الحزن القديم

كان حينما ينبعث صوته من المذياع ويلامس قلوبنا الملائكية الخالية من كل شيء إلا من اللعب بـ “كورة الشُراب، ولكت وشليل”، كنا نكف أنا وابن عمي “عوض التاي” عن اللعب، ونستسلم لهذا الصوت الساحر الذي كان يسري في أجسادنا الغضة كمحلول وريدي يطارد “الجفاف”، وينسرب مع الدم لتحمله الأوردة والشرايين مع قليل من الأكسجين إلى قلوب شغفها حباً ذلك العملاق “وردي” وهي ـ أي قلوبنا الطفلة ـ لا تزال خالية لم يسكنها عشق سوى عشق اللعب بـ “الطين” ولهو الطفولة البريء … كان كبار العائلة يتهامسون ويتساءلون في دهشة: فأنى لهذين الطفلين أن يسترقهما وردي ويخطفهما من سلطان اللعب بـ”الطين” وهل يا ترى وهما في هذه السن يستوعبان كلمات الغناء وموسيقاه، فكان ذلك هو مثار الدهشة وحديث الكبار عندما يروننا منغمسين في عشق وردي الجميل، ولا أحد يجد منا إجابة لأننا لا ندري سر العشق والافتتان بـ ” وردي” ونحن في تلك السن الطفولية، لكن ربما لأننا كنا لصيقين بجدنا المرحوم “أحمد التاي” الذي لا يفتح مذياعه إلا لثلاثة أشياء فقط: نشرة الأخبار، المدائح النبوية ، وأغاني وردي … فقد كان لإعجاب جدنا “أحمد” بالموسيقار محمد وردي أثر عظيم في عشقنا العذري لهرم الغناء السوداني وفنان أفريقيا الأول الإمبراطور وردي منذ نعومة أظافرنا..

كنتُ في فترة من الفترات لفّتني سحابة من الزهد والتشدد فأصبحت أكره الغناء وأتحاشى سماعه، لكني لا أذيع سراً إن قلت إن عزيمتي تراجعت أمام روائع وردي التي كلها عندي بمثابة حبات لؤلؤ منظومة على خيط الشفق لتزين جيد زمان الإبداع بلا منازع ، فإذا ذهبت لتسقط واحدة منها بان عوار العقد كله، كلمات، ولحناً وموسيقى، فكلها عندي جمال بديع يخلب الأنظار ويداعب شغاف القلوب.. فلغناء وردي حلاوة في الكلمات، وعذوبة في اللحن، وروعة في الأداء وسحر في الموسيقى..

ولوردي دور كبير في تطوير الموسيقى السودانية ونشرها خارج السودان، واستطاع هذا الإمبراطور العملاق أن يضع لنفسه مكانة في فضاء الغناء السوداني وروعة الأداء يستعصي على الآخرين بلوغها… ونحن إذ نعيش هذه الأيام الذكرى السادسة لرحيله، ونردّد بصوت باكٍ ذكراك “تقدح ناراً” إنما نترحم لك ونسأل الله الرحمن الرحيم أن يكرم نزلك ويتجاوز عن سيئاتك أيها العملاق الذي أعطيت للغناء قيمة ومعنى ومكانة، وللفن رونقاً وجمالاً، وللألحان طلاوة تلامس الوجدان وتُذهب الهموم وتجلو الأحزان…

فما بين ميلاد الإمبراطور وردي في ١٩ يوليو، ١٩٣٢، ووفاته في ١٨ فبراير، ٢٠١٢، كانت هناك حياة مسكونة بالإبداع وعزيمة لا تلين، ففي حياة وردي الكفاح والنجاح، وقد كان له ما أراد.

ولد محمد وردي 1932 في بلدة صواردة، وقد توفي والده وهو في السنة الأولى وأمه بتول بدري أيضاً توفيت عندما بلغ التاسعة، وقد نال اليُتم من الصبي “محمد” وهو لا يزال غض الإهاب، لكنه لم يستكن لنائبات الدهر فشق طريقه فعمل أستاذاً في شندي وجاء إلى الخرطوم وفي سنة 1958 كان ميلاد فنان أفريقيا الأول…

ألا رحم الله وردي وأحسن إليه.
الصيحة

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..