حوارات البناء: مفتاح إعادة تأسيس السودان

في زمن تتقاذف فيه أمواج التحديات العاتية سفينة وطننا العزيز، تبرز الحاجة الماسة إلى روح الحوار والتفاهم كمنارات هداية تضيء درب الخروج من دوامة الأزمات. هذا المقال ليس مجرد تبادل للأفكار بيني والرفيق طارق ميرغني كانت قد بدأت في تعليقاتنا المتبادلة حول القضايا العامة و تطرقنا لبعض الآراء التي اردت ان انقلها للفضاء العام لنفسح مساحة أكبر للتواصل حولها ، فأصبحت رسالة تحمل في طياتها دعوة صادقة لإشعال شعلة النقاش الهادف والبنّاء، بعيدًا عن مستنقع التخوين والأحكام المسبقة. إنها محاولة لاستشراف آفاق جديدة تمكننا من إعادة تأسيس دولتنا الحبيبة، تلك التي تئن تحت وطأة الأمراض السياسية المزمنة والفتاكة التي تعيق تقدمها وتؤثر سلبًا على بنيتها الاقتصادية، السياسية، الثقافية، والاجتماعية. هي دعوة للتأمل والعمل معًا من أجل مستقبل يسوده العدل والمساواة ويحتفي بثراء التنوع الذي يزخر به وطننا.
حينما تتشابك خيوط التاريخ بمصائر الشعوب والأمم، يبرز نقاش عميق يتجاوز حدود الزمان والمكان، يناقش جذور الصراعات التي شكلت وجه هذه الأمة. يعود هذا النقاش إلى النخب المركزية، تلك الجماعات التي استلمت دفة الحكم عقب رحيل المستعمر، ومن ثم أصبحت تحتكر الثروة والسلطة، مستخدمةً أدوات القوة العسكرية والأمنية والاقتصادية لتمرير إرادتها عبر الأجيال. لطالما تبدلت الوجوه والأسماء – من عبود إلى البشير – لكن السيناريو ظل كما هو، دون تغيير يُذكر. هذه السيطرة المستمرة على مقدرات الدولة، والتي تتميز بالحصرية والإقصاء، لم تعد تقبل بالصمت أو التجاهل. الحروب والنزاعات التي أشعلتها هذه النخبة كشفت عن واقع مرير، حيث الموت لا يفرق بين قبيلة أو أخرى، بين منطقة أو أخرى، فالجميع سواء في مواجهة المأساة. الحقيقة التي تفرض نفسها بقوة، والتي لا يمكن تجاهلها، هي أن الجنوبيين، بفطنتهم وحكمتهم، أدركوا مبكرًا ألاعيب هذه النخبة وقرروا اتخاذ مسار مختلف. هذا الإدراك يُعد درسًا قاسيًا لنا جميعًا، حيث يجب أن نعيد تقييم نهجنا وسياساتنا التي طالما سعينا من خلالها لإصلاح ما هو مصمم لعدم الإصلاح. إن السبيل إلى بناء دولة تقوم على أسس العدالة والمواطنة يتطلب منا جميعًا إعادة التفكير في طريقة تعاملنا مع السلطة والثروة. يجب أن نتجاوز سياسات “فرق تسد” التي استمرت لعقود طويلة وأن نسعى نحو تبني نموذج يضمن المساواة والعدالة لكل المواطنين. لقد آن الأوان لنعترف بأن المشكلة ليست في الكيزان وحدهم، بل في النظام الذي سمح بترسيخ هذه السيطرة النخبوية على مر السنين. يجب علينا العمل معًا لبناء دولة فدرالية حقيقية، تقوم على توزيع عادل للثروة والسلطة، بعيدًا عن التمييز والإقصاء. هذه الدولة يجب أن تكون محصنة ضد تكرار أخطاء الماضي، مبنية على أسس التنمية المستدامة والشاملة التي تستفيد منها جميع الأقاليم وجميع المواطنين دون استثناء. التحدي الذي يواجهنا ليس بالهين، إذ يتطلب إرادة قوية وجهودًا جماعية لإزالة العوائق التي تعترض طريق العدالة والمساواة. من خلال الحوار الصريح والبناء، يمكننا فتح آفاق جديدة للتفاهم والتعاون بين جميع الفئات والجماعات داخل المجتمع. يتطلب هذا النهج التكاملي استيعابًا للتاريخ والعوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للصراعات، والعمل على معالجة الأسباب الجذرية للمشكلات التي تواجهنا. من خلال الاستماع إلى تجارب وشهادات الأشخاص المتأثرين بالصراع مباشرة، يمكننا تطوير فهم أعمق للتحديات التي تواجهها مجتمعاتنا والبحث عن حلول مبتكرة تلبي احتياجاتهم وتطلعاتهم. يجب أن نسعى إلى بناء منظومة قوية تضمن العدالة للجميع، وتحقق التنمية المستدامة والشاملة التي تعود بالنفع على كل مواطن دون تمييز. إن الطريق نحو دولة العدالة والمساواة لن يكون سهلًا، ولكن بالعزيمة والتصميم يمكننا تحقيق هذا الحلم. يتطلب منا الأمر العمل الجاد والمستمر، والإيمان بأن التغيير ممكن إذا تحدنا الصعاب معًا وسعينا بكل جهد لبناء مستقبل أفضل للأجيال القادمة. دعونا ننظر إلى الواقع بواقعية وشجاعة، معترفين بالأخطاء الماضية وملتزمين بعدم تكرارها. دعونا نتخطى الانقسامات ونعمل معًا من أجل بناء دولة تعترف بقيمة كل فرد وتحترم حقوق الإنسان وتضمن للجميع حياة كريمة ومتساوية. إن بناء هذه الدولة ليس فقط واجبًا علينا تجاه أنفسنا وتجاه بلدنا، ولكنه أيضًا الضمان الوحيد لمستقبل مستقر ومزدهر للسودان. الطريق أمامنا واضح وطويل، ولكنه ممكن إذا تحلينا بالإرادة والتعاون. علينا أن نستلهم من تجارب الشعوب التي نجحت في تجاوز خلافاتها وصراعاتها وبناء مجتمعات متماسكة ومزدهرة، معتمدين على الحوار والتفاهم المتبادل كأساس للتقدم. التحدي الأكبر الذي يواجهنا هو تغيير العقليات والنظرة إلى الحكم وإدارة الموارد، حيث يجب أن يكون الهدف هو الرفاهية العامة وليس مصلحة فئة قليلة. يتطلب هذا إعادة هيكلة النظام السياسي والاقتصادي بحيث يصبح أكثر شمولية وعدالة، ويعترف بالتنوع كثروة وليس كعائق. لن يتحقق هذا دون مشاركة فعالة من جميع فئات المجتمع، بما في ذلك الشباب والنساء والمجموعات المهمشة، في عملية صنع القرار. يجب أن يكون للجميع صوت في تحديد مستقبل السودان، وأن تكون العملية الديمقراطية وسيلة لتحقيق العدالة والمساواة للجميع. بناء دولة العدالة والمساواة يتطلب أيضًا مواجهة التحديات الاقتصادية والتنموية بجدية وإبداع. يجب أن تكون التنمية موزعة بشكل عادل في جميع الأقاليم، مع التركيز على بناء البنية التحتية، تحسين الخدمات العامة، وتوفير فرص العمل والتعليم للجميع. إن الطريق نحو مستقبل أفضل يتطلب الصبر والتفاني والعمل الشاق، لكن الجائزة – دولة يعيش فيها الجميع بسلام وكرامة ومساواة – تستحق كل جهد. دعونا نتحد سويًا في رؤية مشتركة لمستقبل السودان، حيث تتلاشى الصراعات وتزدهر العدالة والمساواة لتكون الأساس الذي نبني عليه مجتمعنا ودولتنا. لنجعل من هذا الحلم حقيقة من خلال العمل المشترك، متجاوزين الخلافات ومواجهين التحديات بشجاعة وإيمان بقدرتنا على التغيير. السودان بحاجة إلى كل واحد منا، وكل خطوة نتخذها نحو العدالة والمساواة تقربنا أكثر من تحقيق وطن يسع الجميع.