في مَدارِجِ الحُزنِ .

أقرب إلى القلب:
وَأفجَعُ مَن فقَـدنا مَن وَجَدْنا قُـُبَـيْل الفَـقْـدِ مَفقوْدَ المِثالِ
أبو الطيب المتنبي
(1)
كنتُ قد التقيت سلمان محمد أحمد ، لحيظات في جامعة الخرطوم، لا تكاد تثبت في الذاكرة ، فقد سبقنا سلمان بعام للالتحاق بجامعة الخرطوم. كنتُ أنا من طلائع القادمين إلى كلية الدراسات الاقتصادية والاجتماعية أواخر ستينيات القرن الماضي. ما كان لي أن أتعرّف على سلمان عن قرب وقتذاك، ولكن عرفته حين جاء إلى بكين في ثمانينات القرن الماضي ، موفداً من البنك الدولي إلى الصين الشعبية. كانت زيارته لأيامٍ معدوداتٍ ، لكنها كانت بمثابة مرافقة كاملة الملامح، ولم أخفِ إعجابي برجلٍ مثابر مثله، امتهن القانون الدولي فاستنطق طموحاته وخبرته فآثر الرحيل عن منصبه الأكاديميّ في جامعة الخرطوم ليلتحق خبيراً بمنظمات دولية مرموقة، أبلى فيها فكان بلاؤه شارة فخارٍ لاسم بلاده .
لم تغب عن نظري تلك الهدأة التي عليها العلماء ، ولا ذلك الإبراق الذي يشعّ ، هالات من التواضع والمهنية السامية . من جامعة الخرطوم إلى الجامعات الأمريكية ، إلى واشنطون، إلى روما ثم إلى البنك الدولي خبيراً ساميا ، وإلى الإقامة في فرجينيا رفقة أسرته الصغيرة. كلّ هذه التحولات الكبيرة وسلمان هو سلمان، في رصانته عالماً خبيرا ، وفي رقته وتواضعه الذي عهدناه عليه. ظللت أتحين الفرص لأسال صديقي سلمان عن سر أسراره ، عن كيف أبقته التحوّلات رصينا هادئا ، عن كيف تجاوز تحديات الحياة والمهنة ، عن كيف صار سلمان الذي أعرف وعرفت منذ سنوات. .
حين التقيته في مطار الخرطوم، وقد جاءها قادما وعلى كتفيه جثمان زوجه الراحلة، مُحاطاً بأسرته الصغيرة وبأصدقائه الأقربين، أدركتُ أن سرّ سلمان الكبير ومفتاح حياته، تمثل في امرأة ذات شأن اسمها فوزية عمر عبدالغني. .
(2)
على كثرة لقاءاتي مع سلمان ، يشاء القدر أن لا ألتقي زوجه فوزية ، إلّا بعد رحيلها الفاجع . كنتُ قد زرته مراراً في داره بشارع رقم 5 في العمارات بالخرطوم، ولكن لم تكن فوزية حاضرة، لسببٍ أو لآخر. كُتبَ لي أن أقف يوم وداعها في صحن مسجد الحيّ الذي كانت فكرة إنشائه، إحدى مبادرات المرحومة العديدة، أتملّى في النعش المسجّى والحزن طاغٍ وكريمتها عاجزة عن حبسِ نحيبها، تتشبّث بالنعش تشبّث الغريق يتهدّده موجٌ مُتلاطم. . لا تصدّق أن الرّاحلة التي اختارها الله إلى جواره في لحظة صلاتها الأخيرة مغرب ذلك اليوم من سبتمبر عام 2015 في فرجينيا، قد ذهبتْ إلى رحلتها الأخيرة .
سلمان هنا وليس هنا. هرع المعزّون إلى مقابر فاروق، وسلمان يعبر مع العابرين شارع “محمد نجيب”، وروحه تكاد تفارق بدنه. . هل يسبقها إلى منصة الرّحيل، أم ستصل إليها قبله؟ هل ستنتظره هناك أم ينتظرها هنا. .؟
(3)
لم تفارق أذنيّ كلماتُ صديقي وصديق أسرتها في الحيّ، سليمان الأمين وهو يعدّد، بعد ستر جثمانها الطاهر بتراب الوطن، ما لم نكن نعلمه عن الرّاحلة من هِمّة عالية ، ومن إرادة صلبة أوقفتها في مساعي الخير، ومن روح صادقة رهنتها للتواصل الخلّاق. كان حديث سليمان بكائية من حروف ومن كلمات، بل أكاد أقول إنها خالطت دموع المودّعين حوله. حدّث سليمان عن امرأة بحجم منظمة طوعية خيّرة. مثلما نذرتْ نفسها خلال إقامتها الطويلة في الولايات المتحدة الأمريكية لتعليم أبناء وبنات الجالية السودانية والعربية في الأكاديمية السعودية في فرجينيا، وهجرتْ من أجل ذلك الهدف النبيل، تخصّصها النادر في علم الأحياء الدقيقة، فقد آثرت بعد عودتها، أن لا تكتفي بالجلوس في بيتها في الخرطوم ، بل أوقفتْ للحيّ الذي سكنته، جُلّ وقتها لتنظيمه ونظافته، عبر تواصل خلاق مع جيرانها وأصدقائها. بل تجاوزتْ بنشاطها المطبوع موقع سكنها، فخرجت إلى أطراف العاصمة حيث تقبع جيوش من الفقراء والمعوزين ممّن لا تراهم الأعين، ولا ترصد حركتهم أجهزة الإعلام، فكانت الراحلة فوزية، شعلة خير في طريقهم، وغمامة فرحة إنسانية، عمّت أطفالاً ونساءً في أصقاعٍ بعيدة . لم تنتظر مؤسسات الدولة التي شغلتها النزاعات التي تورطّت فيها، ولم تلجأ الراحلة فوزية لأناس أبعد من سكنها، فأضاء إشعاعها العفويّ فجاجاً داكنة، ووصل إلى بعضِ محرومين حقيقيين، وحدّثتْ بذلك الرّوح الإنسانيّ السامي، عن طاقاتٍ يمكن لها أن تنطلق وتحقق ما لم ولن تحققه الأجهزة الرسمية.
(4)
لقد أدركتُ تمام الإدراك، أنّ لصديقي سلمان ، وهو يدير معاركه المهنية بكل ذلك الحذق الذي لمسناه، وذلك الصبر الموضوعي على المكاره العلمية، وتلك الرصانة التي حققت له احتراماً وتقديراً واسعين، متكأً أتاح له انطلاقاً ناجحاً ، وسنداً أعانه في صقل قدراته ومواهبه العلمية والقانونية. صديقي سلمان، وقد تدرّج مدارج العلم والمهنية الرصينة، من الجامعة وحتى البنك الدولي وكرسي المياه الأكاديمي، كانت زوجه الراحلة هيَ ذلك المتكأ وذلك السند. ولقد أصدقتْ فيه الراحلة، مثلاً راسخاً وتقليداً معتمدا، كون الخير يبدأ من بيتك ، ثمّ يمتد إلى الآخرين. ذهبت إلى رحلتها الأخيرة وبقي سلمان مطلاً في مدارج الحزن. .
(5)
من فيض حزنه، أن أعادت الفاجعة موهبة نامت في دواخل صديقي سلمان، منذ أيامه طالبا في جامعة الخرطوم، هي موهبة نظم الشعر. . فاقرأ معي بكاءه بعد مائة يوم من رحيل زوجه فوزية :
يا وجعَ الرّوح المنكوبْ
يا ألم الحزن المسكوبْ
يا شوقّ القلب ِ المغلوب
يا كرب العمر المسلوب
يا ذكرى السنوات المطوية
يا شفق المغرب يوم الموت
يا طلعته المأساوية
يا ليل الحزن الأبدي
يتمدّد أعواماً.. دهرا
في قلبي .. في عقلي
في أرقي ..
في أدمع عيني ..
لك الله أيها الصديق العزيز، وغمر فؤادك بالصبر الجميل على من كان فقدها معدوم المثال. .
+++
الخرطوم- سبتمبر 2016