من الجيولوجيا والجغرافيا والتاريخ للحقيقة والتاريخ (3)

بسم الله الرحمن الرحيم

ذكرنا في المقالين السابقين ان العلوم الجيولوجية والجغرافية والتاريخ، قديمه وحديثه، ثم العلوم الوراثية والاحياء الجزيئية تستطيع ان تغير المفاهيم المقلوبة والتزييف الذي تعرض له تاريخ العالم ، خاصة تاريخ السودان القديم والحديث الذي نعتبره صاحب اقدم وارقى حضارة بشرية قبل وبعد نوح وطوفانه.
في طريقنا لمتابعة تطور تاريخ مصر الجيولوجي سنجد تكوينات الزمن القديم في مساحة لا تتعدى 100 الف كم ² أي 10% من مساحة مصر الحالية (مليون كم مربع) وتعتبر الاشد وعورة بسبب ما تعرضت له من حركات ارضية شديدة وتنتشر بها التكوينات الاركية (الزمن القديم)في معظم الوحدات الجيومورفولوجية. أما في العصر الطباشيري فقد ظهر من ارض مصر حوالى 410 الف كم مربع وكان هنالك حوالى 500 الف كم مربع مختفية تحت التكوينات الأحدث ، أي أن ارض مصر تكونت جيولوجيا وجغرافيا في العصر الطباشيري عبر 3 مراحل ولم يظهر فيها الانسان على الارض بعد.
أواخر عصر الميوسين (حوالى 70 مليون سنة) قد شهدت فيه الأراضي المصرية ارتفاعاً تكتونيا ارتبط بنشاط من التصدع والالتواء خاصة فى الجوانب الشرقية من مصر مما أدى إلى انحسار الخليج الميوسينى وظهور برزخ السويس، وانحسار بحر تثيز شمالاً بعد (ارتفاع سطح مصر) في نهاية هذا العصر وبدأ النيل الوليد يشكل مجراه بصورة أوضح. انطبق ذلك ايضا على بقية اليابسة والماء.
أخر مراحل الغمر البحري في الزمن الثالث، وتكويناته تغطي مساحة صغيرة من مصر حوالي 7000 كم2 ونتج عن هذا العصر تلك الرواسب التي تظهر على جانبي نهر النيل، وقد تحول (وادى النيل) خلال هذا العصر إلى (خليج) ترسبت على جوانبه ترسبات من الدماليك والحصى والرمال مختلفة بتكوينات بحرية فى الشمال، وقد شق نهر النيل مجراه بعد انحسار البحر أواخر البلايوسين وتشكلت مجموعة المدرجات التي تظهر الآن على هوامش السهل الفيضي للنيل في شكل تلال ورقع رسوبية متقطعة وظهرت فيه القرود العليا والحيوانات الحالية. يعد البلايستوسين (الجليدي) الزمن الرابع، وهو أقصر الأزمنة الجيولوجية عمرا (حوالي مليون عام)، ورغم ذلك فقد ترك بصمة واضحة في تشكيل سطح مصر، وثبت فيه وجود الانسان (عظام وأدوات حجرية) كما سنوضح في مقال آخر المكان والزمان.
وبذلك يمكن طرح سؤال مهم وهو هل كانت مصر هبة النيل فقط؟؟ كما زعم هيرودوت؟؟؟ أم هبة النيل والمصرين كما زعم البعض؟؟ أم هي هبة للجيولوجيا والجغرافيا قبل ذلك؟؟ للإجابة عن هذا السؤال لابد أن نعرف كيف نشأ نهر النيل لتضح الصورة التكوينية لمصر أكثر فأكثر.
نهر النيل نهر نشأ في عصر الميوسين على الأرجح (70 مليون سنة)، أو على اقل تقدير في العصر التالي البليوسين على أقل تقدير وهو الأحدث. ففي أوائل عصر البليوسين ارتفع منسوب مياه بحر تثيز 180م فوق مستوى البحر فغمرت مياهه و(احتلت ارض مصر )في المناطق والخطوط المنخفضة، فتكون ذلك الخليج البليوسيني الذي ترسبت على جوانبه وفي قاعه البقايا البليوسينية، وفي أواخر العصر البليوسيني (انخفض البحر وارتفع اليابس) فانحسر البحر تاركاً رواسبه تغطي وادي النيل مما يبرهن على وجود النهر في هذا العصر أصلا إن لم يكن موجود أصلا من عصر الميوسين.
ويفترض العلماء إن نهر النيل كان موجود في مصر منذ (أواخر عصر الميوسين)، وكان له عدة فروع اصغر تصرف مياهه في بحر التثيز القديم، (قبل تكوين الدلتا)، وبنهاية الميوسين حدثت عملية رفع في الهضبة المصرية جعلت (الأرض تميل ناحية الشمال) مما زاد من عملية التعرية النهرية، مما جعل (النهر يحفر مجراه ويعمقه) بضعة أمتار، وكان هذا النهر (نهرا محليا )خالصا، منفصلا عن انهار الحبشة تغذيه منابع في جبال البحر الأحمر، ولكن لماذا اتخذ نهر النيل مجراه الحالي؟؟
اتخذ نهر النيل مجراه الحالي لأنه المكان المنخفض بين الصحراوان، وانخفض هذا المكان بسبب حركات التوائية ثم انكسارات حدثت في العصر الميوسيني، وبنفس الطريقة نشأت الدلتا المصرية المرتبطة بالحركات الانكسارية في شبه جزيرة سيناء وخليج السويس.
وكان نمو الدلتا يتم في صورة خطوط وألسنه طويلة ومتراصة من الشطوط والرواسب على محاور طولية متشععه داخل الخليج وفي قلبه، ثم أخذت رواسب الفروع تغلق وتملا الفجوات بين هذه الشطوط والألسنة لتشكل على مر العصور (الدلتا الحالية)، وكان تقدم الدلتا ونموها يتم بصورة كبيرة في الجنوب ويتبطاء شمالا كلما اقتربنا من البحر، وعدما دخل (الملك مينا) الدلتا محاربا ومنتصرا وموحدا للمكلتين كان منسوب الدلتا اقل من الآن بنحو 5 م، ولذلك وجد بها كثير من (الجزر والمستنقعات).
والآن ما هي التطورات التاريخية التي مرت بالنهر؟؟؟
بعد ظهور (الانسان الأول في مصر)، حدثت بعض التغيرات في مجرى نهر النيل، كتحول طبيعي من (مرحلة الشباب إلى مرحلة النضج)، والتغيرات التي تتعرض لها الأنهار بشكل عام إما تغيرات مستمرة أو دورية أو تغيرات مرحلية وقتية، وقد عرف نهر النيل في فترات التاريخ البشري بعض التغيرات سواء في مجراه، أو مستواه أفقيا أو رأسياً، أو في منسوب مياهه.
وقد بدأ النهر يتحول من مرحلة الشباب إلى مرحلة النضج بتعميق مجراه، ومن الاندفاع الاعتدال والتهذيب، وبصورة إقليمية كانت تغيرات التي طرأت على نهر النيل تزداد كلما انحدرنا مع التيار شمالاً، فالتغيرات في الوادي اقل منها في الدلتا، بل والتغيرات في جنوب الدلتا أقل من شمالها.
والتحولات التي شهدها نهر النيل كانت تحولات عكسية بين الجنوب والشمال، فبينما كان النهر يرفع مستوى قاعه وواديه في الجنوب كان في الشمال باتجاه عكسي يهبط وينحط مستواه.
ويمكن إجمال التغيرات المحلية التي حدثت لنهر النيل في سبع تغيرات رئيسيه هي:
1- ارتفاع مستوى الوادي
منذ اتصال النيل (المصري) بالنيل (الحبشي) والغرين يتدفق مع الماء ويترسب في قاع النهر ليرفع مستوى القاع والوادي، ومعدل ارتفاع قاع النهر حوالي 12 سم كل قرن و 1.03 مم كل عام ، وبذلك تكون الأراضي المصرية قد (زاد سمكها و ارتفاع منسوبها ) حوالي 5م على مدار التاريخ المصري.
تغيرات المجرى الرئيسي في الوادي:
تقتصر تغيرات المجرى الرئيسي في العصور التاريخية على عمليتي التعرية والإرساب، فيما بين الضفتين وتقل كلما اتجهنا جنوباً، ولذلك نجد أهم التغيرات النهرية تقع بداية من ثنية قنا ثم شمالاً إلى نهاية النهر، وتتمثل تغيرات النهر لمجراه في نحت جزء من الضفة وإرسابه في الضفة المقابلة أو نقل جزيرة وبناء جزيرة أخرى، وبذلك تكون العملية من نحت وتعريه ونقل وإرساب متوازية ومتعادلة، إلا إذا كان النقل من جانب إلى أخرى لفترة طويلة وبذلك ينقل النهر مجراه كليا، فتختفي مدن قريبة من الشط المنحوت وتقترب مدن أخرى للنهر من نفس الشط، بينما تبتعد مدن أخرى عن النهر في الشط المقابل بفعل الترسيب، وقد حدث هذا بالفعل على ما يبدوا في (صعيد مصر) لأكثر من مرة، فالرحالة الإغريق والرومان الذين زاروا مصر أمثال هيرودوت وديدور، يصفون أماكن كثير من المدن على الضفتين ومكان قرب هذه المدن أو بعدها عن النهر مما يسهل عملية التعرف على مرات غير فيها النهر مجراه خلال (العصر الكلاسيكي)، كما غير نهر النيل مجراه إلى الغرب في (العصور الإسلامية).
تغيرات الفروع في الدلتا:
الدلتا، المكان الأكثر تغيرا عبر التاريخ المصري، تغييرات كثيرة ومعقده استمرت خلال التاريخ المصري القديم، واستمرت في العصور الكلاسيكية والعربية، فروع كثيرة انقرضت واندثرت وما تبقى منها سوى فرعي رشيد ودمياط، وللتبع هذا التطور في العصور الكلاسيكية بإيجاز، نذكر ثلاث مصادر مهمة في هذا الصدد واحده منها فقط للجغرافي ( المؤرخ هيرودوت القرن 5 ق.م- المؤرخ استرابونالقرن 1ق.م – الجغرافي بطليموس القرن 2ق.م).
تعرض الساحل الشمالي للدلتا خلال العصور التاريخية للهبوط، وضياع بعض أجزائه تحت الماء ارتباطت هذه الظاهرة بظاهرتين أخرتين هما نشأة البحيرات الساحلية، ونشأة البراري، ومن هذه الأسئلة متى هبط الساحل، وهل هبط اليابس أم ارتفع الماء، وما هي الأسباب هل هي طبيعية أم بشرية أم الاثنتان معاً، …..الخ.
وظاهرة الهبوط الساحلي للدلتا أدلتها كثيرة، مثل الآثار البطلمية الغارقة في الإسكندرية بالشاطبي، وآثار كوم الشقافة الغارقة تحت المياه الجوفية بالإسكندرية أيضا، وكذلك غرق جزيرة انتيرودس، التي كانت تتوسط الميناء الشرقي في العصور الكلاسيكية، ثم غمرها البحر وغرقت أسفله، والى المنطقة المجاورة لأبوقير والمصب الكانوبي ثلاث مدن غارقة تحت البحر وهي (هيراكليوم ? منوتيس ? كانوب) وهذه المدن كانت عامرة بالسكان في العصور الكلاسيكية، وفي وسط وشرق الدلتا بقايا كثيرة تدل على هبوط الساحل كما تعتبر بحيرة المنزلة متحف لبقايا المدن والقرى الغارقة، كما تعتبر البراري نفسها شاهداً أكيد على حدوث هذا الهبوط الساحلي.
الى اللقاء في المقال القدم عن نهر النيل أيضا ، يليه مقال عن البحر الأحمر ثم بدية ظهور الانسان. أللهم نسألك اللطف (آمين).

جامعة الجزيرة
23/1/2018م

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..