ذاكرة المنفى

يقال إن الذي يضع الفارق الحاسم ما بين الإنسان والفأر مثلا تمثّل دوما في طبيعة ذاكرة الأول. لم تتطور كثيرا طرق الإيقاع بالفأر، وقد ظلّ جوهرها نفسه قائما هناك، مموّها بفتات الأكل مخفيا طبيعته المميتة القاتلة. أما إذا نظرنا، في هذا السياق، إلى الفروقات القائمة هناك، ما بين (الإنسان الأول)، الذي عاش قبل نحو المليون عام وأُكتشِفَتْ جمجمته أخيرا قرب جبال كليمنجارو في كينيا، وما بين الإنسان الآن (الإنسان الجماهيري)، لرأينا كيف تطورت أدوات هذا الكائن، بفضل طبيعة ذاكرته، وتحولت من طابعها البدائي ذاك، إلى ما يمكن وصفه بمنجزات الثورة العلمية الثالثة.
تلك مقدمة، لا بد منها، في ظني، للاهتمام بما جمعت الذاكرة الجمعية لدينا، خلال العقود الأخيرة، في المنافي هنا وهناك، حتى لا تضيع تجاربنا، في التشتت والترحال واللجوء في بلاد الآخرين، ربما سعيا لأن نرسي تقاليد، قد تفيد وتضيء واقع منفيين من بني واقعنا الطارد نفسه مستقبلا، حتى لا تبدأ رحلة واقع اقتلاعهم عن بيئتهم الأم من فراغ، ويكون لديهم الحصانة التاريخية الكافية والملائمة لمجابهة ما هو أسوأ مجردين في آن من مال ومسكن وشبكة علاقات ولغة.
من جانبي، ليس بعيدا، حاولت إعادة نشر بعض نتاج نشاطي كصحفي، في أثناء وجودي إبان ذروة النشاط المعارض في القاهرة، في مكان مثل الراكوبة، حتى يرى الناس ملامح مما حدث لنا هناك، على مستويات مختلفة، حتى نتبين ربما مآل مزاعمنا تلك “الآن”، حتى يرى النّاس في الوطن ممن لا يزال هناك وأهلكه الحنين جزءا من نشاط أحبتهم في الخارج وكيف كانوا مثلا يحلمون، أو يعانون جوعا وخوفا وتقاعسا على مستوى رؤية القوى السياسية البديلة هنا أو هناك. وذلك نشاط شمل روادا لمقاهي القاهرة، أولئك المشردون الذين يتراقص في أعينهم أمل أنهم لن يموتوا في الخارج ككلب أجرب، وقد تمكن اليأس أحيانا، وتناقص الأمل في النجاة وتحقق التغيير نحو غد أفضل، وهو نشاط كان من ثراء التجربة برغم مرارتها، كي يدرك صاحبه أبعاد مقولة صلاح أحمد إبراهيم: “رباهُ: إن ما هو أشد من الألم، ومن التعبير عن الألم، ألا وهو التصميم على الوصول”.
لقد حدثت أشياء عديدة لهذا الإنسان من السودان في الخارج ولا بد أن يراها الناس عبر مسافة زمنية ما ربما حتى يدركوا “ما هم؟!”.
عبدالحميد البرنس
[email][email protected][/email]
رحلت وجيت فى بعدك لقيت كل الارض منفى ….من عبقريات التجانى سعيد ووردى