزداد ضعفا مع الابتلاء، ربما جاءنا الابتلاء لنراجع أنفسنا ونحاسبها على التقصير، نتوب عن الذنوب، ونستشعر أنعم الله التي لا تحصى ولا تعد،،،
لم أخل أن الإنسان يمكن أن يرتبط بالمكان إلى هذا الحد، حتى أرغمتني الحرب على النزوح من منزلي، من حينا ومدينتنا، عرفت مع هذا النزوح الاضطراري يتما لا يقل ألما عن تيتمي بوفاة والدي رحمه الله،

لدي قناعة راسخة أن أكثر ما يوجع في الفراق في مفهومه العام هو التفاصيل، والعلاقة بيننا كبشر وبين الناس والأماكن والمقتنيات مبنية على التفاصيل، فهي التي ترسخ العلاقة وتقويها، وكلما زادت هذه التفاصيل، تصير العلاقة أقوى وأمتن ويكون الفراق أكثر إيلاما ووجعا،
ويزداد الوجع عندما يكون الفراق قسرا وليس اختيارا،،

ها أنا ذي مستلقية على سرير آخر غير سريري في غرفة أخرى في مدينة أخرى، يغمرني الشعور بالوحدة والغربة والإحباط، أفتقد منزلي وأشيائي الصغيرة، أفتقر إلى الإحساس بالانتماء، أحسني كنغمة نشاد أفسدت معزوفة رائعة لفنان مشهور، أو كنوع من النبات زرع في غير موسمه وفي غير ظروفه المناخية المناسبة، فنبت متقزما مشوها وأجهض ثماره قبل نضجها،،،

لم أتخيل أن ما يربطني بمدينة بحري هو كم هائل من العشق والعاطفة الجياشة والمشاعر المشبوبة، كثيرا ما رددت مقولة (بحري سر الهوى)، ولكني لم أحسب أنني متيمة إلى هذا الحد،

ها أنا ذي في تلك المدينة التي لم أستطع أن أتقبلها، أجتر ذكرياتي في بحري، أسترجع الشوارع والمشاهد التي طالما ظننتها مملة،

يزداد شوقي وألمي عندما أفكر أنه حتى ولو انتهت الحرب وقدر لنا الرجوع، فلن أجد المدينة التي أعشق، لن أجد حبيبتي بحري بشوارعها، بناياتها وأسواقها، لن أجد السوق المركزي، لن يكون هنالك سعد قشرة، سوق بحري المكتظ بمحاله التجارية، حركته الدؤوبة، مول المؤسسة وأبو الفاضل، وبحري بكل أشيائها وتفاصيلها الحبيبة، لن أجدها، بل سأجد أنقاضا وحطاما، سأجد مبان محترقة متفحمة، سأبحث عن ملامح حبيبتي، عن تفاصيل راسخة في الذاكرة، عن ذكريات حبيبة، عن غرام ووله بكل ما تحويه بحري، ولكني لن أجد من ذلك شئ، فحبيبتي اغتصبت، دمرت ودكت أرضا، آذوها فآذوني، هدموها فقهروني وأحزنوني، في القلب حسرة، في العين دمعة وفي الحلق غصة،

وأنا ما زلت متيمة، ما زلت أعشق بحري، أحبها وهي ركام، ففي هذا الركام توجد ذكرياتي، وبين هذه الأنقاض كانت حياتي، وما زلت أمني النفس بعودة إلى بحري، سأقبل ترابها الملئ بالسكن الأسود ورائحة البارود، سأحتضن ما تبقى من أنقاض المباني، سأخبرها حبي وولهي، وسأطلب منها السماح، أنني أخلفت الموعد هذه المرة وفررت لأنجو بحياتي وتركتها للتدمير والاحتراق، سأخبرها أنها في داخلي تكبر كل يوم وأنا أزداد لها حنينا وشوقا،
سأخبر أثيرتي أنني أعيش فقط على أمل اللقاء،،،

[email protected]

تعليق واحد

  1. انه حقا شعور صعب و فراق مر و الان بدات اتخيل كيف صمتنا طوال ما يقارب الربع قرن عن مصيبة اهل دارفور الدين شردوا من بيوتهم و قراهم و يعيشون في معسكرات النزوح مند 2003 و الي هدا اليوم اعتقد ان ما يجري في الخرطوم الان هو من دعاء المظلومين البسطاء الدين قتلوا و هجرو من مزارعهم و قراهم و ابيدوا بالطيران الخربي السزداني بدون دنب جنوه و الظلم ظلمات و الديان لا يموت

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..