مصطفى سعيد .. عود على بدء.

سيداتي سادتي ،
أنا الحاضر الغائب ، سيرتي أضخم من سيرة أبطالكم الذين تعرفون في التاريخ . لم أمُت ، ولم أحيا ، ولكني في جوف كل متعلم أو مثقف احتار ماذا يفعل . من رواية صغيرة الحجم ، أتيت أنا . أقراني ضخام الجٌثث ،ولكنهم أقزامٌ . لا تكاد تتبينهم من كثرة الخيبات التي تخنق سيرتهم . وحدي تمددتُ من جنوب الوادي إلى الشمال القصيّ حيث مطر الجليد. سيرتي تمتد كالأحاجي . تميمة فيها جانب من نبوءة قديمة ، لم تزل تُراوح مكانها . إني زلزال تعلو فوهته الدُخان ، لا رضيَّ أن يموت ولا رضي أن يحيا . في نفسي غضب مطمور ، ومحبة لا تستمتِع باللذة .
(1)
( يا لها من خُرافةٍ متضخمة ، تعبث بالعقول على مرّ الزمان .)
لم يزل ” مصطفى سعيد ” بطلاً ، خرج من رواية ” الطيب صالح ” في الستينات ، وسلك طريقاً سلساً إلى عقولنا ، ولم ينته الأمر . من المهم في التاريخ أن نتعرف على الذين أسهموا في تكوين مجموعة من المتعلمين والمثقفين منذ ثلاثينات القرن الماضي إلى أربعينياته . سنجد دون شك الحاكم العام ” السير جورج استيوارت سايميز ” الذي حكم السودان من 1934 وإلى 1940 ، وكانت له رؤية مخالفة لرؤية الحاكم العام ” السير جون لودر مفي ” الذي سبقه .
(2)
” السير جون لودر مفي ” كان يريد أن ينمو الجنوب عجينة بين يديه ، ويعزله من مجتمع الشمال ، وربما كان يريد لإنسان الجنوب أن ينمو كما يريد” الإنسان البدائي النبيل ” كما رآه “سيجموند فرويد” ، أو عُصبة الأنثروبولوجيا التي كان تريد من المجتمعات البدائية أن تعيش كما هي ، في غاباتها وحدائقها البريّة ، كأنهم يريدون دراسة الإنسان كفأر اختبار ، يتفحصون كيف كان إنسان الماضي ، لا شفقة عليه من ثقافة شمال السودان. وكان ” السير جورج استيوارت سايمز” ينظر لوحدة السودان ، وكان أكثر الحكام تشجيعاً لابتعاث السودانيين للدراسة الأكاديمية في بيروت أو المملكة المتحدة . وكان يدير حواراً خفياً بينه وبين ” جماعة أبي روف ” من جهة و” جماعة الهاشماب وأصدقائهم في الموردة ” من جهة أخرى .
(3)
هذه هي البيئة التي تكوّن المزرعة التاريخية التي أنبتت شخصية ” مصطفى سعيد ” الروائية ، فيما أرى . فللشخصية الروائية منبتاً تاريخياً ، وأظنه كان مُنبتّاً . لأن العلاقة بينه وبين والدته حين ودّعا بعضهما ، كأن لقاء عابراً جمعهما في طريق وافترقا ، فلم يجد قبيلة توثقه بحبالها !.
عندما عاد مصطفى سعيد إلى السودان، وذهب إلى قرية نائية في الشمال ، وتزوج ” حسنة بنت محمود ” . يذكر الراوي تعليق أحد الأجداد ، أن زواج “مصطفى سعيد من عائلة ، لا تُدقق كثيراً في الغرباء وأصولهم !.
من هنا يبدو أن ” مصطفى سعيد ” مثله مثل عُطيل أو هاملت لدى شكسبير. شخصيات لها أثرها ، وتم بناءها من نبت مزارع لها تاريخ ،و الذي ننتظره كثيراً قبل أن يخرج لآلئه لنا .
(4)
لن نحفل كثيراً بتجارب ” مصطفى سعيد ” لهزيمة المستعمر في الشمال ، في المخدع والسرير ، لأن قيم الإنكليزي قد تخطت الوقع المتفجر للغزوات الجنسية التي عاشها ” مصطفى سعيد ” ولم يجد تلك اللذة التي كان يبحث عنها ، رغم صنائعه وأحابيل صناعة الطقس الأفريقي الليلي . روبوت كان يحيا .
إن الحل الفردي لقضايا متشعبة أثارها ” مصطفى سعيد ” في حياته الجنسية الدامية ، لم تزل تراوح مكانها في مسلك مثقفينا وتستوطن بواطن نفوسهم. كلهم بلا استثناء لا يجيدون مهارات ” العمل الجماعي “. يعمل الجميع فُرادى . لا يديرون أمراً إلا ليستفرد الواحد منهم بالسيطرة ، فتتمكن منه الملكية الفردية في أبهى تجلياتها ، وتأزّمه في حين أراد هو الخلاص ، وتأكل نار الحسد الآخرين .
لقد أصاب ” مصطفى سعيد ” كثيراً من علاقته مع ” الفابيين ” الإنكليز ، فقد كانت الأفكار “الفابية” هي من أحلام مثقفي الأجيال التي نمت مع نهضة ” مؤتمر الخريجين ” ، لذا أنشأ هو “جمعية تعاونية” في قريته الجديدة ، واستغنى عن الرئاسة رغم أنه صاحب الفكرة، وهو اتجاه مُغاير لنهج جيله . لا يُحب السلطة في وطنه الجديد بشمال السودان ، لكنه مارس سلطة القهر بالحب وأجناسه الغريبة في بيئة المستعمر، وأعاد مبادئ “الفابية” في بيئته الاجتماعية في قرية شمال السودان .
لم يزل السؤال يعيد نفسه بلا أجوبة تزيل الحيرة . منْ هو مصطفى سعيد ؟ . أهو الصورة المضخمة التي تنهض من أنفس الصفوة الثقافية عندنا، والتي تنكبت الحسرات ، من قلّة تجربتها في الحكم ، واتساع حصيلتها الثقافية؟
(5)
زوبعته العظيمة ، كعاصفة لولبية ترابية في الصحراء ، انتهت إلى فنجان وخمدت . سارت بعينين مفتوحتين إلى مصير غريب ، عريس وهب نفسه للنيل . لم يكن هو وحده ، بل شخصيات مثقفة عظيمة ، ذهبت طواعية إلى النهر ، من بعد حادثة ” مصطفى سعيد ” بعقود . ذاك القبر المائي الذي يجري لا يلوي على شيء ،منذ اثني عشر ألف عام . منذ أن جاء زلزالٌ شقّ الكرة الأرضية ، وأفسح فيها طريقاً لنهر النيل ليحيى ويجري ، حيث التقى فيه شقيقان في منطقة الخرطوم، لكل منهما أب مُختلف . وسارا معاً على غير اتفاق إلى مصر، ثم إلى الانتحار العظيم في البحر الأبيض المتوسط !. ليس “مصطفى سعيد” وحده منْ أوجد الانتحار في الماء !.
(6)
كل الذين نراهم أقرب لشخصية ” مصطفى سعيد ” لا يملكون جرأته في فعل ما يراه في الزمان والمكان . كان يستخير نفسه ، ثم إذا عزم اتخذ القرار ، لا يخاف العواقب . إني أراه في كل حين وفي كل زمان ، ينتصب واقفاً بيننا . نجد كل خصلة فينا متضخمة فيه ، حتى نكاد نجزم بأننا في كل دأبنا نتكون مثل حبات العرق على جبينه. نحن ثمرة أشجاره التي قام بشتلها.
كل الذين اختارهم العقل غير المُبدع ،ليقولوا أن الكاتب والراوي و الشخصية الروائية هم مجموعة أفرزت لنا سيرة ذاتية . إن هذا إلا نكاية مُبطنة بصاحب العقل المبدع الذي صنع ” مصطفى سعيد ” من عجينة طيعة ، عصية على النسيان .
(7)
ماذا حدث لزوجة ” مصطفى سعيد “: ” حُسنة بنت محمود ” من بعده ، وماذا صنع منها غيابه الأسطوري ؟
يقول الراوي :
{ حين سلّمت عليها أحسست بيدها ناعمة دافئة في يدي . امرأة نبيلة الوقفة ، أجنبية الحُسن ، أم أنني أتخيل شيئاً آخر ليس موجوداً حقيقة ؟ .قامة ممشوقة تقرب من الطول ، ليست بدينة ولكنها ريانة ممتلئة كعود قصب السكر ، شفتاها لعساوان طبيعة ، وأسنانها قوية بيضاء منتظمة . وجهها وسيم ، والعينان السوداوان الواسعتان . أنا مثل ود الريس وملايين آخرين ، لست معصوماً من جرثومة العدوى التي يتنـزى بها جسم الكون .” امرأة أحس حين ألقاها بالحرج والخطر ، فأهرب منها أسرع ما أستطيع . نزل عليّ قول محجوب :” لماذا لا تتزوجها أنت ؟” خفق قلبي بين جنبي خفقاناً كاد يفلت زمامه من يدي}
هل حقاً أراد ” مصطفى سعيد ” لهذه السيدة المُورقة ، أن تقف مكتملة الأنوثة في وجه جلادي الحياة التقليدية، بدونه ؟! . ألف سؤال لما يزل يراوح مطبخ الرواية ، وهي تصنع كل مكونات الشخصية ، وبناءها الشخصاني العظيم . من طينة طيّعة حاكها صاحب الرواية ، لتقول لنا الكثير من بعد رحيل الشخصية الروائية والكاتب الروائي ، ولم تنقضِ العجائب بعد .
عبدالله الشقليني
15سبتمبر 2015
[email][email protected][/email]
الا رحم الله عبقرى الروايه العربيه الطيب صالح .. واصل استاذنا عبدالله فى هذه الكتابات السلسه ..!!
الرواية فعلا مليئة بعشرات الأسئلة، و لكني لا أراك احسنت عرض أي منها.
ما رأيك لو تركز قليلا لتكتب بوضوح!! و لك التحية على أي حال فأنت في حضرة “عبقري الرواية العربية”.
الأحباء هنا
تحية واحتراماً ،،
وأشكر مشاركتكم .
قرأت النص أدناه وحفزني الولوج على شخصية مصطفى سعيد من منحى آخر :
هذا هو النص :
______________________
مصطفى سعيد».. أزمة دائمة بين الأنا والآخر
الشارقة – محمد أبوعرب:
يروي الكاتب جلال أمين في مؤلفه: «كتب لها تاريخ» حكايته مع رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» ويسرد لقاءه الأول بالطيب صالح في محاضرة قدمها الأخير في الجامعة الأمريكية في القاهرة، فيحكي الشغف الذي اُستقبل به صالح في تلك المحاضرة وكيف عجت القاعة بالواقفين والجالسين.
يتوقف أمين في حكايته تلك عند العلاقة التي نسجها القراء بين بطل الرواية «مصطفى سعيد» والطيب صالح نفسه، معيداً سؤالاً مازال يجهد الكتّاب ويضعهم أمام تساؤلات عريضة من القراء حول العلاقة بين سيرهم وسير شخصياتهم التي تظهر في أعمالهم، فيذكر في وصفه للمحاضرة: «توالت الأسئلة عن مصطفى سعيد، أي نوع من الرجال هو بالضبط؟، هل شخصية مصطفى سعيد انعكاس لشخصيتك أنت؟، هل مصطفى سعيد هو الطيب صالح نفسه؟..إلخ. بل لقد سأل أحدهم عن قصده من اختيار هذا الاسم على وجه التحديد، وهل يرمز «مصطفى» لشيء معين، و«سعيد» لشيء آخر؟.
ويتابع: «لابد أن الطيب صالح سمع مثل هذه الأسئلة مراراً وتكراراً منذ ظهور الرواية للمرة الأولى في 1966، ولابد أنه سئم هذا النوع من الأسئلة بشدة، ولكنه حاول أن يمارس ضبط النفس ورد ردوداً مختلفة عن هذا الأسئلة، ولكنها تقول شيئاً واحداً: «لا، لست مصطفى سعيد، الشخصية مثل سائر شخصيات الرواية من صنع الخيال، طبعاً لابد أن هناك بعض الشبه بين مصطفى سعيد وبيني، أو بينه وبين شخصيات أخرى عرفتها، ولكن أيضاً أشياء كثيرة اخترعتها اختراعاً، لكن ما أهمية هذا الأمر بالضبط؟، أما عن السؤال عن أي نوع من الرجال هو، أو ما الذي يرمز إليه، فالمفروض أن يكون هذا قد ظهر بشكل أو بآخر في الرواية وليس لديّ ما أضيفه إلى ذلك».
يمكن القول إن قراء الرواية أنتجوا من مصطفى سعيد كائناً من دم ولحم، وراحوا يتعاملون على فرض أنه عاش بينهم ذات يوم، وذهب النقاد والدارسون للرواية بعيداً في تحليل شخصية البطل، حتى أن الكثير منهم أفرد له محوراً كاملاً يشخص فيه العلاقة بين العالم العربي والغربي عبر سيرة سعيد، ومنهم من راح يبحث في مرجعيات هذه الشخصية، حتى أن إحدى كاتبات المقالة حول الطيب صالح، كتبت سطرين عن تجربة صالح وواصلت حديثها حول سيرة مصطفى سعيد.
ليس ذلك وحسب، ففي ندوة حول الرواية قدمها الطيب صالح، وقف أحد الحضور شاهراً سؤالاً ملحاً، يسأل فيه: ماذا لو رأيت مصطفى سعيد في الشارع؟، ماذا ستقول له؟ ضحك الطيب صالح حينها، وقال سأقول له: «هاي»، مرحباً، كما قالها في الإنجليزية.
ربما يحق للقراء والنقاد التوقف مطولاً عند سعيد، إذ لا يمثل سعيد بطلاً لرواية تسرد حكاية محاضر جامعي جرب الحياة الأوروبية وعاد إلى بلده محملاً بسلسلة من التناقضات والتساؤلات العريضة، إنما يمثل أبعد من ذلك بكثير، فسيرة هذا الرجل هي عصارة مرحلة تاريخية عرفها السودان وعاشتها العرب في أوروبا، ومر بها الرجل الإفريقي في تاريخ علاقته مع الثقافة الشقراء.
كما تطرح سيرته تساؤلات حول العلاقة مع الغرب ورؤية كل من الشرق للغرب والغرب للشرق، ففي دراسة للكاتب محمد مهيب حول الرواية يقول: «إنّ هذا الكاتب العربي السوداني، في روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» أظهر عبقرية فائقة في فهم ال«أنا» في مفهومها الفردي، وفي مفهومها الجمعي، ال«نحن» مقابل ال هو/ الآخر كذلك في مفهومه الفردي والجمعي.
أي أنّ هذا الفهم الذي أظهره الطيب صالح لم يكن على مستوى الأنا/ الفرد/ الطيب صالح أو بطله مصطفى سعيد «بطل روايته» موسم الهجرة إلى الشمال فحسب، في مقابل الآخر، أي الشخصيات الأخرى في الرواية بما تمثله كل شخصية على مستواها الشخصي، وإنما كان الأنا الجمعية/ السودانيين/ الأفارقة / الشرق العربي / العالم الثالث/ المستعمَر في مقابل الآخر / الغرب / الإمبريالي / المستعمِر. ينصب هذا التحليل في خدمة الرواية وتعميق دلالاتها، إلّا أن مصطفى سعيد لا يسرد كل تلك الدلالات وحسب، وإنما يكشف في عمقه وجذوره، صوراً لشخصيات حية عرفها التاريخ السوداني، فتكتب الباحثة والفنانة البريطانية جريزلدا الطيب مقالاً حول جذور شخصية مصطفى سعيد، وهي من الذين عايشوا مرحلة كتابة الرواية وعرفت الطيب صالح معرفة شخصية.
تقول: «إن مصطفى سعيد الأكاديمي هو شخصية «متكوّنة» من ثلاثة أعضاء في دفعة السودانيين النخبة الذين اختيروا بعناية، وأرسلوا بواسطة الحكومة السودانية عام 1945 لجامعات المملكة المتحدة، وكلهم يمثلون شخصيات بطولية في الوعي الوطني المبكر للسودانيين، أحدهم هو د. سعد الدين فوزي وهو أول سوداني يتخصص في الاقتصاد بجامعة أكسفورد، حيث تزوج فتاة هولندية محترمة ومخلصة وليست شبيهة بالفتيات في الرواية، وحصل على درجة الدكتوراة في عام 1953، وعاد إلى السودان، حيث شغل منصباً أكاديمياً رفيعاً إلى أن توفي بالسرطان عام 1959». وتضيف: «مزج الطيب صالح الشخصيات الثلاث: سعد الدين وحصوله على شهادة بالاقتصاد من أكسفورد والدكتور عبدالله الطيب وتعيينه محاضراً في جامعة لندن».
أما الشخص الأكاديمي السوداني الثالث الذي اقتبس الطيب صالح جزءاً من شخصيته لتمثل الصفة الثالثة عند مصطفى سعيد وهي «الدون جوان»، إلى حد ما، فهو الدكتور أحمد الطيب.
هذا الرجل كان جذاباً وشخصية معقدة ومفكراً رومانسياً، وكما حال الأكاديميين من جيله شغله الصراع النفسي بين حياته الحاضرة وإرثه القديم، كما كان مجروح العواطف ومهشماً بالطموح السياسي ومنافسات الوظيفة لجيله.
http://sudaneseonline.com/board/359/msg/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%A8%D8%A7%D8%AD%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A8%D8%AD%D9%80%D8%B1-%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A9-:-%22-%D9%85%D9%88%D8%B3%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%87%D8%AC%D8%B1%D8%A9-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%85%D8%A7%D9%84-%22-.-1240340121
.html
الأكرم : sikat
تحية طيبة ،،
تمكنك الرجوع غلى الملف الذي ابتدرناه سابقاً :
السباحة في رواية : موسم الهجرة إلى الشمال
وهي في مدونة سودانيزأونلاين
أعلاه : رابطها
وهي فسحة لمن يريد