ديمقراطية توكفيل وديمقراطية النخب السودانية ..

طاهر عمر
من الملاحظات الملفتة للنظر أن مكتبتنا السودانية تكاد تكون ضعيفة بشكل كبير وانعكس ضعفها على مستوى وعي النخب السودانية وهي منحبسة في نطاق ضيق من وعي ريادات وطنية تصنف غير واعية وهذا الضعف يكاد يكون موروث منذ أيام أتباع مؤتمر الخريجيين ويتجلى في عدم قدرتهم على تحديد مستوى وعي العالم الحر وكيفية تحديد سرعة مسيرتنا حتى نستطيع اللحاق بمواكب البشرية.
مثلا في ثلاثنيات القرن المنصرم أيام نشاط أتباع مؤتمر الخريجين كان يشغل ضمير النخب في العالم الحر أن فلسفة التاريخ التقليدية قد وصلت لمنتهاها وقد تبدّت في ظاهرة الكساد الاقتصادي العظيم وبالتالي أن الليبرالية التقليدية قد كانت في آخر أنفاسها وعالم جديد يتخلق ليولد من جديد وقد أحتاجت النخب لخمسة سنوات منذ بداية الكساد الاقتصادي العظيم 1929 الى سنة 1935 لتظهر أفكار جون ماينرد كينز لتفسر مسألة الكساد الاقتصادي وحينها قد أصبحت مسألة قرأة فكرة اليد الخفية لادم اسمث تحتاج الى أفكار ادم اسمث في كتابه الآخر نظرية المشاعر الأخلاقية ومن هنا جاءت أفكار كينز ومسألة التدخل الحكومي ومسألة إعادة التوازن الاقتصادي.
ما أود قوله هو المدة التي قضاها كينز اي خمسة سنوات لكي يقدم تفسير الى أن فكرة اليد الخفية قد وصلت لمنتهاها وتحتاج لمسألة التدخل الحكومي وأن مسألة العرض يخلق الطلب كقانون لساى قد وصل الى منتهاه وقد أصبحت الأهمية تدور حول الاهتمام بكيفية خلق الطلب وهنا تظهر عبقرية كينز هذا على جانب الفكر وعلى جانب السياسة كان روزفلت كسياسي قد أحاط نفسه بمشرعيين في مسالة إدخال فكرة التدخل الحكومي وعندما قابل كينز قد قال عنه كينز قد وجده سياسي ملم بالكثير فيما يتعلق ما تحتاجه المرحلة وما فيها من كساد اقتصادي وتشظي اجتماعي هائل.
هذا ما فات على أتباع مؤتمر الخريجين وليس غريب أن يفوت عليهم وهم أول جيل قد نال تعليم حديث إلا أن عقل الخلوة والقراءة التقليدية هو المسيطر على حالهم ومسيطر حتى اللحظة اي لحظة ظهور مبادرة ود بدر مما يدل أن النخب السودانية حتى اللحظة لم تتخلص من عقل الخلوة والخنوع لرجال الطرق الصوفية وما ظاهرة مبادرة ام ضوا بان إلا إعادة الى لحظة انشقاق مؤتمر الخريجين وتفرقهم ما بين أحزاب الطائفية كبيوتات دينية مثل حالهم الآن وهم يتحلقون حول مبادرة أم ضوا بان مما يدل على حال النخب السودانية وكسادهم الدائم بسبب أنساق مضمرة تلعب دور مهم في كساد الفكر في السودان وإنعكاسه على النشاط السياسي.
كساد أتباع مؤتمر الخريجين قد أبّده المثقف السوداني وهو مقيد بأنساقه الثقافية المضمرة ولهذا ما زالت أحزاب الطائفية قائمة وحزب شيوعي بنسخة شيوعية سودانية لا يقل كساد نخبها عن نخب أحزاب الطائفية ولهذا قد انقضى ما يقارب القرن والمثقف السوداني محصور في مستوى الشعر ونقد الشعر ونقد النقد كما يقول علي الوردي عالم الاجتماع العراقي متهكم على حال المثقف في العالم العربي والاسلامي.
نقول هذا القول وعلى بالنا وصية عالم الاجتماع الفلسطيني هشام شرابي وهو من القلائل في العالم العربي والاسلامي وقد استطاع أن يفرق ما بين خيانة أوروبا للتنوير وما قدمته أوروبا من عقلانية في مقارباتها لظاهرة المجتمع البشري وعلى نفس فكره قد قدم محمد اركون إضاءت حول الخلط ما بين محاربة ظاهرة الاستعمار وتحت غبارها إختفت فكرة الاهتمام بفكرة التنمية الاقتصادية بسبب نخب وريادات وطنية غير واعية فوّتت الكثير من الفرص لكي تلحق بمواكب البشرية.
وصية هشام شرابي هي الاهتمام بتاريخ وفكر الشعوب الأوروبية وكيفية مقارباتها لظاهرة المجتمع البشري وهذا ما نجده في حيز المنسي عند النخب السودانية ويتجسد في كتابات المفكرين السودانيين حيث ما زالت أغلب النخب السودانية لا تؤمن بنمط الانتاج الرأسمالي على صعيد النشاط الاقتصادي وكثر يغيب عن أفقهم انتصار الليبرالية الحديثة وانتصار توكفيل على ماركس وأن أقصر الطرق لتحقيق التنمية الاقتصادية هو فكر ليبرالي حديث وليس طريق الفكر الاشتراكي كما يظن المثقف السوداني وهو واهم في خصومة غير مبررة للفكر الليبرالي.
لهذا قد غاب عن أغلب النخب السودانية أن أحزاب الشيوعية في الغرب والأحزاب الاشتراكية ومنذ ثلاثينيات القرن المنصرم قد رضيت بنمط الانتاج الرأسمالي إلا نسختنا الشيوعية السودانية ما زالت أسيرة لن يحكمنا البنك الدولي وقد طغى فكرها على غير الشيوعيين في السودان حيث نجد عندهم وهم أن تحقيق التنمية لا يتم يغير طريق الاشتراكية وهذه واحدة من محن النخب السودانية.
وبسبب سيطرة الشيوعيون السودانيون على مشهد الفكر في السودان فقد إنشغل المثقف السوداني بالشعر ونقد الشعر ونقد النقد كما يقول علي الوردي حيث نجد تحت عريشة الشيوعين وأمجادهم بشعراء وفنانيين وغيره من اهتمامات تضحك علي الوردي كثيرا ونحن نحتاج لفكر يهتم بالسياسة والاقتصاد وعلم الاجتماع بدلا من الاهتمام بشعر قد نصب له الشيوعيون خيمة شعراهم لكي تطغى على الفكر بظلال شعر ونقده ونقد نقده وهذا لا يقلل احترامنا لشعراء الشيوعيين.
لكن حال السودان يحتاج لفكر تحتاجه الساحة الفكرية وليس أشعار يحاصر بها الشيوعين الساحة وهي خاوية على عروشها ونجد مثلا على ذلك أن مكتبتنا السودانية خاوية من فكر يقاوم الشموليات من نازية وفاشية وشيوعية فلا نجد أثر لأفكار حنا أرنت عن طبيعة النظم الشمولية ولا أفكار كلود لوفرت عن الفكر الشمولي ولا أفكار علماء اجتماع كان اهتمامهم كبير بمكافحة فكر الشموليات ولهذا نجد الفرق بين الشيوعي السوداني وشيوعيي الغرب واشتراكييه في قدرة استيعاب ورثة عقل الأنوار لنمط الانتاج الرأسمالي وعدم مقدرة الشيوعي السوداني في التجاوب مع فكرة نمط الانتاج الرأسمالي كتاريخ طبيعي للبشرية.
لهذا نجد تأثيرهم أي الشيوعيين السودانيين على غير الشيوعيين السودانيين في إعلان بعضهم بأن ليبرالية الغرب لا تتماشى مع مجتمعنا السوداني لأنها نتاج تاريخ شعوب أخرى و نسوا أن ظاهرة المجتمع البشري فيما يتعلق بفكرة الدولة الحديثة ومفهوم السلطة لا تعرف التفريق ما بين شعوب أوروبية وشعوب أخرى لأن في جميع المجتمعات البشرية ما يشغل ضمير الانسان مسألة الحرية والعدالة وأن تاريخ الفكر الليبرالي يمثل التاريخ الطبيعي للانسانية كافة وليس كتاريخ خاص للأمم الاوروبية.
فهي أي الشعوب الأوروبية في تجربتها قد قدمت فقط مختصر لتاريخ الانسانية وعلينا الاستفادة من تجربتها كما يوصي هشام شرابي فيما يتعلق بمسألة الحرية والعدالة وهذا هو البعد الذي لا يريد الشيوعي السوداني ولا الكيزان بأن يطل عبره المثقف السوداني من أجل مقاربات تجسر ما بيننا وتجارب الشعوب الحية وبسبب وقوف الشيوعيون والكيزان قد كسدت الساحة الفكرية والآن لا يستطيع المثقف السوداني التفكير خارج إطار وحل الفكر الديني أو بعيدا عن وحل ما خلفه الشيوعيين السودانيين من تلوث فكري جعل كثر من المثقفين السودانيين يؤمنون بأن أقرب الطرق لتحقيق التنمية هو طريق الاشتراكية وهذا من الأخطاء المميتة للنخب السودانية وقد جعلها تتجافى مع التاريخ الطبيعي للانسانية وطريق الفكر الليبرالي.
هذا الكساد الفكري المتجسد في عدم قدرة النخب السودانية على استيعاب فكرة نمط الانتاج الرأسمالي جعلهم يغصون في وحل حلقتهم الجهنمية وعدم مقدرتهم على قيادة التحول الاجتماعي وبالتالي نجاحهم فيما يتعلق بالتحول الديمقراطي ولهذا تجد الشيوعي السوداني يتحدث عن الديمقراطية ولا يقصد غير الشيوعية كنظام شمولي وهذه واحدة من عدمية النخب السودانية ومجافاتها للاشراق والوضوح وقد تجسد في عدم مقدرتهم في توحيد صفوف المعارضة من أجل إزالة أفشل إنقلاب.
وكله بسبب غياب إدراك النخب السودانية لتنظيم صفوفها وفقا لظاهرة المجتمع البشري والهدف منها الانتصار للفرد وليس للطائفة ولا للعرق ولا الجهوية بل أن يصبح الاعتقاد الديني شأن فردي وتصبح علاقة الفرد بالدولة فيما يتعلق بالحق في الحقوق ولكن كيف يكون الى ذلك سبيل وما زال المثقف السوداني في ايمانه التقليدي؟ الذي يدفعه دفعا الى أن يقدم خطاب ديني بديلا لخطاب الكيزان لأنهم لم يفهموا بعد بأن مسألة العرق والدين لا تلعب أي دور وتجاوزتها فكرة النشؤ والارتقاء وقد أصبح ما يشغل ضمير الانسانية هو الحريات وليست الهويات.
بسبب غياب فكر يقوم على النزعة الانسانية وغيابه يجعل كثير من النخب السودانية في أحزاب الطائفية والسلفية وغيرها من أحزاب السودان ذات البعد الديني تظن انها بديلا دينيا لخطاب الكيزان وفي الحقيقة لا نحتاج لخطاب ديني أي كان نوعه بل نحتاج لفكر نزعة انسانية نتاج تجربة الانسان وضمير الوجود وغياب فكر ذو نزعة انسانية يفتح الطريق للكيزان للتخفي خلف مبادرة ود بدر وكله بسبب الانساق الثقافية المضمرة وأثرها على انتاج الأفكار السياسية. على النخب السودانية أن تعلم أن العالم قد فارق مثل فكرهم المتكلس سواء كان فكر أحزاب اللجؤ الى الغيب أي أحزاب وحل الفكر الديني أو أفكار أيديولوجية حاولت يائسة تقديم بديل ديني أي دين بشري كان أفشل من الأديان فيما يتعلق بجلب سلام العالم.
المهم في الأمر نرجع لعنوان المقال ديمقراطية توكفيل كمنتصر على ماركس في جميع أنحاء العالم ما عداء السودان وديمقراطية النخب السودانية وهذا سيكون مدار اهتمامنا في المقالات القادمة وأتمنى ان نقدم شئ من فكره يساعدنا على تخطئ وقوف النخب السودانية على عتبة أحزاب اللجؤ الى الغيب وأحزاب الايدولوجيات المتحجرة.
كاتب ومحلل ومثقف مؤمن بقضيته اللبرالية وموقفه اللبرالي ضد التكلس والتخشب الايدولوجي