مقالات وآراء

الفن في زمن الكوليرا

مهدي يوسف إبراهيم

–        “أركم في الصحف المضحكة غداً “

بهذه العبارة خاطب “جون ارتشيبالد ” الناس المتكدسة في صالة ذاك المستشفى في ذلك النهار الدفيق الأحداث . كان بعضُهم يرمقه بعيونٍ تقول إن الرجل بلغ أقاصي الجنون ، وكان البعضُ الآخر يرمقه بعيونٍ تصرخُ بالإعجاب ، بينما اكتفت ثلةٌ ثالثة بتأمله بحيرةٍ هائلة . لكن “جون ” لم يكترث لكل هؤلاء ، بل نطق بعبارته تلك وابتسامةٌ حزينةٌ تتراقص بين شفتيه، ثم توّقف قليلاً ليتأمل توقيعاتِ بعضهم في ورقةٍ أمسك بها وكأنه يمسكُ بروحه ، قبل أن يشد قامته ويتقدّم إلى غرفة الفحوصات ووراءه يسيرُ مديرُ المستشفى .

“جون كيو” عاملٌ رقيقُ الحال في أحد المصانع في مدينةٍ أمريكية ، يعيشُ هو وزوجته “دينيس” وابنهما “مايك” سويّاً. يعمل “جون” في أكثر من مكان ليسدّد أقساط العربة ويدفع الإيجار ويكفلُ لأسرته الصغيرة عيشةً هانئة. تحاولُ “دينيس” أن تعاون زوجها لتحقيق تلك الغاية ، أما “مايك” فيرتاد مدرسةً قريبة ، ويحلمُ يصبحُ بطلاً لكمال الاجسام في المستقبل . فجأة يتبدلُ كل شيء ، إذ يسقطُ ” مايك” مغشياً عليه في منتصف مباراة بيسبول يشارك فيها. يُهرع به أبوه إلى المستشفى حيثُ يتفاجأ أن قلب ابنه ضعيف ومتضخم وأنه سيكف عن الخفقان في ظرف شهورٍ وربما أيامٍ إن لم تتم زراعة قلب سليم مكانه. يقصد “جون” مصنعه ليتفاجأ بأن تأمينه الصحي لا يغطي تكاليف العملية الباهظة. يدخلُ الرجلُ في سلسلةٍ من الإجراءات البيروقراطية العقيمة التي لا تفضي إلى شيء فيضطرُ لبيع كل ما يملك ويجمع له رفاقُ العمل مبلغاً ما ، لكن ذلك لا يكف .. وبعد أيامٍ تتصلُ به “دينيس” وهو في ركضه بين الدوائر الحكومية لتخبره أن مدير المستشفى قرر إخراج ابنهما منها ، وتطلبُ منه في حسمٍ ويأس أن “يفعل شيئاً”… يقصد “جون” المستشفى ويحاولُ أن يقنع مديرها بإجراء العملية لابنه على أن يتكلف هو بدفع تكاليفها لاحقا ، لكنه يصطدمُ بقوانين لا ترحم الفقراء في حضارٍة لا تعترفُ سوى بسطوة المال … حينها يشهرُ مسدسه في وجه مدير المستشفى و يتّخذ من بداخلها من عاملين ومرضى رهائن حتى يضمن إجراء العملية لمايك..

في داخل المستشفى تقابلنا نماذجُ بشريةٌ مختلفة : مديرُ المستشفى الارستقراطي الذي لا يعير الفقراء بالاً ، الممرُض الثائر الذي يتعاطف مع الفقراء ويسبُ قوانين المستشفى جهاراً نهاراً ، مديرةُ قسم التأمين التي تتعامل مع المرضى كأرقام لكنها شيئاً فشيئا تبدأ في التعاطف مع جون ، الفتى الارستقراطي الأبيض الذي يعتدى على صديقته بالركل و السب كلما احتسى النبيذ ، الزوجان الأسمران اللذان ينتظران قدوم مولودهما الأول بفارغ الصبر ، الشاب الزنجي الذي فقد نصف دمه إثر تبادل الرصاص في حارة تعجُ بالعاهرات وتجّار المخدرات .. الخ ..

يعلن “جون” بحسم “أن المستشفى صارت تحت إدارة جديدة” و يفتح أبوابها لعلاج كل من في داخلها مجاناً .. تتحرك الشرطةُ والصحافة صوب المستشفى ، ويأتي كذلك عمدة المدينة (فالانتخابات على الأبواب) .. يتصارع تياران داخل الشرطة حول طريقة حل معضلة الرهائن: تيارٌ مدير الشرطة الشاب المدجّج الكتفين بالنجوم  والأوسمة والذي يدعو لاغتيال جون دونما تردد ، وتيارُ الضابط الذي يكبره سناً ويحاول التحاور مع جون وفهم بواعث تصرفه … يأمر “جون” بوضع اسم ابنه في قائمة مستحقي التبرع ، ويهدد بقتل أولى الرهائن سريعاً في حال لم يتم تنفيذ طلبه … تحاول الشرطة قتل “جون” بواسطة قناص ما ، لكن “جون” ينجو ويقوم بإرسال القناص إلي الشرطة عارياً … ينقسم الشارع حول موقف “جون” : فمن الناس من يراه ثائراً يسعي لتعديل ميزان مائل ومنهم من يراه مجرماً .. يقوم التلفزيون القومي بإجراء مقابلةٍ مع صديق “جون” في العمل فيقول له متأثراً ” يا صديقي ، هذه بلاد الذين يملكون كل شيء  والذين لا يملكون شيئاً ، ولو كنت ثرياً لقدمت لك هذه البلاد خدماتها علي طبق من ذهب ، لكنك الآن تدفعُ ثمن أنك عامل بسيط وأنك أسود البشرة . تماسك يا صديقي . الرب معك “…

يثورُ جون قائلاً ” أنا لن أدفن ابني . ابني هو من سيدفنني” .. ثم يقررُ أن يطلقَ النار على نفسه حتى يتم زرع قلبه في صدر ابنه … بعد لأيِ يوافق كبير الأطباء على نقل قلب ” جون” إلى ابنه على أن يوقّع عددٌ من الرهائن على ورقة تثبت أن ما تم كان تهديد السلاح .. يوافق البعض على فعلا ذلك  فيخاطبهم جون ساخراً” أراكم في الصحف المضحكة غداً ” .

هذه هي الخطوط العريضة لفيلم ” “John Q للنجم العظيم ”  دينزل واشنطن “… وهو واحد من تلك الأفلام التي عرت الوجه القبيح للرأسمالية الغربية وفضحت واقع التأمين الصحي في الولايات المتحدة الأمريكية …

تذكرتُ هذا الفيلم وأنا أقرأ أن “حميدتي” قام خلال العام الماضي بتصدير ذهبٍ إلى دويلة عربية بمبلغ 16 مليار دولار … حينها تجددت قناعتي أن هذه بلاد الذين يملكون كل شيء والذين لا يملكون شيئاً …

فيا “أمجد أبو العلا” … هل نطمعُ في فيلمٍ عن الثورة السودانية؟ (1) .

……

(1)         “أمجد أبوالعلاء”  مخرج فيلم “ستموت في العشرين” .

 

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..